ملخص
كتاب جديد يؤرخ للدفاتر في رحلتها مع البشر، وتلك قصة الأوراق والملاحظات
من أكثر النصائح شيوعاً في كتب تقنيات الكتابة وورش تعليمها، وما أكثرها في هذه الأيام، نصيحة تتعلق بالدفاتر، إذ تقترح النصيحة على الكاتب المبتدئ، أو الطامح، أن يحتفظ دائماً بدفتر يكون قريباً منه، مصاحباً له في حله وترحاله. وليس ذلك لأن لحظة ستأتي وتكون فيها حياة الكاتب معلقة بهذا الدفتر، أو نجاحه، وإنما لأن ما تغرزه غالب هذه الكتب والورش في نفوس الكتاب المبتدئين هو أن الكتابة عمل، وأن هذا العمل يستوجب أن يدون في دفتره هذا ما يخطر له من أفكار، وما يصادفه في طريقه مما يستحق التدوين، فقد يكون لافتة، أو وصفاً، أو اسماً، أو شذرة دالة من حوار يسمعه عرضاً. والغاية من ذلك ألا يكون الكاتب تحت رحمة ذاكرته. فبوسعه، بل يجب عليه أن يرجع إلى هذه الدفاتر بين الحين والآخر ليتصفحها، فيجد فيها حتماً ما يصلح للاستعمال في رواية يكتبها، إن لم يحالفه الحظ ويجد فكرة رواية أو عنوان رواية أو توشية ما لرواية. ونعم، دائماً يتعلق الأمر في غالب هذه الكتب والورش برواية.
لكن الدفاتر أيضاً صديقة للشعراء، فقد كتب الأميركي تشارلز سيميك أنه ظل طوال حياته لصيقاً بالدفاتر، خصوصاً دفتراً على الطاولة المجاورة لسريره يحرص أن يجعله أول ما يبدأ به يومه: يفتح الدفتر، ويدون فور أن يفتح عينيه ما بقي لديه من أحلامه. غير أنه في دفاتره الأخرى كان ينقل ما يروق له من عبارات يصادفها في كتب، أو أفكار تخطر له، أو تعليقات ساخرة على أي شيء. وفي هذه الدفاتر جميعاً كان يجد قصائده ومقالاته.
سحر "القرطاسية"
غير أن الدفاتر ليست حكراً على الروائيين والشعراء، والصحافيين بلا شك، وكل من يعمل عملاً له علاقة بالكلمات. فهي أيضاً جزء من أدوات الطبيب شأن السماعة والمبضع، ومن أدوات العالم شأن المجهر والأنابيب، ومن أدوات ضابط الشرطة شأن القيد والمسدس. ولعلها رفيقة وأداة لغالب الناس في غالب المهن، بل إن ثمة كتاباً صدر حديثاً ويذهب إلى أن الدفتر كان حليفاً للحضارة نفسها وأداة من أدواتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك الكتاب يؤرخ للدفاتر في رحلتها مع البشر، وعنوانه بطبيعة الحال هو "الدفتر"، لكن له عنواناً فرعياً آسراً هو "تاريخ التفكير على الورق" للكاتب رولاند آلن، وقد صدر الكتاب في 416 صفحة، واختارته "نيوستيتسمان" و"ووتر ستونز" و"سبكتيتور" أفضل كتاب في عام 2023، ومؤلفه رولاند آلن ناشر ومؤلف يعمل في مجال النشر، ويكتب في نطاق واسع من المواضيع، إذ تناول في مؤلفات سابقة له الدراجات والخبز. ويشير موقعه الشخصي على الإنترنت إلى أنه مشغول حالياً بكتاب يؤلفه عن الإبداعية.
جاء استعراض توماس هودجكينسن ["تليغراف" - الـ26 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023] تحت عنوان "هل تحب التدوين في الدفاتر؟ لعلك عبقري". ولعل وتر المحبة الذي يلمسه السؤال في نفس قارئ هذا العنوان أعظم أثراً من وتر النرجسية الذي يداعبه الجواب. فالذين يحبون الدفاتر - وأنا منهم - لا يفهمون في الغالب سبباً لهذا الحب. لماذا حقاً هذا الولع بها، وبكثير من الأدوات المكتبية - أو القرطاسية كما يقال في بعض الدول العربية - مع أننا لا نكاد نحتاج إليها؟ لماذا نكدس في أدراجنا وعلى طاولاتنا الدفاتر والأقلام والورق اللاصق ومشابك الورق وغيرها كثير، في حين أننا ندون أكثر ما ندون بأصواتنا في رسائل نبعثها لأنفسنا عبر "واتساب" أو غيره من التطبيقات؟ لماذا تبقى متاجر بيع هذه الأدوات مغرية لنا؟ ولماذا نقضي في القسم المخصص لها من السوق وقتاً نعرف أننا لا نستطيع أن نسوغه لزوجاتنا؟
في استعراضه للكتاب ["غارديان" – الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2023]، يمدنا سوخديف ساندو بمزيد من الأمثلة لمشاهير مستعملي الدفاتر. "لقد كان [الشاعر الفرنسي] بول فاليري متفانياً في دفاتره تفانيه في الشعر الرمزي الذي اشتهر به. فكان يستيقظ في وقت مبكر من كل يوم على مدى نصف قرن ليكتب فيها، حتى تراكم عنده 261 دفتراً"، ثم أتى عليه حين من الدهر فقال "أما وأنني كرست كل تلك الساعات لحياة العقل، فإن لي الحق في أن أعيش غبياً لما بقي من حياتي".
"ولعل أكثر المشاهير ارتباطاً بالدفاتر هو ليوناردو دافينشي، فقد كان يدون أفكاراً ويخطط لرسومات كل يوم تقريباً. فملأ آلاف الصفحات بمخططات الأمواج والفقاقيع والدوامات، وتصميمات المضخات والصمامات والأفران والمطاحن، والرسوم الناجمة عن ملاحظات دقيقة لذقون وفقرات عظمية وعظام أقدام، كما أعد قوائم إحداها من 67 كلمة لوصف الطرق المختلفة التي يتحرك بها الماء. واستكشف الهندسة والتشريح والميكانيكا واللون نفسه".
يستهل هودجكينسن استعراضه الكتاب قائلاً "إنني أكتب حالياً رواية عن كاتب مهووس بتدوين الملاحظات. والمشكلة أنني أراني أنفق كثيراً جداً من الوقت في تدوين ملاحظات عن الرواية ولا أنفق ما يكفي من الوقت لكتابة الرواية نفسها. وقد يكون من الصعب كسر هذه الحلقة، ولكن مثلما يبين رولاند آلن في كتابه المتلاحق الآسر الذي يؤرخ فيه للدفتر - والذي ملأت هوامشه بالتعليقات والملاحظات - فإنه لا ينبغي الخجل من عادة تدوين الملاحظات، بل على العكس من ذلك، فقد كانت تلك العادة من العادات التي غيرت الحضارة وقدمت فيها إسهاماً غير محدود".
مفكرة هاملت
يذهب رولاند آلن إلى أن الدفاتر أسهمت في دعم أطوار حضارية أساسية منها الرأسمالية وعصر النهضة والمسرح الإليزابيثي، وذلك لأن "الرأسمالية تلقت دفعة من استحداث الدفاتر الورقية وإتاحتها في فلورنسا بالقرن الـ13 مما يسر مسك الدفاتر [أي تدوين الحسابات]. وولد عصر النهضة من رحم دفاتر الرسم التي أتاحت للفنانين أداة للتحضير والإنجاز وصولاً إلى مستوى جديد من الواقعية. والمسرح الإليزابيثي أيضاً يدين بالفضل لتدوين الملاحظات".
يكتب هودجكينسن أن آلن جعل من كتابه ذاته دفتراً من نوع ما، "إذ ملأه بمجموعة رائعة من الأفكار والحكايات المحاطة بزخارف أقلام ورسوم فضلاً عن صفحات ختامية مسطورة لخلق انطباع الدفتر. يقول آلن إن الدفاتر عززت الصداقة، من خلال ما يعرف بـ(ألبا أميكورم) alba amicorum، أي (كتاب الصداقة)"، وهو سلف لما يعرف بالأوتوغراف الذي ربما صار هو الآخر في ذمة الماضي. وكان الهولنديون يستعملون كتاب الصداقة في القرن الـ17 لإظهار مشاعرهم تجاه بعضهم بعضاً برسوم أو أبيات يوقعون عليها، كما ساعدت الدفاتر البشر في صدماتهم إذ يسرت لهم تدوين ذكرياتهم ومشاعرهم، كما يسرت العمل لبعض من أعظم كتاب العصر الحديث.
ففي عام 1956، كان إرنست همنغواي يذوي، وقد فعلت فيه عقود من الشرب فعلها، وخلال غداء - وسكر بلا شك - في فندق بباريس، قال مالك الفندق للروائي إنهم عثروا على حقيبة قديمة له في القبو. لم يتذكر همنغواي أنه تركها هناك. فجاءوا بالحقيبة وفتحوها وعثروا على قوائم ومذكرات وإيصالات وقسائم سباقات ومعدات تزلج وصيد سمك وحزمتين من الدفاتر القديمة منذ أن كان كاتباً شاباً مقيماً في باريس في عشرينيات القرن الـ20. قال همنغواي في سرور "الدفاتر! كانت هنا إذاً! أخيراً". واستعمل ملاحظات تلك الدفاتر في تأليف كتابه القيم الأخير وهو "وليمة متنقلة".
ويلتفت هودجكينسن إلى مشهد من مسرحية "هاملت" لوليم شكسبير فيه إشارة مهمة إلى الدفتر. يكتب أن "شهرة هذه المسرحية تقوم ولو جزئياً على طريقتها في مسرحة التفكير. ولا نرى هذا فقط في مشاهد المناجاة ولكن عندما يصيح البطل قائلاً: أين مفكرتي حتى أسجل فيها أن المرء قد يبتسم ثم يبتسم، وهو لئيم خبيث؟".
قد تبدو كلمة "المفكرة" هنا غريبة على شكسبير وهاملت ومسرح ذلك العصر كله، لكنها الكلمة الواردة في ترجمة المسرحية كما أصدرتها دار المعارف المصرية (ومن أسف أن نسختها المقرصنة على الإنترنت لا تثبت اسم المترجم)، أما خليل مطران فيترجم الجملة نفسها قائلاً "إلي قرطاسي. سأنقش فيه أن المرء يستطيع التبسم ما شاء التبسم، وهو مجرم أثيم". ما بين "المفكرة" و"القرطاس" هوة عظيمة، والكلمة التي يستعملها شكسبير في مثل هذا الموضع من الأصل هي tables التي يوشك من يقرأها اليوم ألا يفهم منها غير الطاولات فإن زاد على ذلك فالألواح، لكن الكلمة في العهد الإليزابيثي تشير - بحسب مقال هودجكينسن - إلى "نوع من الدفاتر الشائعة. وفيما يقول هاملت تلك الكلمات يتناول دفتره ويدون فيه. فيمنحنا بذلك صورة تنافس الإنسان ذا الجمجمة، وهي صورة الإنسان ذي الدفتر".
لدى هودجكينسن في ما سبق إشارتان مهمتان، الأولى هي أن مسرحية هاملت تدين بشيء من شهرتها إلى مسرحة التفكير، والثانية أن تدوين هاملت في دفتره يعطينا صورة لإنسان ودفتر تنافس صورة الإنسان ذي الجمجمة. وكلتا الإشارتين تكشف عن جانب مهم من قيمة "الدفتر"، وجانب مهم من كتاب رولاند آلن.
فالحق أن استعمال هاملت دفتره في تدوين خاطرته، واستعمال همنغواي دفاتره القديمة في تأليف وليمته يمثلان "استعمالاً جوهرياً، وثانوياً، للدفتر بوصفه ذاكرة معاونة يمكن الرجوع إليها، لكن ماذا عن الاستعمال الأساس؟ الاستعمال الأساس هو التدوين، والتدوين يستوجب الانتقاء وصياغة المعلومات. أي إنه - بعبارة أخرى - جزء من عملية التفكير. فتدوين هاملت في دفتره هو تفكير هاملت".
يقول هودجكينسن إن "آلن لا يلتفت إلى هذا الجانب إلا في صفحات كتابه الأخيرة، حينما يركز على بحث فلسفي بعنوان (العقل الخارجي) نشر عام 1999 لآندي كلارك وديفيد تشالمرز. ويذهب هذا البحث - وهو الأكثر استشهاداً في التسعينيات - إلى أن الدفاتر امتدادات فعلية للمخ. غير أن النظر إلى التدوين بوصفه طوراً من أطوار التفكير لا يحظى بالتقدير الكافي - ويمكن قول مثل ذلك عن الحديث - وهذه هي تيمة كتاب آلن الجوهرية. فالعنوان الفرعي للكتاب يصف التدوين بـ"التفكير على الورق". ويشير إلى وعي المؤلف التام بهذا، وهذا مما يزيد من غرابة تأخره في تناول هذه الفكرة".
"ومع ذلك فقد أنتج كتاباً جيداً في موضوع رائع، وماكر أيضاً. وسيشعر كتاب مراجعات الكتب بالذات - بما أنهم مدونو ملاحظات مخلصون - أنهم منجذبون إليه".
ينقل سوخديف ساندو عن الموسيقي والفنان البريطاني بريان إنو قوله إن "كلمة الدفتر [أي Notebook الإنجليزية بالطبع] مؤلفة من الحروف الأولى لعبارة ترجمتها "لا شيء على وجه الأرض يفضح شخصيتك هكذا". صحيح أن إنو اضطر إلى أن يبدأ الكلمة الإنجليزية التي تعني (الشخصية) بحرف k بدلاً من ch، لكن ملاحظته الطريفة قد تكون بالغة الدقة. ورولاند آلن يؤكد هذه السمة الدفترية بقوله "لو أن عملك هو الكلمات، فقد يكون الدفتر في الآن نفسه وسيطاً لك، ومرآة".
بحثاً عن البطء
وليست قدرة الدفاتر على فضح أصحابها مقصورة - كما قد يتبادر إلى الذهن - على دفاتر اليوميات أو المذكرات التي يباع بعضها مزوداً بأقفال صغيرة، أو الدفاتر التي ينقب عنها موظفو الضرائب ويستنطقونها استنطاقاً فتشهد على أصحابها في الدنيا قبل أن تشهد عليهم في الآخرة أيديهم وأرجلهم وجوارحهم جميعاً، ولكن الدفاتر بعامة عندها هذه القدرة، وهل أفضح لشاعر من الدفتر الصغير الذي شهد الكتابة الأولى لقصيدة له لم يتحرج فيها أن يضحي بانضباط البحر أو اعتلال القافية طلباً لقنص المعنى أو الصورة، مرجئاً الضبط والتعديل لمسودة تالية؟ وهل أفضح لروائي من دفتره الذي تدفقت فيه أولى الكلمات تدفقاً فزل قلمه وكتب اسم الشخصية الحقيقي الذي سيطارده في كل مسودات الرواية التالية بالطمس والتعديل؟
ينقل رولاند آلن عن ماغدلينا فان شاين الهولندية التي عاشت في القرن الـ18 استهلالها يومياتها بقولها "ها هنا يتسنى لي أن أهرق روحي إهراقاً"، ولكن الفضح إلى درجة إراقة الروح على الورق ليس سمة أصيلة في جميع الدفاتر، ففي الكتاب "فصل يناقش كيفية التلاعب في كثير من الأحيان بدفاتر الشرطة، واختلاق المعلومات فيها، أو حجب البعض منها". وعلى رغم سوء سمعة دفاتر الشرطة ربما في جميع أرجاء الأرض، فهي ليست الدفاتر الوحيدة الجديرة بالشك وسوء السمعة، فالدفاتر الحكومية بعامة جديرة بمشاركتها هذه المكانة، منذ أن كانت لفائف بردي أو رقائق من الجلد أو نحتاً غائراً في الحجر.
يقول سوخديف ساندو إن آلن واقع في غرام الدفاتر، "ولا عجب، فهو نفسه كاتب؟". فلعل كون المرء كاتباً مسوغ كاف للغرام بالدفاتر، لكن آلن يؤكد في كتابه مستنداً إلى أدلة أن الاحتفاظ بدفتر ملاحظات وقلم هو أفضل وسيلة لمعالجة المعلومات والاحتفاظ بها، وأن بوسعه أن يقي من الاكتئاب، وأن يكون بمثابة أداة علاجية لمن يعانون اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
وفي فصل جميل عنوانه "بحثاً عن زمن البطء" يوجه آلن تحية للممرضات الدنماركيات في وحدات الرعاية المركزة، اللاتي يبدأن سجلات يوميات المرضى بوصف تفصيلي للتغيرات الجسدية والتطورات التي تطرأ على مرضاهن من رجال أو نساء أجهز المرض على إحساسهم بأجسادهم وأنفسهم. ويقول إن "هذا الانتباه، والتركيز، والكتابة باليد، هو، ببساطة، الحب".
قد يتغير شكل الدفتر وخامته، قد يتحول من ورق ملموس مادي وشكل من أشكال "المعرفة المتجسدة" إلى أثير لا إمساك به، لكنه يبقى بصورة أو بأخرى حاضراً، مستودعاً للأفكار، والأسرار، صاحباً لا يخشى غدره، رفيقاً للوحيد في السفر أو الليل. قد يكون حقاً أداة من أدوات الحضارة، أو لا يكون، لكنه بلا شك، أداة باقية في أيدينا لاحتمال الحضارة، وركن نلوذ إليه منها.
عنوان الكتاب: THE NOTEBOOK: A history of thinking on paper
تأليف: Roland Allen
الناشر: Profile