ملخص
عودة موجة الانقلابات العسكرية للقارة السمراء، لم تبدأ عام 2023، إذ وقعت انقلابات عدة في السنوات الماضية
لا شك أن العالم سيتذكر عام 2023، باعتباره عام عودة الانقلابات العسكرية في القارة السمراء، إذ في منتصفه (تحديداً في يوليو "تموز") احتجز أفراد من الحرس الرئاسي الرئيس النيجري محمد بازوم في القصر الرئاسي بنيامي، وأعلنوا على التلفزيون الرسمي إنهاء حكمه، بحجة إنهاء "الوضع الأمني المتدهور وسوء الحوكمة".
وعلى رغم الرفض الدولي، بخاصة الاتحاد الأفريقي، وإنذار باريس الانقلابيين بالعودة عن قرارهم، وعودة بازوم للحكم، فإن المجلس العسكري، الذي تشكل عقب العملية الانقلابية أعلن بعد أيام قليلة تنصيب قائد قوات الحرس الرئاسي عبدالرحمن تشياني رئيساً جديداً للبلاد، مما أثار مخاوف القوى الغربية، التي ظلت تعتبر نيامي حليفاً رئيساً لها في المنطقة، لا سيما في قضايا الإرهاب والجريمة المنظمة في الساحل الأفريقي، علاوة على تأثير ذلك في المصالح الاقتصادية والتجارية للقوى الكبرى، لا سيما فرنسا التي تعتمد على نيامي في توفير المواد الخام من يورانيوم وغيره من المواد لصناعاتها الثقيلة.
الغابون
وبعد نحو شهر على انقلاب النيجر، أعلنت مجموعة من كبار ضباط الجيش في الغابون، احتجاز الرئيس علي بونغو، بعد دقائق من إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية لعهدة ثالثة، وأعلن الانقلابيون إلغاء نتائج الانتخابات، مؤكدين "أنها لم تستوف شروط الاقتراع الشفاف"، متهمين نظامه بأنه يكرس "حكماً غير مسؤول تسبب في تدهور مستمر للتماسك الاجتماعي، مما قد يؤدي إلى دخول البلاد في حالة من الفوضى". وقال بيان الانقلابيين "قررنا باسم الشعب الغابوني الدفاع عن السلام من خلال إنهاء النظام القائم".
في حين أعلنوا في وقت لاحق تعيين قائد الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغيما "رئيسا للمرحلة الانتقالية". والواقع أن عودة موجة الانقلابات العسكرية للقارة السمراء لم تبدأ عام 2023، إذ وقعت انقلابات عدة في السنوات الماضية، فوصل عدد الانقلابات التي شهدتها منطقة غرب ووسط أفريقيا منذ 2020 إلى ثمانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذلك بعد أن قطعت المنطقة شوطاً كبيراً خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، للتخلص من تيار التغيير المسلح، وتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة، بخاصة بعد تبني الاتحاد الأفريقي مبدأ "عدم الاعتراف بأي نظام يأتي بالانقلاب العسكري"، وبروز تجارب ديمقراطية محدودة في القارة السمراء.
ما خلف الموجة
وبعيداً من الأسباب الرئيسة لهذه الانقلابات ودلالات تزامنها، الذي يشي بعودة القارة الأفريقية إلى حقبة الستينيات والسبعينيات، إذ شهدت القارة عشرات المحاولات الانقلابية، فإن ثمة أسئلة ملحة يطرحها المراقبون للشأن الأفريقي حول توجهات الأنظمة الانقلابية، وما إذا كانت جادة في وعودها حول الانتقال الديمقراطي، وتسليم السلطة لحكومة منتخبة، والحفاظ على السيادة والثروات الوطنية، أم أن الأمر يتعلق بأطماع الاستيلاء على السلطة، من خلال استغلال الوضع الاقتصادي والسياسي المتأزم، الذي خلفته الأنظمة السابقة؟ وهل تتحرك الأنظمة الجديدة بالفعل نحو الأهداف التي أعلنتها في بياناتها الأولى، وما أهم المؤشرات خلال الأشهر التي أعقبت الانقلابات، بخاصة بعد مضي أشهر عدة على تلك الموجة العارمة؟
يرى محمد أغ إسماعيل، الباحث المالي في العلوم السياسية، أن عودة موجة الانقلابات العسكرية في غرب القارة السمراء يشير إلى "أن ثمة فشلاً في مشاريع الدولة الوطنية" في هذه المنطقة، فضلاً عن عجز الأنظمة الحاكمة منذ الاستقلال، في إرساء تجارب ديمقراطية، مما أدى إلى تآكل شرعيتها، من ثم فتح الباب واسعاً للطامعين من ضباط الجيش للتدخل وإنهاء حكمها.
ويؤكد أن تطبيق الديمقراطية يتطلب توافر شروط عدة، أهمها "بناء مقومات الدولة الوطنية، بشقيها السياسي من جهة التداول السلمي للسلطة، وضمان الرقابة على الجهات التنفيذية، وإرساء الحريات العامة والفردية، والشق الثاني المتمثل في ضمان الاستقرار الاقتصادي، عبر مشاريع التنمية المستدامة، واستخراج الثروات الوطنية، وضمان التوزيع العادل لها، إذ لا يمكن تصور إرساء دعائم الديمقراطية من دون تحقيق التنمية الاقتصادية".
ويضيف إسماعيل لقد "أثبتت التجارب أن التنمية الاقتصادية شرط أساس للاستقرار السياسي، كما أن لكل بيئة سياسية واجتماعية سياقاً مختلفاً عن الأخرى". ويستطرد "عند قراءة أسباب الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة غرب أفريقيا لا ينبغي إغفال الدور الخارجي، إذ إن جزءاً من تفسير هذه الظاهرة يأتي كأحد التداعيات الناتجة من التدخلات الأجنبية، والتنافس الغربي الروسي والغربي الصيني".
وفي رده على سؤال يتعلق بدلالات التزامن بين حالة وأخرى، وهل امتداد هذه الانقلابات من دولة لأخرى يعد بمثابة "عدوى انقلابية" تنتقل بشكل سريع؟ يجيب المتخصص في الشأن الأفريقي "صحيح أن لكل حالة أسبابها الخاصة وسياقها السياسي والتاريخي، إلا أن جميعها تلتقي في نقاط مشتركة تتمثل في غياب الديمقراطية وانتشار الفساد المالي والاداري، من ثم فإن نجاح عدد من الانقلابيين في دولة ما في الاستيلاء على السلطة قد أسهم في تشجيع ضباط في دول أخرى، مما يمكن اعتبارها بالفعل بمثابة عدوى تخضع لأحكام (الدومينو) في ظل تشابه الحالات وفشل الأنظمة المتعاقبة في تحقيق الديمقراطية والحكم الراشد، فضلاً عن عجزها عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وعلى رأسها الأمن والتنمية".
ما بعد الانقلاب
وفي قراءته الأوضاع الراهنة ما بعد الانقلاب، يرى الباحث المالي محمد أغ إسماعيل "أن الأنظمة الانقلابية قد نجحت نسبياً في إقناع الشارع بما بات يسمى استعادة السيادة الوطنية والاعتماد على الذات ورفض الإملاءات الغربية".
وينوه "على رغم تلك الشعارات الفضفاضة، التي قد تستهوي الشارع الأفريقي، المتطلع إلى التحرر من تحكم الأنظمة الغربية في ثرواته ومقدرات البلاد، فإن من المهم الانتباه إلى أن الأنظمة الجديدة في الوقت ذاته، تبدو متقبلة الإملاءات الروسية، من أجل تثبيت حكمها وبقائها في السلطة لأطول فترة ممكنة".
ويضيف "لقد أسهم الدعم الروسي في تحقيق بعض الإنجازات في هذا الشأن كالتخلي عن الاتفاقات الأمنية مع فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك إعادة السيادة ولو بشكل رمزي على بعض المناطق، كما هي الحال بمدينة كيدال في مالي".
إلا أن كل المؤشرات توحي بأن هذه الأنظمة بحسب قراءته تفشل أمام التحدي الرئيس المتعلق بالديمقراطية، إذ إنها ما فتئت تكرس شكلاً جديداً من الاستبداد السياسي، لدرجة أنها تسعى إلى إقناع العوام بعدم أهمية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، باعتبارها شكلاً من أشكال الخضوع للخارج وللمستعمر السابق، بدليل أنها ترفض الكشف عن جدول زمني للفترة الانتقالية، ولإعادة السلطة للمدنيين، على رغم الوعود السابقة بتحقيق هذا الهدف، فلا يزال العسكريون في النيجر وبوركينافاسو يرفضان الحديث عن أي إجراء للانتخابات.
ويقدر إسماعيل الوضع الحالي في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية غرب القارة الأفريقية، بأنها نسخة جديدة من الاستبداد، يتم فيها اعتقال المعارضين، ورفض الحديث عن أي استحقاقات انتخابية، فيما يغيب الأمن ويتعرض المستثمرون للابتزاز، وتتعرض البلاد ككل للعزلة الدولية.
نحو استبداد مضاد
في المقابل، يرى الصحافي الغابوني جوزيف ليون، أن الأوضاع التي أعقبت الانقلاب العسكري في بلاده، ترسي قواعد أكثر استبداداً من النظام السابق، إذ إن أي شخص يقدم رؤية مغايرة للحكم الراهن يتهم بموالاة النظام البائد، فضلاً عن ملاحقته بتهم الخيانة والولاء للخارج.
ويشير إلى أن ثمة مفارقات سياسية تسترعي انتباه أي مراقب للوضع السياسي الغابوني، إذ إن العسكريين الذين خدموا لأربعة عقود تحت إمرة النظام السابق أصبحوا الآن يملكون حق إدانة السياسيين الذين عارضوا النظام ذاته لأربعة عقود مضت، والمفارقة أن التهم غالباً ما توجه بارتباطهم بالنظام البائد.
ويضيف ليون أن أحد أصعب التحديات أن الشعب الغابوني الذي ظل يتوق إلى التغيير بأي ثمن، بعد نصف قرن من الاستبداد، يبدو أنه يعلق آمالاً عريضة على الحكام الجدد، لجهة الشعارات التي يطلقونها، من ثم يمنحهم نوعاً من الشرعية.
ويتابع "أعتقد أنها شرعية انتقامية، بمعنى أن العامة تدعم النظام الجديد انتقاماً من النظام السابق" دون الانتباه أن النظام العسكري يسعى إلى إعادة إنتاج ممارسات النظام السابق، بوسائل أكثر استبداداً من سلفه، مما يشير إلى أن الوضع ماض نحو استبداد مضاد.
ويدلل على ذلك بمؤشرات عدة أهمها "تغييب دور المؤسسات السياسية، وتركز السلطات الثلاث في يد الجهة التنفيذية، من خلال التغول على صلاحيات السلطة التشريعية والقضائية، فضلاً عن عدم تحديد مدة الفترة الانتقالية، والامتناع عن إعلان مواعيد محددة لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية".
ويشير الصحافي الغابوني إلى أن خطورة الوضع القائم في بلاده أنه يرتكز على "تخوين المعارضة، وفتح الإعلام الرسمي، أمام الجهات الأكثر تطرفاً وشعبوية" فضلاً عن غياب "رؤية واضحة للمستقبل" سواء على المستويين السياسي والاقتصادي.
ويردف "على رغم أن النظام السابق يعد من أكثر الأنظمة فساداً، إذ بدد ثروات البلاد ورهن مستقبلها لصالح دائرة ضيقة من المنتفعين، فإن النظام الراهن لم يقدم حلولاً واقعية لتلك الأزمات المزمنة، بل أسهم في تقليص هوامش الحرية، وضاعف الأزمة الاقتصادية القائمة، بإدخاله البلاد في عزلة عن العالم الخارجي"، مؤكداً أن الشعبية النسبية التي حصل عليها الانقلابيون نتيجة السخط الشعبي من نظام آل بونغو لن تستمر طويلاً، إذا ما استمرت السياسات التي يتبعها نظام أوليغي العسكري.
ويختم "إن البديل الوحيد لثنائية الاستبداد والعسكر يكمن في منح الغابونيين حقهم الشرعي في اختيار من يحكمهم، بإنهاء المرحلة الانتقالية، عبر تنظيم انتخابات شفافة، بمراقبة دولية وإقليمية، تتوج بانتقال سلس وسلمي للسلطة".