هو فيلم احتاج للانتظار 20 عاماً قبل أن يتحول من صامت إلى ناطق، وقرابة 40 عاماً أخرى كي يصل من اليابان إلى أوروبا ولا سيما إلى فرنسا. وهو في أثناء ذلك بدل اسمه وحمل لغزاً. واللغز يتعلق أساساً بموضوعه. فالفيلم الذي كان عنوانه "صبية من طوكيو" وحقق للمرة الأولى في عام 1932 كان يتمحور حول عائلة تنتقل للسكن في إحدى ضواحي طوكيو. وكان الأب صارماً إلى درجة أنه حين منع ولديه من الحصول على جهاز تلفزيون (هل كان التلفزيون موجوداً في اليايان منذ ذلك الوقت المبكر؟ أم ترى الفيلم بدل من موضوعه أيضاً مع التغيرات التي طرأت عليه؟ ذلكم هو اللغز على أية حال). المهم أن الأب حين أنكر على الولدين الحصول على ذلك الجهاز وحاولا الاحتجاج أمرهما بألا يتفوها بكلمة. فامتنعا تماماً عن الكلام مع أي كان، ليس على سبيل الطاعة بل على سبيل الاحتجاج. كان إضراباً شاملاً عن توجيه أية كلمة لأي كان بمن فيهم الجيران الذين إذا أحسوا بالإهانة اشتبكوا مع العائلة كلها في حرب هزلية حملت كثيراً من المعاني بالطبع فكان الفيلم أول نجاح محلي تحققه سينما يوسيجيرو أوزو في بلده، ليكون لاحقاً، في نسخته الناطقة نجاحاً أوروبياً كبيراً لذلك المخرج الذي سرعان ما ستكون له مكانته بين الثلاثة الكبار في تاريخ حضور السينما اليابانية في أوروبا والعالم.
سمعة خارجية لسينما اليابان
والحقيقة أنهم كانوا ثلاثة أولئك الذين صنعوا، أواسط القرن الـ20، سمعة السينما اليابانية في العالم كله، وبالتحديد لدى نخبة هواة السينما الجديين في العالم، ولئن كان آكيرا كوروساوا الذي عمر حتى نهاية القرن تقريباً أشهرهم في العالم ولكن ليس في بلاده طبعاً، فقد رحل الاثنان الآخران مبكرين وهما كنجي ميزوغوشي ويوسيجورو أوزو. وعلى رغم أن أوزو كان الأقل فولكلورية بين الثلاثة والأكثر "حداثة" بمعنى أن أفلامه العديدة التي حققها كانت تتماشى، إلى حد ما، مع ما كانت تذهب إليه نوعيات معينة من السينما الواقعية الأميركية وربما الأوروبية أيضاً، فإنه اعتبر، على الدوام، الأكثر يابانية بين الثلاثة، وربما بين السينمائيين اليابانيين جميعاً. وتحديداً من منطلق رصده في العدد الأكبر من أفلامه تلك التغيرات التي طرأت على المجتمع الياباني وانتقال معظم اليابانيين من الريف إلى المدينة. ومن المؤكد أن الفيلم الذي نتحدث عنه هنا يمكن اعتباره النموذج الأكثر دلالة على تلك التبدلات الجوهرية، حتى وإن حرص فيه مخرجه على جعله هزلياً على عكس معظم أفلامه الأخرى هو الذي قال بصدده أنه جعله هزلياً بالمعنى العريض للكلمة و"إلا لسعيت لنيل جائزة السينما الأكثر جدية!".
اكتشاف غربي متأخر
وكان هذا هو السبب الذي جعل "اكتشافه" يتأخر في الغرب. ولكن منذ اللحظة التي اكتشفه فيها الأميركيون ثم البريطانيون، وبعدهم الفرنسيون - بشكل متأخر جداً، أي بعد 15 عاماً من رحيل هذا السينمائي الفذ - إذاً منذ تلك اللحظة صارت سينما أوزو السينما اليابانية المفضلة لدى الهواة، وصارت أفلامه علامات، وأساليبه السينمائية مثلاً يحتذى. مما يدفعنا إلى القول بأن أوزو ربما كان هو المخرج الوحيد في العالم الذي كانت الحياة الكاملة لأفلامه، حياة تلت رحيله، هو الذي حين رحل عن عالمنا آخر عام 1963، كان لا يزال شبه مجهول في العالم الخارجي. ولعل اللافت في مسيرة أوزو، طالما أننا نتحدث هنا عن حياة جديدة له، أنه واحد من قلة من مخرجين تعمدوا، بالفعل، أن تكون لأفلامهم أكثر من حياة واحدة، إذ إنه في هذا المجال عرف بكونه أعاد في النصف الثاني من مسيرته، تحقيق عديد من الأفلام التي كان حققها خلال النصف الأول من تلك المسيرة. فإذا حققها في المرة الأولى صامتة، صارت في المرة الثانية ناطقة، وإن كانت بالأسود والأبيض أولاً، صارت بعد ذلك ملونة... إلخ. وهو الأمر الذي ينطبق تحديداً على "صباح الخير" كما أشرنا أول هذا الكلام.
كلاسيكيات سينما العالم
واليوم، بعد رحيل أوزو بـ60 عاماً تماماً، تعتبر أفلام مثل "طعم الساكي" و"رحلة إلى موسكو" و"ربيع متأخر" و"الأعشاب العائمة" إلى جانب "صباح الخير" طبعاً، بعض أشهر كلاسيكيات السينما العالمية. وهو أمر لم يكن أوزو نفسه يتوقعه. فهو حين كان يحقق سينماه، طوال فترة بلغت ربع قرن من الزمن، كان همه الأساسي أن يرسم، من وجهة نظره، صوراً صادقة لمجتمع بلاده، ولصراع الأجيال، وللعلاقة مع الموت ومع المدينة. وتلكم هي على أية حال المواضيع الرئيسية التي طغت على معظم أفلام أوزو، حتى ولو أن من الصعب اعتبارها مواضيع أساسية في "صباح الخير" الذي يختلف اختلافاً بيناً عن كلاسيكيات أوزو الأخرى.
كيف فاتته السينما التاريخية
ولد يوسيجورو أوزو في طوكيو في 1903. وحين أرسله أبوه، بائع الأسمدة في حي شعبي بطوكيو، إلى كيوتو لكي يتعلم، كان أول ما اكتشفه في تلك المدينة، الأفلام السينمائية التي كانت تعرض بانتظام. وهكذا قرر أن يصبح سينمائياً وراح يرسم كل خططه على ذلك الأساس، وهكذا تمكن أوائل العشرينيات من أن يفرط في العمل السينمائي فصار مساعداً للمصور ثم مساعداً للمخرج حتى كان عام 1927 حين عهد إليه بتحقيق أول فيلم من إخراجه وكان فيلماً تاريخي الموضوع، وكان بإمكان هذا الفيلم أن يكون أول وآخر فيلم تاريخي في مسيرة أوزو، لكنه لم يكمله. ومن هنا ظلت مسيرته السينمائية كلها مطبوعة بالمواضيع الاجتماعية التي انبعثت أصلاً من تجاربه الحياتية نفسها، مما أضفى عليها طابعاً شخصياً لا شك فيه، بل يقول عدد من مؤرخي حياته إن فكرة إضراب الولدين عن الحكي في "صباح الخير" ترتبط بإضراب مماثل مارسه في صغره ضد أبيه ولكن ليس بسبب اقتناء جهاز تلفزيون على أية حال. وكان فيلماه الأولان الحقيقيان: "حصلت على دبلوم ولكن؟" (1929) و"حياة موظف مكتب" (1930)، كانا صامتين، ولكن خلف صورهما عرف أوزو كيف يلقي نظرة قاسية وناقدة على المجتمع الذي كان يعيش في ذلك الحين واحدة من أهم فتراته الانتقالية. وعرف أوزو كيف يجعل من سينماه صورة لتلك الفترة وتألفت تلك السينما في ذلك الحين من أفلام تتحدث، في معظمها عن بؤس طبقة الموظفين، وحالة العاطلين عن العمل، وكيف أن أوضاع مثل هؤلاء الناس تقود إلى أزمة في القيم الأخلاقية في المجتمع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأطفال شخصيات اجتماعية
وهو واصل مساءلته للمجتمع بعد ذلك عبر أفلام جعل شخصياتها الرئيسة شخصيات أطفال، كما في فيلمه الشهير "ولدت ولكن" (1932) الذي كان لا يزال فيه خاضعاً لتأثير نوع معين من السينما الاجتماعية الأميركية (أفلام فرانك كابرا.. مثلاً). غير أنه سرعان ما بدأ يخوض السينما الناطقة، ليبدأ بعدها بالتخلي عن تأثيرات السينما الغربية عليه، في الوقت الذي راح يبتدع لغة سينمائية خاصة به، ظلت مواكبة لأفلامه حتى أيامه الأخيرة. أما الجديد لديه في تلك الفترة (أواسط سنوات الـ30) فكان انتقاله من سينما المكاتب والموظفين، إلى سينما القيم العائلية وصراع الأجيال. وهذا الموضوع سيكون على أية حال موضوعه الأثير من الآن وصاعداً، وخصوصاً منذ فيلمه الناطق الأول "الابن الوحيد" (1936). ولم يتوقـف بعد ذلك من تحقيق أفلامه واحداً بعد الآخر، وبكثرة، إذ كان يحدث له أحياناً أن يحقق فيلمين أو أكثر في العام الواحد. وكان معظم ما يحققه، حتى من دون أن يلقى نجاحاً تجارياً كبيراً، يتحول إلى عمل مفضل لدى النقاد. وهكذا على التوالي كانت أفلامه الكبرى: "ربيع متأخر" (1949) الذي شكل مرحلة نهوضه، وسيعيد تحقيقه لاحقاً، ثم "بداية الصيف" (1951) فـ"رحلة إلى طوكيو" (1953) إذ بدأ موضوع الموت يطغى على تعبيره، فيما راحت تترسخ لغته السينمائية التي قلدها كثيرون منذ ذلك الحين، و"غروب في طوكيو" الذي كان واحداً من أكثر أفلامه تشاؤماً، ثم "أعشاب عائمة" و"خريف عائلة كوهايا غاوا" وصولاً بالطبع إلى "طعم الساكي" (1962) الذي سيظل أشهر وأجمل أفلامه، ولو لأنه يختصر في حد ذاته كل عوالمه ومواضيعه وأساليبه.