ملخص
الانتحار في شرق آسيا معضلة الدول المتقدمة...فما قصته في كوريا الجنوبية واليابان؟
أعلنت حكومة كوريا الجنوبية أخيراً خطة تقضي بإلزامية فحص الصحة العقلية لمواطنيها الشباب من الفئة العمرية بين 20 و34 سنة كل عامين، بهدف خفض معدلات الانتحار المرتفعة التي تعانيها البلاد، إذ تعد الأعلى بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في معدل حالات الانتحار خلال الأعوام الـ20 الماضية والمركز الرابع عالمياً وسط تزايد النسبة بما يتجاوز 200 في المئة، فيما يعد الانتحار السبب الأول لوفاة الرجال من عمر 20 إلى 44 سنة والسيدات من عمر 15 إلى 34 في اليابان.
وتمثل مشكلات الصحة العقلية وتبعاتها إحدى معضلات دول شرق آسيا لعقود، فيما تسعى حكومات هذه الدول إلى احتواء هذه الأزمة التي تؤثر في المجتمع اقتصادياً واجتماعياً، وتؤكد الحكومات الشرق آسيوية أن المشكلات الصحية سبب رئيس في حالات الانتحار، كما أن المشكلات العائلية عامل مساهم في بعض الحالات، فيما يلعب العوز المالي دوراً محورياً في إزهاق الروح طواعية.
كارثة الانتحار
تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى وفاة 700 ألف شخص عالمياً بسبب الانتحار بما يمثل نحو 1.4 في المئة من إجمالي الوفيات عالمياً، كما أنه السبب الرئيس الثاني لوفيات المراهقين، ويشكل أحد أكبر مشكلات العصر الحديث، إذ يتسبب في عدد من التأثيرات السلبية في المجتمع والاقتصاد المحلي والدولي، فبحسب المؤسسة الأميركية لمراكز مكافحة الأمراض يؤثر المنتحر في صحة ورفاهية ذويه، فعندما يموت الأشخاص منتحرين قد يعاني أفراد أسرهم وأصدقائهم الباقين على قيد الحياة من الحزن والصدمة والغضب والشعور بالذنب، مع تزايد أعراض الاكتئاب أو القلق، وحتى أفكار الانتحار نفسه.
ويتسبب الانتحار في تأثيرات اقتصادية، إذ يتكبد اقتصاد الدول خسائر مالية من جراء الإقدام عليه، ففي عام 2020 كلف الانتحار وإيذاء النفس غير المميت الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 500 مليار دولار من التكاليف الطبية، وتكاليف فقدان العمل، بخلاف قيمة الحياة الإحصائية، وتكاليف نوعية الحياة.
من ناحية أخرى يتطلب مكافحة ومنع الانتحار بذل جهود على المستوى الفردي والتنظيمي والمجتمعي، فضلاً عن شراكات واسعة النطاق بين القطاعين العام والخاص، ويشمل ذلك الصحة العامة والحكومة والتعليم والعدالة والرعاية الصحية، وكذلك الخدمات الاجتماعية والأعمال التجارية والعمل والإعلام وغيرها، كما توصي المنظمات العالمية بضرورة تقديم أنظمة للرعاية الصحية وخيارات العلاج عبر الهاتف أو الإنترنت، إضافة إلى تنظيم برامج وفعاليات لزيادة الشعور بالانتماء بين أفراد المجتمع، مع معالجة عوامل الخطر الأولية مثل التعرض لتجارب الطفولة السلبية.
إيذاء النفس
تعد كوريا الجنوبية أحد أعلى الدول على مستوى العالم في معدلات الانتحار، لتتحول تلك القضية المجتمعية إلى معضلة حكومية تستوجب التحرك السريع من خلال الدارسات والإجراءات، فيعد الانتحار السبب الرئيس والخامس للوفاة في سيول، خصوصاً من الأصغر سناً الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و59 سنة، كما يصنف الانتحار باعتباره السبب الرئيس الأول والثاني للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و39 سنة الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و59 سنة.
ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ارتفع معدل الانتحار في كوريا الجنوبية بنسبة 200 في المئة في الفترة من 1990 إلى 2015، كما سجلت رابع أعلى معدل انتحار في العالم في عام 2019، وفقاً لمجلة (World Population Review).
تدفع الإحصاءات الحالية إلى الاعتراف بالمشكلة وتسليط الضوء عليها كأولوية للصحة العامة، ودراسة مستفيضة للعوامل المختلفة التي قد تسهم في الانتحار، فهناك تفسيرات متعددة تتعلق بالصحة العقلية والبيئة الخارجية لارتفاع معدل الانتحار، ففي إحدى الدراسات أشارت نتيجة تشريح الجثث إلى 391 حالة انتحار في الفترة من 2015 إلى 2018 أجراها مركز التشريح النفسي الكوري، ووجد أن 86.7 في المئة منهم يعانون مشكلات في الصحة العقلية مثل الاكتئاب والإدمان والقلق واضطرابات النوم وغيرها.
وأفادت دراسة وطنية للطلاب المراهقين أن حوالى 17.6 في المئة من حالات الانتحار كانت مرتبطة باضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، وفي الوقت نفسه تشير دراسة محلية في كوريا الجنوبية إلى أن 57.3 في المئة من المنتحرين ارتبطوا بمشكلات مكان العمل، مثل العلاقات الشخصية وتغييرات عبء العمل ومشكلات العمل الحر، وما يقدر بنحو 32 في المئة كانت مرتبطة بالصحة البدنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من ناحية أخرى تحدث حالات الانتحار بين كبار السن بمعدلات مرتفعة إلى حد مثير للقلق، ويرجع ذلك في كثير من الأحيان إلى أسباب تتعلق بالفقر وبدرجة أقل بسبب انهيار البنية الأسرية التقليدية في كوريا الجنوبية، ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يعيش حوالى نصف السكان المسنين تحت خط الفقر.
التحول الاقتصادي الذي شهدته كوريا الجنوبية خلال العقود الأخيرة من دولة فقيرة إلى أحد أكثر الدول تطوراً يمثل عاملاً من عوامل ارتفاع معدل الانتحار في البلد المتطور صناعياً وتقنياً، وأظهرت الدراسات أن النمو الاقتصادي السريع لسيول أدى إلى ظهور قضايا اجتماعية مثل انعدام الأمن الوظيفي والإسكان الذي لا يمكن للكوري تحملها.
ويعزى هذا الارتفاع إلى المنافسة الاجتماعية والاقتصادية المكثفة، مما شكل ضغوطاً على الجيل الصاعد للتفوق، ووجد أن هذه العوامل تزيد من التوتر بين المراهقين الكوريين وتسهم بشكل كبير في حالات الانتحار، كما تفاقم عديد من هذه القضايا في كوريا الجنوبية بسبب التنمية الوطنية المتسارعة من المجتمع الريفي التقليدي إلى المجتمع الحضري الحديث في غضون جيل واحد.
الصحة العقلية
إفصاح الفرد عن معاناته من مشكلة في الصحة العقلية ليس سهلاً في كوريا الجنوبية بحسب ما أشار إليه خبراء، إذ تعد الثقافة الكورية واحدة من أكثر المجتمعات جماعية في العالم، وهي راسخة بقوة في المعتقدات الكونفوشيوسية، ويولي الكوريون أسرهم قبل أنفسهم، فقد تؤدي فكرة طلب المساعدة إلى تخلي الأفراد عن تلقي العلاج حفاظاً على سمعتهم أو سمعة أسرهم، ويشار إلى هذا الخوف باسم (chemyon)، وهو القلق في شأن فقدان القبول المجتمعي والأسري.
وتشجع تلك المعتقدات والأبعاد الثقافية في مجتمعات شرق آسيا، بما في ذلك مجتمع كوريا الجنوبية على كبت المشاعر الصعبة أو التسامح معها أو قمعها، وتظهر الأبحاث أن واحداً فقط من كل أربعة مراهقين كوريين يسعى إلى الحصول على العلاج المهني، في حين أن الثلاثة الباقين أكثر عرضة لمحاولة إصلاح مشكلاتهم بشكل مستقل من دون دعم.
وأظهرت دراسة أن خطر الانتحار أو إيذاء النفس لدى المراهقين في انخفاض في حال المشاورة مع متخصصين في مؤسسات الصحة العقلية من خلال الخدمات المدرسية، وأبلغ المراهقون الكوريون عن عدد أقل من المشاعر السلبية والصعوبات النفسية المتعلقة بالاكتئاب والقلق بعد تلقي علاجات استشارية.
لذا يوصي المختصون في الصحة العقلية باستمرار بضرورة أن تكون هناك استجابة أكثر استباقية لدى سيول يمكنها أن تواجه ارتفاع معدلات الانتحار التي لا تتوقف منذ ما يصل إلى عقدين.
جهود حكومية
وتحاول الحكومة بين الفينة والأخرى اتخاذ خطوات استباقية وخطط علاجية تمكنها من خفض حالات الانتحار في البلاد، فعلى سبيل المثال أنشئ قسم لمنع الانتحار في وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية ولجنة ذات صلة تابعة لمكتب رئيس الوزراء في كوريا الجنوبية يمكنها توفير الخطوط الساخنة الخاصة بالانتحار، بما في ذلك جسر مابو في سيول، وهو مكان سيئ السمعة لكثرة من يحاولون القفز من فوقه.
وأعلنت وزارة التعليم في كوريا الجنوبية عام 2015 تطوير تطبيق للهواتف الذكية مصمم لفحص منشورات الطلاب على وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل وعمليات البحث على الإنترنت بحثاً عن كلمات تتعلق بالانتحار، ويعمل التطبيق على إرسال تنبيه إلى أولياء أمور الطلاب الذين حددوا في خطر.
وزارة الوحدة
تمتلك اليابان معدلات أقل من حالات الانتحار مقارنة بجارتها كوريا الجنوبية، لكنها ضمن الأزمات التي تواجه طوكيو خصوصاً في السنوات الأخيرة، وبحسب إحصاءات هذا العام وصل عدد حالات الانتحار بين الشباب في اليابان إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، إذ انتحر 514 طالباً تبلغ أعمارهم 18 سنة أو أقل في عام 2022، وتجاوز الرقم 500 للمرة الأولى منذ عام 1980، وفقاً لبيانات وزارة الرعاية الاجتماعية الصادرة في الـ14 من مارس (آذار) الماضي.
ووصل إجمالي حالات الانتحار في البلاد إلى 21881 حالة بزيادة 874 أو 4.2 في المئة عن عام 2021، وهي أول زيادة منذ عامين، وذكرت الحكومة اليابانية أن المشكلات الصحية كانت السبب الرئيس في غالبية حالات الانتحار، في حين كانت المشكلات العائلية عاملاً مساهماً في بعض الحالات الأخرى، ولعبت الضائقة المالية والعوز دوراً في قتل النفس.
وتحاول الحكومة اليابانية منذ أعوام مكافحة الارتفاع في معدلات الانتحار، ففي عام 2021 استحدثت الحكومة مكتباً لإجراءات مكافحة العزلة والوحدة في حكومتها لمواجهة قضايا مثل الانتحار وفقر الأطفال.
وعين رئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا تيتسوشي ساكاموتو كأول وزير للوحدة، لمعالجة ارتفاع معدلات الانتحار خصوصاً لدى السيدات بعد أزمة كوفيد-19، وكلفت بدراسة القضية ووضع استراتيجية شاملة، من خلال التنسيق مع الوزارة ذات الصلة للقيام بأنشطة تعمل على منع الوحدة والعزلة الاجتماعية وحماية العلاقات بين الناس.