ملخص
رسوم مجهولة رقدت طويلاً في الأدراج وخرجت إلى الضوء في معرض "أشكال ألوان"
قد يسأل زائر معرض الفنانة سيمون فتال المقام في مؤسسة "أشكال ألوان" التي أسستها وتديرها كريستين طعمة في بيروت، عن عنوانه "جاك 1971" الذي قد يستغربه للوهلة الأولى: من هو جاك؟ ولماذا اختارت الرسامة هذا الإسم؟ ولكن عندما يطلع على قصة هذا الاسم والتاريخ ويرى اللوحات المعروضة، يكتشف طرافة هذه التجربة التي خاضتها الرسامة والنحاتة في عز شبابها، وتحديداً عام 1971 وفي بيروت مدينة الحرية والانفتاح والثورة الثقافية حينذاك. فهذه اللوحات المرسومة بمادة الباستيل تعد من أعمال البدايات، خصوصاً أن سيمون باشرت فن الرسم في 1969 ولم تقم أول معرض فردي لها إلا في 1973، إضافة إلى مشاركتها في معارض جماعية. لكن هذه اللوحات تحمل ملامح تجربة فنية ناضجة ومتينة، تتخطى ما يسمى المحاولات الأولى، سواء من ناحية الموضوع أو الثيمة أو من الناحية التقنية والأسلوبية.
أما القصة الطريفة والفريدة لهذه اللوحات التي كانت خبأتها سيمون في الأدراج ونسيتها بل فقدتها منذ العام 1971 فظلت مفقودة طوال ما يقارب 50 عاماً حتى وقعت عليها بالصدفة صديقتها كريستين طعمة الخبيرة الفنية، خلال نبشها الصيف الماضي، أدراج سيمون وبحضورها، بحثاً عن أعمالها الأولى، المنسية والمجهولة. وقعت سيمون وكريستين على هذه اللوحات التي بدت أشبه بلقيا فنية جميلة جداً ومهمة، في مسيرة الفنانة التي ما لبثت أن تحولت لاحقاً إلى النحت والسيراميك. أصرت كريستين للفور على إقامة معرض لهذه اللوحات القديمة التي تبدو حديثة جداً وجديدة، في ما تحمل من أبعاد متعددة وأولها علاقتها بالموسيقى، وموسيقى الغيتار تحديداً.
تروي سيمون فتال الحكاية الكاملة لهذه اللوحات، ومفادها أن صديقة لها تدعى غابي بسترس كانت تتجول ذات أمسية من عام 1971، بصحبة زوجها جون هاينز في ساحة الشهداء. كانت الساحة يومئذ عامرة بالمقاهي وصالات السينما القديمة، يرتادها أناس من شتى أرجاء العالم. التقيا مصادفة بفرقة من شباب موسيقيين هيبيين في طريقهم إلى الهند، فقد جرت العادة في تلك الآونة أن يكون لبنان من المحطات الإلزامية في تلك الجولات التي تقوم بها الفرق العالمية. كان هذا الفريق قد بقي في بيروت، عالقاً وعاجزا عن متابعة السفر، إذ لم يكن بحوزتهم ما يكفي من المال لاستكمال رحلتهم. استضافتهم غابي وجون في دارهما، ولكن سرعان ما اضطرا إلى طلب العون من رفاقهما. وهكذا، تفرق أعضاء الفرقة، كل في دار أحد الرفاق، فدعت سيمون عازف الغيتار، جاك، إلى دارها واستقبلته وأقام في محترفها. والطريف أن الفرقة الموسيقية اصطحبت سيمون وأصدقاءها إلى بعض الأماكن الطبيعية في لبنان التي يجهلونها كلبنانيين، ومنها واد ساحر، فيه أشجار عتيقة وصخور وجدول ماء.
إذاً أمضى جاك فترة من الزمن في محترف سيمون، يعزف على غيتاره يومياً، وكانت هي تقوم برسمه وهو يعزف، في عدد وافر من الرسوم. وسعت في أحيان إلى التعبير عن الموسيقى نفسها، ولعل هذا ما يميز اللوحات أي رسم الموسيقى عبر سمعاها حية ومباشرة.
بقيت هذه الرسوم منذ ذاك الزمن راقدة في الجوارير، حتى وقعت الحرب واضطرت سيمون إلى مغادرة لبنان إلى باريس ثم إلى أميركا ودول أخرى. وكان أن رقدت هذه الرسوم في الأدراج ونسيتها صاحبتها النحاتة وفنانة السيراميك، طوال 50 عاماً، إلى أن نبشتها كريستين طعمة، وقررت أن تعرضها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يفاجئ في هذه الرسوم هو "طزاجتها" أو حداثتها، خصوصاً أنها تعبر عن موسيقى البوب في الستينيات والسبعينيات في بيروت، عاصمة الفن والحداثة. لوحات جميلة تتكئ على الإيقاع الموسيقي وتحوله إلى خطوط وأشكال وألوان تحوي كثيراً من الميلوديا المنسابة برقة أو المتداورة والمتوترة في أحيان بتوتر النبض الإيقاعي. وتبرز في الرسوم لعبة فنية تجمع بين التجريد من ناحية، والتجسيد والترميز. ففي وسط الفيض اللوني تظهر آلة الغيتار واضحة حيناً، وخفرة حيناً آخر، كما يظهر طيف جاك العازف طيفاً موسيقياً يحضر من خلال الموسيقى التي يعزفها.
وإن كانت هذه الرسوم تعود إلى مرحلة الشباب في مسيرة سيمون، فهي تدل على وعي عميق بالتلوين والتشكيل، وعلى المام تام بمعايير فن الرسم، إضافة إلى الفضاء الغنائي أو الليريكي الذي يحيط بالرسوم ويمنحها بعداً آخر. ليس من السهل أن يحول الرسام الموسيقى إلى عمل تشكيلي ولوني، لكن سيمون الشابة خاضت هذه المغامرة بقوة وشفافية وحب، ونجحت فعلاً في إبداع رسوم ستظل تشهد على بداياتها القوية الراسخة في مفهوم الاحتراف والنضج الباكر.