ملخص
روايته الجديدة سيرة مغامر عاش القرن التاسع عشر برومنطيقية راديكالية
"علينا أن نتقبّل الحيوات التي عشناها، لا أن نتخيّل تلك التي كان يمكننا أن نعيشها"، يقول الروائي البريطاني ويليام بويد في مطلع روايته الجديدة، "الرومنطيقي" (2022)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي". ولحسن حظنا، لا يلتزم بويد بهذا القول فيها، بل يذهب في الاتجاه المعاكس بتخيّله لبطلها حياةً مليئة بالمغامرات والأسفار واللقاءات المثيرة. حياة تعبر بنا الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، وتمنحنا فرصة استكشاف أبرز أحداثه مع كاتب يعرف، بموهبته السردية النادرة وصوته الفريد، كيف يحمل قارئه ويذهب به إلى حيث يشاء.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أنها ليست المرة الأولى التي يبتكر بويد فيها سيرة زائفة. ولكن أكثر من أي رواية سابقة له، تشكّل "الرومنطيقي"، بفتنة قصتها، نشيد احتفاء بالخيال. وكي يفعل سحر هذا النشيد فعله علينا، لا يكتفي الكاتب الماكر بجعلنا نقفز مع بطله من معركة "واترلو" في بلجيكا إلى الحقبة الجميلة في إيطاليا، ومن مزرعة في أميركا إلى منابع النيل في إفريقيا، مروراً بكمٍّ من الأماكن التي يتمنى أي منا زيارتها واستكشافها. بل هو ينصب فخّاً أدبياً لنا في مقدّمته لروايته، عبر تأكيده بأن قصتها مبنية على سيرة حقيقية "غير منجَزة، مفكَّكة ومربِكة" لمغامر إيرلندي اسمه كاشيل غريفيل روس، ولد عام 1799 وتوفي عام 1882، في حين أن هذه المقدّمة تمهّد في السرّ لقصة خيالية جامحة.
فكرة بطل الرواية تبلورت في ذهن بويد أثناء قراءته سيرة ذاتية مموَّهة للكاتب الفرنسي ستاندال، بعنوان "حياة هنري برولار": "إنه كتاب مذهل وشديد الحداثة يدّعي ستاندال فيه أنه يكتب حياة شخص آخر، بينما من الواضح أنه يتحدث عن نفسه"، صرّح الروائي في حوار معه، مضيفاً: "في هذا الكتاب، يصف برولار نفسه بأنه رومنطيقي، ويعتبر ذلك لعنة لأن مزاجه الرومنطيقي غالباً ما جعله يقع في غرام ممثلات أو زوجات أصدقائه أو أرامل ميسورات، وكانت هذه القصص تنتهي دائماً بشكل سيء. فقلت في نفسي إنه سيكون مثيراً أن أنطلق في كتابة سيرة شخص لا يصغي سوى إلى قلبه، ثم أرى أي نوع من الحياة سيكون من نصيبه".
مغامرة مفتوحة
في مطلع الرواية، نعرف أن بطلها كاشيل لم تتح له فرصة التعرّف إلى والديه. ففي عام 1800، أي بعد سنة من ولادته، لقي أبوه وأمه حتفهما غرقاً أثناء رحلة بحرية إلى بلفاست، وفقاً لخالته إليزابيت سوتار. ونتيجة لذلك، تتبنّاه هذه الخالة، التي تعمل مربّية لابنتيّ لورد إيرلندي في مقاطعة كورك، وتوفّر له تعليماً ممتازاً يفتح له في سن المراهقة أبواب كليات أكسفورد. لكن في أحد الأيام، يكتشف بالصدفة أن خالته ليست سوى أمّه، وأنه ولد من علاقة غرامية سرّية بينها وبين اللورد المذكور. اكتشاف يصدمه ويدفعه إلى إيقاف تعليمه والالتحاق بالجيش، فيشارك في معركة "واترلو" وينال ميدالية لإصابته خلالها. وبعد فترة نقاهة يتصالح فيها مع والديه، يتوجه إلى الهند كضابط بريطاني ويختبر هناك الفظائع التي كان يرتكبها جيش وطنه ضد أبناء هذا البلد، فيغادر إلى أوروبا، مدفوعاً برغبة شديدة في الترحال تقوده أولاً إلى فرنسا، ثم بلجيكا، فإيطاليا، حيث يصادق لفترة، الشاعرين لورد بايرون وشيلي، ويقع في غرام الكونتيسة الفاتنة رافاييلا، المتزوجة مع الأسف من بارون عجوز ومعاق يلجأ، لإبعاد هذا المنافس عن زوجته الشابة، إلى حيلة تُبعِد كاشيل عن حبيبته وتعود به مكلوماً إلى لندن.
في هذه المدينة، ينجح كاشيل في وضع كتاب عن أسفاره، ثم رواية حول قصة حبّه مع رافاييلا، فيصبح كاتباً مشهوراً ويُدعى إلى أرقى الصالونات الأدبية. لكن لا تلبث آلاف النسخ التي تباع من كتابيه أن تثير طمع ناشره، فيحتال عليه ويفرّ بمستحقاته، مما يضعه في حالة إفلاس تقوده إلى السجن، حيث يغذّي مع سجين آخر حلماً بالسفر إلى أميركا. حلم تمكن من تحقيقه بعد عام، بفضل مبلغ كبير من المال يرثه عن والده ويسمح له بسدّ ديونه وشراء مزرعة قرب بوسطن. وفي هذا المكان، يعيش فترة من السلام والطمأنينة، يتزوج خلالها من شابة إيرلندية وينجب منها ابنتين. لكن مباشرةً بعد ولادة ابنتهما الثانية، تقع زوجته في حالة جنون صوفي يحوّل علاقته بها إلى كابوس، فيعاشر في السرّ امرأة تشبه إلى حد بعيد رافاييلا، ثم يقفل عائداً إلى لندن حين يفتضح أمره.
منابع النيل
ولأن حسّ المغامرة لا ينطفئ داخله، يقرر كاشيل مع أحد معارفه التوجه إلى إفريقيا لاكتشاف منابع النيل. رحلة شيّقة ومليئة بالأخطار تودي بحياة رفيقه، ويعود هو منها بداء مؤلم ومزمن، لكن ليس قبل أن يحقق هدفه، مستبقاً في ذلك جون سبيكي الذي يصل بعده إلى منابع النيل، إثر استراقه النظر إلى أوراقه وخرائطه في زنجبار. ولأن المحاضرات التي يلقيها في لندن حول هذا الموضوع لن تنفع لنيل اعتراف رسمي بمنجزه، يقبل بعد فترة منصب قنصل لفنزويلا في مدينة ترييستي الإيطالية، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية، ويعيش مغامرة أخيرة مع حب حياته، رافاييلا، التي لم تتمكن السنون الطويلة التي مضت على فراقهما من النيل من جمالها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
باختصار، "الرومنطيقي" رواية محمومة بالأحداث والأسفار. لكن أبعد من روح المغامرة التي يتحلى بطلها بها، إنها مصادفات الوجود الكبرى وسلسلة الظروف التي تحوّل مسيرته في هذه الدنيا إلى حياة رائعة تستحق أن تكون موضوع رواية. وفعلاً، كم من الناس يحظون بفرصة التنقل بين أوكسفورد وبورتسموث ولندن وواترلو ومدراس وسيلان وبيزا وفلورنسا ورافينا وآرل وبوسطن وزنجبار وتنزانيا وميلانو وترييستي والبندقية، واختبار الحب مرات عديدة، ومصادقة وجوه لامعة من آفاق مختلفة، ومزاولة مهن مختلفة تتراوح بين عسكري وكاتب ومزارع ومستكشف ومُحاضِر وقنصل، أثناء هذا الترحال؟
الجواب البديهي على هذا السؤال هو الذي يفسّر فتنة هذه الرواية ويجعل منها خير مثال على سلطة الأدب السحرية. فمثل دكتور فرانكشتاين في رواية ماري شيلي، التي يتصادق كاشيل معها في إيطاليا، يعيد بويد ابتكار الحياة نفسها بخلقه بطله المغامر من قطع متفرقة. أما استمتاعنا برفقة هذا الأخير أثناء ترحاله، فيعود إلى كونه ينتمي إلى أولئك الأشخاص المستعدين دائماً للانطلاق في مغامرات جديدة مدهشة. مغامرات تجاوزت غالباً توقعاته، ولكن من دون أن تتمكن من زعزعة قناعته بأنه كان ينجز نفسه في كل منها، ومن دون أن تثنيه كلفتها العالية أحياناً عن التمسّك بمبدأ الإصغاء إلى قلبه، لا إلى عقله.
لكن من خلال كل هذه المغامرات التي تنتظرنا في هذه الرواية، وتجعلنا نقلب صفحاتها بإثارة كبيرة، يسعى بويد في النهاية إلى تعرية حقيقة حزينة تمدّ عمله بكل بعده الرومنطيقي. حقيقة أن أي حياة عظيمة ومديدة تسير حتماً نحو التضاؤل والاندثار، فلا يتبقى منها سوى آثار قليلة جداً: "حزمة رسائل، بضعة رسوم وخرائط، صور فوتوغرافية معدودة، صندوق صوفان، رصاصة بندقية، وابزيم حزام".
مع ذلك، وعلى رغم تذكير الكاتب لنا بأن قدرنا هو أن نُنسى بعد ثلاثة أو أربعة أجيال، لكن بطله كاشيل غريفيل يفلت حتماً من هذا المصير ويعرف ديمومة طويلة، بفضل وقع سيرته الزائفة، وتحوّله بفضلها إلى شخصية رومنطيقية تتغلب على الزمن بسحر تجسيدها.