ملخص
أحمد الفخراني يقارب كوميديا دانتي في روايته "المشاء العظيم"
الأدب، والرواية خصوصاً، ما بين رائج رديء لا يبقى منه شيء بمرور الوقت، وجيد تخلده الذاكرة الإنسانية، جيلاً بعد جيل، من "دون كيشوت" لثربانتس، إلى "مئة عام من العزلة" لماركيز، و"لو أن مسافراً في ليلة شتاء" لإيتالو كالفينو، و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، هو موضوع رواية "المشاء العظيم" (دار الشروق - القاهرة) للكاتب أحمد الفخراني. تركز هذه الرواية على الزيف وصناعه، فيأتي العمل بأحداثه وشخوصه وكأنه انعكاس لذلك الزيف، ويبدو بطله الضد مجرد وهم، لا حقيقة لوجوده على أي مستوى، باستثناء مستوى هذه الرواية ذاتها، وما تحيل إليه ضمناً من نماذج من هنا وهناك، إما أن النسيان قد طواها بالفعل، أو أنها في طريقها إلى السقوط من ذاكرة الأدب. نسج الفخراني روايته في نصين، بعنوانين مختلفين. النص الأول عنوانه مسروق - من جانب مؤلفه الافتراضي - بلا مواربة من عنوان المجموعة القصصية "همس الجنون" لنجيب محفوظ، والثاني هو نفسه عنوان رواية كافكا "المسخ"، مما يؤكد إصرار البعض على أن يكونوا مجرد أشباه مشوهة لمشهورين، لضحالة ما يمتلك الواحد منهم من الموهبة. وينسب النص الأول لمؤلف يدعى "فرج الكفراوي"، والثاني ينسب إلى مؤلفين من "جوقة الذاكرة" و"كورال النسيان"، وقد كتب عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، من خلال شركة تعد عملاءها بالشهرة والثراء، بحسب ما يوضحه محقق مسودة اشتملت على النصين. تستهل الرواية باقتباس من "المطهر" (الجزء الثاني من "الكوميديا الإلهية" لدانتي): "ولا يزال يسير منذ موته من دون توقف، وهذا هو الثمن الذي يؤديه من يجترئ على ما لا يقدر عليه حقاً". وفي هذا تفسير على نحو ما لعنوان الرواية، خصوصاً أننا سنجد تفصيلاً له في النص الثاني، من قبيل قول أحدهم: "من يعاند الحقيقة التي رآها إن لم تأت في صالحه، فيتحول إلى كاتب مضطهد يسير فوق أسنة حادة لعظمة متوهمة، لعنتهم هي مشي طويل بأقدام مدماة تحت سوط الشمس ولسان لا يعرف إلا الهذيان".
في النص الثاني تحديداً، نحن بصدد رحلة أشبه بتلك التي انطوت عليها "الكوميديا الإلهية". الوجهة في رواية الفخراني ستكون فانتازية وغرائبية بامتياز، واسمها "عزبة فاطنة" (نطق عامي لاسم فاطمة)، التي يبدو أنها من صنع خيال "الكفراوي"، لكن أصلها بالطبع يرجع إلى دانتي. "الكفراوي" أقنع "الأعور" بأن السفر إليها، هو أشبه برحلة حج إلى مكان مقدس سيجد فيه ما سيعينه على أن يكتب روايته الملحمية التي قرر قبل أن يخط حرفاً فيها أن يكون عنوانها هو "المشاء العظيم". هناك يجتمع لليلة واحدة كل عام عظماء خلدهم تاريخ الأدب، ويكون "الكفراوي" في خدمتهم، على أمل أن يرضوا عنه ويجعلوه واحداً منهم، فيستمتع مثلهم بالمرأة الأسطورية التي تدعى "فاطمة"، والتي ينطق هو اسمها على طريقة العامة "فاطنة". في تلك الليلة سيجد "الأعور" نفسه في حضرة دانتي وبورخيس ولوركا وماركيز ونجيب محفوظ وبوكوفسكي وكافكا وأبو العلاء المعري والقطب الصوفي الجنيد، بينما لم يحضر ثربانتس، لكن أحاديثهم تطرقت مراراً إلى روايته "دون كيخوته".
وتلي الاقتباس من مطهر دانتي مقدمة كتبها محقق افتراضي للرواية بنصيها، ينسب العمل قبل تحقيقه إلى مسودة للروائي محمد الأعور الذي يقال في سياق حيلة سردية إنه مات منتحراً قبل أن يرى هذا العمل محققاً، النور. وهكذا يمكن القول إننا بصدد ما يحيل إلى تقنية التحقيق المتبعة مع نصوص هناك اختلاف على مؤلفيها، أو أنها تمثل أكثر من صيغة لنص واحد. ويخلص أحمد الفخراني الذي يتقمص هنا شخصية المحقق الافتراضي، إلى أنه لم يتمكن من الجزم إن كان "الأعور" كاذباً أم صادقاً وأن النصين ليسا من تأليفه فعلاً، "بل من تأليف شبح وحاسوب". ويستند الفخراني في ذلك إلى أن "فرج الكفراوي"، "هو روائي منسي صدرت له بعض الأعمال الجيدة التي لم تصمد في الذاكرة، وقد مات قبل كتابة النص المنسوب إليه"، كما أن تقنية الذكاء الاصطناعي "ما زالت في بداياتها".
الشعر ثم الرواية
ولعله هنا أراد أن يقول في سياق الحيلة السردية ذاتها إنه لا يوجد ما يدل على أن تلك التقنية أنتجت نصوصاً أدبية نشرت في كتب في مصر، حتى الآن، في سياق التشكيك في صدقية الكتاب من نوعية "الأعور"، الذي بدأ بانتحال شعر محمد عفيفي مطر، بحسب الراوي العليم، في ديوانين، سرعان ما طواهما النسيان قبل أن يقرر خوض غمار الكتابة الروائية، عقب عودته إلى مصر بعد سفر طويل نسبياً، كان الهدف الأساس منه هو جمع ما تيسر من مال، يعينه على تأسيس شركة تتاجر في كل ما هو رديء الصنع. ويختتم الفخراني المقدمة التي لا يمكن فصلها بالطبع عن متن الرواية بالقول: "صار من الصعب أن نوقن أن (الأعور)، على رغم أن له عدداً كبيراً من المريدين، كان روائياً حقيقياً أم متخيلاً أم هجيناً، على رغم أعماله المنشورة التي لم تصمد طويلاً في الذاكرة". وحتى لا يتصور القارئ أننا بصدد حكاية من التراث الحديث، فإن الفخراني يؤرخ مقدمة المحقق بالـ27 من يناير (كانون الثاني) 2022، من ثم فإن الزيف الذي تفضحه الرواية هنا معاصر وشخوصه ماثلون في الأذهان على نحو أو آخر.
تقدم رواية "المشاء العظيم" - مع ملاحظة عنوانها المجاني الذي لا يصادف مطلقاً ما يؤكده في متن العمل، إلا في سياق اللاجدوى - بانوراما سردية، بحسب كلمة على الغلاف الخلفي، عن مسيرة الروائي الطامح للشهرة "محمد الأعور"، وسبل اختراقه عوالم الأدب بطرق ملتوية، لكن عند ذروة نجاحه في تحقيق ما يصبو إليه، أو هكذا كان يتوهم، يواجه شبح أستاذه الميا والروائي المنسي "فرج الكفراوي" الذي يطالبه بتسديد دينه القديم. فبعد أن سرق منه ست روايات منحته الشهرة، بات عليه أن يجعل روايته السابعة باسم "الكفراوي"، وأن يستخدم نفوذه وشهرته ليعلن أنه اكتشف كنزاً أدبياً باسم أستاذه، كي يعيد إحياء اسمه الذي ابتلعه الموت والنسيان، لكن "الأعور" يكتشف أن الرواية المطلوبة ليست سوى حياته ذاتها.
فكرة كالفينو
"هاني الديب"، تلميذ "الأعور" في الوصولية، سيحول شركته التي كانت تبيع كل ما هو رديء الصنع، إلى ورشة لكتابة الروايات باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي وبيعها لروائيين طامحين في الحصول على نوبل وغيرها من جوائز مالية سخية، وفي الانضمام إلى قوائم الأكثر مبيعاً، ومن ثم الحصول على شهرة واسعة. يتقبل "الأعور" ذلك التحول المذل، ويقرر الدخول في هذا العالم الواعد الذي يستثمر البيانات التي حصل عليها من الروائيين لإنشاء برنامج إلكتروني أكثر تطوراً، تطبيق ما زال قيد الاختبار، ويطلب متطوعين من أجل إتمام "المهمة المقدسة"، بحسب وصف الدعاية الخاصة به... "أثارت فكرة أن تكون الرواية كمنتجات تصنيع كل أحلام يده العاجزة عن كتابة سطر واحد تحركه أصالة الرغبة، سطر واحد لطالما تضرع من أجله وبكى وتوسل ولو انتحل كل ما حوله"، السرد دائماً يتولاه راو عليم، بضمير الغائب، باستثناء مرات قليلة يحدث فيها "الأعور" نفسه بضمير المخاطب. فكرة كتابة روايات لمن يطلب ممن يفتقرون إلى الموهبة، هي لكالفينو، وسرقها "الكفراوي"، ثم سرقها منه "الأعور"، قبل أن يلتقطها "الديب" ليجعل منها مشروعاً تجارياً يسعى إلى تحقيق أرباح مادية خيالية من خلاله. كان "الأعور" في الـ47 من عمره عندما قرر أن يكتب رواية بعنوان "فاطمة العرافة"، سلمه "الكفراوي" قبل أن يموت فكرتها مكتوبة في بضعة سطور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الشركة التي أنشأها "الديب"، اختار "الأعور" الباقة الأعلى سعراً واسمها "باقة السر". وقع على إقرار يتيح لـ"شركة خدمات الرواية وما بعدها" استخدام بياناته داخل أي منتجات روائية أخرى. وعقب الخضوع لطقوس معينة، وجد نفسه في "المطهر" بصحبة "الكفراوي"، ولاحظ أن "الأسلاف" يعاملونه بجلافة وازدراء، وأن السبب الوحيد لجلوسه بينهم هو أنه مضيفهم، "كان يطعمهم بنفسه ويكاد لا يقرب الطعام أو الشراب". وهناك سمع دانتي يقول "يستحق أولئك الملاعين الذين أساؤوا إلى فن الانتحال وجروه إلى تفاهة تزييف العلامات، أنشودة إضافية في الجحيم" ص 142. أما كافكا فقال "كنا نأمل في لطف السريان، لا ثقل الخلود الذي يجعل منا مجرد أشباح مقيدة بسلاسل غليظة في قبو"، بينما جرى الحديث عن "فاطمة" باعتبارها معادلاً للكتابة الخالدة التي هي - بتعبير كالفينو برواية الفخراني - "الحكاية والمحكي عنه، وكلنا ذكر مهووس يروى عليه فيبطل أثر سيافه"، في إشارة إلى شهريار وشهرزاد في حكايات "ألف ليلة وليلة"، باعتبارها خالدة بصدقها الفني ضمن تراث إنساني يستعصي على النسيان.
وبدوره، قال بورخيس: "الكل يطمع في أن يكون ثربانتس، أفكر أحياناً أن روايته (دون كيخوته) لم تكن أكثر من مجرد خطأ تاريخي، كان كل سعينا ليس سوى محاولة غير مجدية لتصحيحه" ص 148، في حين قال كافكا: "قد تخجل الرواية أخيراً من كذبتها، عندما تصبح معادلاً للانحطاط لا قمة هرم الوجاهة في الأدب. حينها قد لا تكتب بدافع الأمل، بل اليأس من إيجاد شكل آخر للتعبير، فتعود فناً للضرورة".