على الخريطة مقر قيادة الجيش قاب قوسين من قصر الرئاسة اللبنانية، هذا القرب الجغرافي له بعد نفسي. كل قائد للجيش يشعر بأن القصر في متناوله.
في بلد غير لبنان قد يهرب الرئيس لحظة سماعه هدير الدبابات المجاورة، أما في بيروت فمن شروط نزهة القائد وعبوره من المقر العسكري إلى المقر السياسي أن يوحي للمواطنين أن محركات الدبابات مطفأة، وأن على فوهات المدافع كمامات، وهذا القائد الذي شباكه على شباك القصر يحتاج إلى قرارات تصدر على بعد آلاف الأميال ليتسلم مفاتيح القصر.
في هذا المجال لبنان لا يشبه محيطه بشيء، وهذا ليس دائماً مدعاة فخر أو تبجح. دول الجوار اللبناني حافلة بعسكريين قبضوا على السلطة، ومن دلائل قوتهم أنهم لا يتخلون عن زيهم العسكري.
في لبنان إذا أصبح القائد صاحب الفخامة يغلق الخزانة على زيه العسكري ويحتفظ بمسدس فردي تحت الوسادة. الصورة العسكرية المدججة بالأوسمة تبقى قوة احتياط يستعان بها إذا احتدمت الأمور على قاعدة "إن عدتم عدنا".
في العرف رئيس الجمهورية له الكلمة الفصل في تعيين قائد الجيش، ويحصل أحياناً أن الرئيس الذي عين القائد لا يريد أن يصبح القائد بدوره رئيساً، المشكلة أن ثمة عبارة منقوشة على مدخل السراي الحكومي لا القصر الرئاسي "لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك".
"صاحب الفخامة" غير معني بما يحصل عند "دولة الرئيس"، ومن شروط الرئيس العسكري أن يجرد من كل أسلحته، تلك ليست ثقافة ديمقراطية، بل وليدة الرعب المتبادل بين اللبنانيين، فهم نادراً ما يجدون رئيساً يجمعون عليه، فيلجأون إلى المؤسسة العسكرية التي تحافظ على نوع من الحياد لتستمر ضابطة إيقاع الرقصات المجنونة للقوى السياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي لبنان الحياد مطلوب للفوز بالوظائف العليا، خصوصاً القضاة والعسكريين، ما يمكن أن يعد شهادة لهم، هو أيضاً مأخذ عليهم، مأخذ يفضح هشاشة الوفاق الوطني، الذي لا يملك مناعة ذاتية.
السياسي يأتي بالقاضي وبالضابط، يرتدي القاضي الثوب، ويتمنطق العسكري بالمسدس، ثم يستفيضان في ذكر محاسنهما كموظفين لا تهزهما التجاذبات السياسية، ولا يرضخان للاشتباكات الطائفية، ولا تعنيهما المصالح الفئوية. هما ذاتهما، سواء كان القاضي أو الضابط، في اللحظة التي يبلغ فيها سن التقاعد، تراه يرفع راية الزعيم الفلاني، ويتنقل في المناصب بين مستشار ونائب ووزير. حتى الحياد في لبنان يمارس بسوء نية.
من شروط الانحياز في لبنان أن تمر بفترة حياد، هذا الكلام لا يستهدف أشخاصاً بعينهم، لكنه على منوال ما يكتب في بداية بعض الأفلام it's a true story، في المعتاد يتضمن الفيلم وقائع خيالية مضافة أو منتقصة لمزيد من التشويق.
قد يكسر هذا المنطق لو عرفنا عسكرياً زهد بالمنصب يوم قدم إليه، أعرف اثنين: واحداً في لبنان، وواحداً في السودان، اللواء الرئيس الأمير فؤاد شهاب رفض ولاية ثانية بعد قبوله الولاية الأولى، والمشير عبدالرحمن سوار الذهب دخل قصر الرئاسة وخرج بعد سنة بإرادته ووفاءً للوعد، ولم يتذرع للبقاء بـ"الظروف الاستثنائية".
هي جمهورية الوهم الدائم والأمل المنشود منذ أكثر من 100 سنة، وحدها الأوهام تبعد عن اللبنانيين اليأس، وعلى سيرة الأفلام حال اللبنانيين تشبه أحداث فيلمين أميركي وإيطالي، الأول عنوانه "ماذا فعلت في الحرب يا أبي؟"، وهو فيلم كوميدي من مرحلة ستينيات القرن الماضي عن بلدة إيطالية وافقت على الاستسلام للحلفاء في الحرب العالمية الثانية بشرط أن يسمح لها بتنظيم مهرجان احتفالي، المهرجان الصاخب تضمن أحداثاً توحي للطيران الحربي المحلق فوق الرؤوس وكأن قتالاً ضارياً يدور في البلدة.
كذلك عام 1997 خرج فيلم إيطالي بعنوان "الحياة جميلة"، عن أب وابنه الصغير، المعتقلين في معسكر للنازيين، وعلى رغم كل عمليات القتل والتعذيب ينجح الأب في إقناع ابنه أنهما يعيشان أكثر لحظات السعادة في حياتهما، ما أضيق العيش في لبنان "لولا فسحة الأفلام".