في كل مرة تتكرر فيها حوادث إطلاق النار بالولايات المتحدة الأميركية يتصاعد الجدل حول حرية حمل السلاح بيد المواطنين وتداعيات ذلك الأمنية، في بلد يعد الأول عالمياً من حيث امتلاك مواطنيه السلاح بواقع 88 قطعة لكل مئة شخص، وفق تقديرات رسميَّة.
لكن رغم تبادل الاتهامات بين أقطاب الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديموقراطي)، تبقى في النهاية حرية السلاح، المصانة دستورياً، دون أفق لنهاية الجدل بشأنها.
وغداة مقتل نحو 7 أشخاص وإصابة 20 آخرين في أحدث حادث لإطلاق النار عشوائياً بالبلاد، الذي شهدته مدينة أوديسا غربي ولاية تكساس الأميركية (جنوب)، بعد أن استولى مسلح على شاحنة للبريد الأميركي وفتح النار عشوائياً على سائقي سيّارات بالمدينة عادت الأصوات مجدداً للمطالبة بالتعاطي بجدية مع التهديد الذي بات يمثّله "إرهاب حاملي السلاح"، لا سيما في ظل التزايد الملحوظ في عمليات القتل الجماعي التي يرتكبها حاملو السلاح ولأسباب غامضة في أحيان عديدة، كما أنه من المنتظر كالمعتاد أن يحتل ذلك الملف مساحة كبيرة في الانتخابات الرئاسية المقررة 2020، بين مرشحي الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري المنتمي إليه الرئيس دونالد ترمب.
جدل وانقسام مستمر
لم يكن حادث أوديسا، أول من أمس، الأول من نوعه خلال العام الحالي، ولا حتى خلال شهر أغسطس (آب)، ففي الثالث من أغسطس (آب) قُتل 22 شخصاً، معظمهم من المنحدرين من أميركا اللاتينية، كانوا يتسوّقون في متجر مكتظّ من متاجر وولمارت في إل باسو.
وأوقفت الشرطة رجلاً أبيض يبلغ من العمر 21 عاماً، قال إنه استهدف أولا "مكسيكيين"، وبعد ساعات من حادث إطلاق النار في إل باسو، قُتل تسعة أشخاص أمام حانة في حي يعج بالحانات والملاهي الليلية في دايتون بولاية أوهايو.
وبعد إل باسو، اُتهم الرئيس ترمب بأنه أجج الكراهية حيال المهاجرين المنحدرين من أصول إسبانية. واستؤنف على أثر ذلك الجدل حول حيازة الأسلحة النارية.
وكتب المرشح الديموقراطي للرئاسة جو بايدن الذي كان نائباً للرئيس في عهد باراك أوباما "أشعر بالحزن والغضب. بعد أسابيع من هول إل باسو، تم ترهيب مجتمع آخر في تكساس بالعنف بأسلحة نارية. يجب أن نضع حداً لهذا الوباء".
وذلك بعد أن صرّح ترمب بعد حادثي دايتون وإل باسو أنه "لا مكان للكراهية في بلدنا، وسوف نعالج هذه المسألة".
وأضاف "يجب لهذا الأمر أن يتوقف. إنّه مستمرٌ منذ سنوات وسنوات في بلدنا". متابعاً "لقد أنجزنا الكثير، لكن ربّما بإمكاننا فعل المزيد".
وجاء تصريح ترمب بعدما ارتفعت أصوات كثيرة في الولايات المتحدة تطالب السلطات بالتعاطي بجدية مع ذلك التهديد.
في حين اتّهم الديموقراطيون الرئيس الجمهوري بتأجيج هذا العنف بتصريحاته المتفلتة، إذ قال بيتو أورورك المرشح الديموقراطي للرئاسة في تغريدة على "تويتر"، "نحتاج إلى وضع حد لهذا الانتشار الوبائي للأسلحة".
وعبَّر عن "تعاطفه مع كل شخص في تكساس يعاني من ذلك مجدداً".
أمَّا جوليان كاسترو رئيس بلدية مدينة سان أنطونيو السابق، فوجَّه نداءً إلى الجمهوريين الذين يسيطرون على الكونغرس الأميركي ويرفضون التحرَّك بشأن إصلاح قانون حيازة الأسلحة. قائلاً "ما هو العدد؟ بكم أميركي تريدون التضحية من أجل الجمعية الوطنية للبنادق" (إن آر إيه).
ويعد موقف الرئيس الأميركي حاسماً في هذه المسألة، لأن أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يعتمدون على أصوات مريدي حيازة الأسلحة، لا يمكنهم التحرك باتجاه قانون أكثر صرامة بلا دعمه.
لكن وسائل إعلام أميركية بينها صحيفتا "واشنطن بوست" و"ذي أتلانتيك" ذكرت في نهاية أغسطس (آب) نقلاً عن مصادر بالبيت الأبيض أن ترمب وعد رئيس "الجمعية الوطنية للبنادق" وين لابيار بأنه لن يضغط على الكونغرس من أجل فرض تدقيق مسبق وصارم على كل الذين يشترون أسلحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر ترمب من أبرز المدافعين عن حرية اقتناء السلاح، وسبق أن تعهد خلال حملته الانتخابية بالدفاع عن ذلك الحق "المقدّس" لدى فئات من الأميركيين، ورفع القيود التي وضعها الرئيس السابق باراك أوباما على شراء الأسلحة.
كما أن ترمب ليس وحيداً، فهناك فريق قوي يعارض بشدة وضع أي تشريعات من شأنها تقييد حق امتلاك الأسلحة، ويقود هذا التيار قيادات في الحزب الجمهوري المحافظ و"لوبي" شركات تصنيع الأسلحة أو ما يعرف بجماعات الضغط التي تتزعمها الجمعية الوطنية للأسلحة (إن آر أيه)، وتطالب بنشر مزيد من الأسلحة للدفاع عن النفس، ولهذه الجمعية تأثيرٌ فعلي على المشرعين الأميركيين في الكونغرس.
وحسب تقارير أميركية متواترة، فإن الجمعية الوطنية للأسلحة تنفق أموالاً أكثر من أي جماعة أخرى على أعضاء في الكونغرس، وتؤثر عليهم في شأن الدفاع عن حمل السلاح وعرقلة أي تشريعات لحظر بيعه، ما يجعل نفوذها كبيراً على مسار السياسة الأميركية الداخلية، وذلك رغم تزايد حوادث العنف المسلح بالولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية.
في المقابل، يدافع الديموقراطيون عن ضرورة إعادة النظر في "الحق المطلق للفرد حيازة السلاح" بسبب المستجدات التي طرأت على المجتمع الأميركي، واستخدام هذا الحق في جرائم متكررة.
ففي العام 2009 أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أنه سيعمل على إيجاد قوانين تحد من حمل السلاح، لكن الكونغرس رفض مشروعه في العام 2013. وهو ما أثار غضب أوباما الذي وصف تصرف الكونغرس بـ"المخجل".
تحت مظلة الدستور
لم يكن انتشار حمل السلاح بين الأميركيين بشكل عشوائي، إذ يحميه التعديل الثاني للدستور الأميركي، تحت بند "الحق المطلق للفرد"، الذي ينص على حق حمل السلاح لجميع مواطني الولايات المتحدة بغرض الدفاع عن النفس، إذ تقول المادة: "وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لذا لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها".
وينص القانون الأميركي على أن عملية شراء سلاح بشكل قانوني تستلزم تحري مكتب التحقيقات الفيدرالي عن بيانات سجل السوابق الجنائية للمشتري.
وتختلف القوانين المتعلقة ببيع الأسلحة من ولاية إلى أخرى، ففي تكساس يستطيع الفرد حمل السلاح من دون ترخيص، لأن القانون يبيح له ذلك.
وعلى الرغم من ذلك يوجد كثير من الطرق للالتفاف على تلك الإجراءات، إذ يمكن شراء الأسلحة والذخيرة عبر مواقع الإنترنت التي تعد سوقاً ضخمة بأسعار متدنية، إضافة إلى انتشار تهريب الأسلحة عبر الحدود المكسيكية وعصابات المخدرات المسلحة، وفق ما تقول تقارير صحافية أميركية.
وعلى مدار السنوات، تدافع مجموعات ضغط أميركية عن حق امتلاك السلاح الذي يقره الدستور في مواجهة أي تعديلات قانونية. وتشكل الرابطة الوطنية للأسلحة "أن آر أيه" (مقرها شمال ولاية فرجينيا) أقوي تلك المجموعات، إذ نجحت خلال السنوات الماضية في منع تقييد تجارة الأسلحة.
وأصدر الكونغرس قانونا وقعه الرئيس السابق بيل كلينتون عام 1994 يحظر التصنيع والاستخدام المدني للأسلحة النارية نصف الآلية والأسلحة الهجومية لمدة عشر سنوات، وتم تحديد 19 نوعا من الأسلحة النارية وتصنيف مختلف البنادق نصف الآلية والمسدسات والبنادق بأنها أسلحة هجومية، وانتهى ذلك الحظر في سبتمبر (أيلول) 2004، وصدرت دعاوى تطالب بتجديد الحظر.
كما أن المحكمة العليا الأميركية أصدرت عامي 2008 و2010 قراراً تاريخياً أكدت فيه أن التعديل الثاني للدستور يحمي حق الفرد في امتلاك سلاح ناري من دون أن يكون عسكريا أو مرتبطا بالجيش، في وقت أشارت فيه إحصاءات مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن طلبات الحصول على أسلحة نارية وصلت في عام إلى مليون طلب.
لماذا يستمر الجدل؟
رغم تكرار وتعدد حوادث إطلاق النار الفردية تحت أسباب مختلفة سواء أكانت "عنصرية"، أو "ذئاب منفردة"، أو إرهاب، فإن الانقسام بين الحزبين الكبيرين في البلاد بشأن التوافق على تقنين وضع انتشار الأسلحة، أبقى المسألة معلقة. إذ تعتبر تلك المسألة واحدة من أكثر القضايا التي يختلف حولها الحزبان الجمهوري والديموقراطي.
ويرى الديمقراطيون ضرورة إعادة النظر فيما يعرف بـ"الحق المطلق للفرد" في امتلاك الأسلحة، بسبب المستجدات التي طرأت على المجتمع الأميركي واستخدام هذا الحق في حوادث المتكررة، ويتمسك الجمهوريون أن امتلاك السلاح من الحقوق التي نصّ عليها الدستور، ويعتبرون أن السلاح هُوية أميركية يدعمها الدستور، ويرفضون أي قوانين يمكن أن تحجم امتلاك السلاح.
وحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإنه ورغم أن مسؤولي مكافحة الإرهاب لديهم سلطات واسعة على المستوى الخارجي (خارج الولايات المتحدة) لكنهم "داخليا لديهم خيارات أقل بكثير، فالقانون الفيدرالي لا يتضمن أي عقوبات ضد حمل السلاح".
من جانبها، ووفق تقرير حديث لمركز دراسة الكراهية والتطرف بجامعة سان بيرناردينو بولاية كاليفورنيا، أغسطس (آب) 2019، فإن جرائم الكراهية ارتفعت في عديد من المدن الرئيسية بالولايات المتحدة للعام الخامس على التوالي، مشيراً إلى أن 21 مدينة أميركية من بين 30 أهم مدينة شهدت زيادة في عدد تلك الجرائم بلغت نسبتها 9% في عام 2018. وذلك على خلفية تكرار حوادث إطلاق النار، التي اتسمت بالكراهية أو ما يعرف بـ"عنصرية البيض".
من جانبها، تعتبر مسؤولة أمن قومي سابقة بوزارة العدل الأميركية ماري ماكورد، أن ما تشهده الولايات المتحدة من عنف مسلح "مشكلة أخلاقية"، موضحة في تصريحات نقلتها عنها موقع "باز فيد" الأميركي، إن "الهيئات الأميركية العامة، ووكالات إنفاذ القانون، لا تتعامل مع الهجمات الجماعية الداخلية، بما فيها المرتبطة بالعنصرية ومعاداة السامية، بالاهتمام والإدراك نفسه الذي تتعامل به مع الهجمات التي ينفذها أجانب".
إحصاءات صادمة
يقول مكتب الأمم المتحدة بشأن المخدرات والجريمة إن "معدل حيازة السلاح بالنسبة لعدد السكان في الولايات المتحدة يصل إلى 88 قطعة سلاح لكل مئة شخص"، معتبرا أن تلك النسبة هي "الأعلى بين دول العالم".
وحسب بيانات مشروع سمول أرمز سيرفي، مقره جينيف، فإنه وعلى الرغم من أن عدد سكان الولايات المتحدة، الذي يبلغ نحو 330 مليون نسمة، يمثل أقل من 5% من سكان العالم، فإن هناك ما تتراوح نسبته بين 35% و50% من إجمالي عدد المدنيين يمتلكون سلاحاً.
فيما قال تقرير صدر عام 2016 عن كل من مجلس السلامة الوطني والمركز الوطني للإحصاءات الصحية الأميركيين (حكوميان)، أن "نحو 11 ألف شخص سنوياً يلقون مصرعهم في البلاد جراء حيازة السلاح، بينما يصل متوسط عدد الأشخاص الذين يتعرضون لإطلاق نار سنويا في البلاد إلى 100 ألف شخص".
كما كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي) أن "70% من جرائم القتل في الولايات المتحدة تتم بأسلحة نارية"، مشيراً إلى "أن هناك زيادة بنسبة 71% في عدد المسدسات النارية في البلاد منذ عام 1994، وزيادة بنسبة 38% في عدد الأسلحة النارية بشكل عام منذ ذلك العام".
من جانبها ووفق هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فإن الولايات المتحدة أنتجت 5.5 مليون قطعة سلاح فردي، وبِيعت 95% منها في السوق الأميركية، وأن 20% من مالكي السلاح في الولايات المتحدة يملكون 65% من الأسلحة الفردية لدى الأفراد بالولايات المتحدة.