Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الذكاء الاصطناعي يؤرق الفلاسفة ويشكل تحديا أمامهم

الأنظمة المستخدمة في هذه التكنولوجيا مثل "تشات جي بي تي" وخوارزميات المحادثة تشبه سجناء أسطورة الكهف في "جمهورية" أفلاطون

الذكاء الإصطناعي يجتاح الفكر (سوشيل ميديا)

ماذا يقول الفلاسفة عن الذكاء الاصطناعي؟ وما موقفهم من هذا التطور التكنولوجي الهائل الذي يتقاسمون معه عديداً من المفاهيم كالوعي والذكاء والمعرفة والعمل؟ وهل بالإمكان الحديث عن وعي وذكاء خارج الجسد الإنساني الذي قاربه موريس ميرلو-بونتي بوصفه منطلق معرفة العالم، مصححاً بذلك تقليداً فلسفياً طويلاً جعل من الوعي مصدر المعارف؟ وما الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والتربوية والإبيستمولوجية الأساسية التي تطرحها هذه التكنولوجيا التي باتت تشكل اليوم تحدياً معرفياً كبيراً؟ وما تأثيرها في الإنسانية والمجتمع؟

مما لا شك فيه أن ما يسمى الذكاء الاصطناعي بات اليوم موجوداً خارج الجسد الإنساني، وأن وجوده المعبر عنه باللغة والكلمات قد أصبح، على حد قول حنة آرندت، موضوعاً اجتماعياً بامتياز، هي التي توقعت في كتابها "أزمة الثقافة" الصادر في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، مجيء يوم لن يكون فيه الإنسان قادراً على الفهم والتفكير والتعبير عن الأشياء، وهي بالتأكيد أشياء يستطيع فعلها. عندها سيصير كل شيء بحسبها كما لو أن دماغ الإنسان وخلاياه العصبية التي تنطلق منها الأفكار والذكريات والسلوكيات والانفعالات والتحكم في الجسم وتنسيق قدراته على التحرك واللمس والشم والذوق والسمع والرؤية وتشكيل الكلمات والتحدث والتعامل مع الأرقام وتأليف وتذوق الموسيقى والتعرف إلى الأشكال الهندسية وفهمها والتخطيط للمستقبل والتخيل والفانتازيا، لم تعد قادرة على متابعة هذه الأفعال كلها، بحيث ستصبح البشرية في حاجة إلى آلات تتحدث وتفكر بدلاً منها. وقد تحقق فعلاً توقع آرندت. فكيف يقارب المفكرون اليوم هذه الإشكالية التي بدأت تؤرق كثراً؟

مكانة الإنسان

ترى الأميركية ميغان أوجيبلين الواقفة على مسافة واحدة من المهللين والمتخوفين من الذكاء الاصطناعي، والباحثة بموضوعية في المشكلات الأخلاقية والميتافيزيقية الناتجة من هذه التكنولوجيا، أن السؤال الأساس الذي تطرحه علينا هذه التقنيات يكمن في إعادة التفكير في مكانة الإنسان الواقف اليوم ما بين الآلة والحيوان والإله. وتقول لنا إن الأنظمة المستخدمة في هذه التكنولوجيا كروبوت "تشات جي بي تي" وكل خوارزميات المحادثة تشبه إلى حد كبير سجناء أسطورة الكهف في "جمهورية" أفلاطون، أولئك الذين حاولوا مقاربة المفاهيم والتصورات الواقعية انطلاقاً من صورها وظلالها المنعكسة على الحائط أمامهم، لكن "كهف" الذكاء الاصطناعي ليس شفافاً بحسبها كما في الأسطورة الأفلاطونية، إذ ليس بإمكاننا رؤية الظلال التي يحاول العاملون في حقل التكنولوجيا المعلوماتية خلقها انطلاقاً من المعطيات والمعلومات والبيانات التي يلتقطونها من هنا وهناك. فهل التعاون مع مهارة الذكاء الاصطناعي هو كالتعاون مع كائنات فضائية، أم هو تعاون مع ذكاء أقل أو أكثر قدرة من الذكاء الإنساني؟

 

 

قبل الإجابة عن كل هذه الأسئلة لا بد من تحديد الذكاء الاصطناعي والتساؤل عن قدرته على محاكاة الفكر البشري. في هذا المجال تعد أبحاث الفيلسوف الأميركي هوبرت دريفوس (1929 - 2017) في ميدان التبعات الفلسفية للذكاء الاصطناعي، وأبحاث عالم الإدراك الأسترالي ديفيد جون تشالمرز المولود عام 1966 المتخصصة في فلسفة العقل واللغة، وأعمال الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي، عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية دانيال آندلر المولود عام 1946، مرجعنا في هذا المجال. وهي تعلمنا كلها أن الذكاء الاصطناعي هو أولاً علم من علوم الكمبيوتر مخصص لحل المشكلات المعرفية المرتبطة عادة بالذكاء البشري، مثل التعلم والإبداع والتعرف إلى الصور، انطلاقاً من كميات كبيرة من البيانات والمعلومات التي يلتقطها الحاسوب من مصادر متنوعة مثل أجهزة الاستشعار الذكية والمحتوى الذي ينشئه الإنسان وأدوات المراقبة وسجلات النظام وغيرها من المصادر. تهدف هذه التكنولوجيا إلى إنشاء أنظمة ذاتية التعلم تستخلص المعاني من البيانات، وإلى تطبيق هذه المعرفة بغية حل المشكلات بطرق تشبه عمل العقل الإنساني، كالاستجابة للمحادثات البشرية، وإنشاء صور ونصوص أصلية، واتخاذ القرارات وتسريع الابتكارات بناءً على مدخلات البيانات في الوقت الفعلي. وقد تطورت هذه التقنية منذ عام 1950، حين نشر الفيلسوف البريطاني وعالم المنطق والرياضيات ومحلل الرسائل المشفرة ومطور علم الحاسوب النظري والواضع الرسمي لمفهومي الخوارزمية والحوسبة آلان ماتيسون تورنغ (1912 - 1954)، ورقة بحثية بعنوان "آلات الحوسبة والذكاء"، التي درس فيها مدى إمكانية قيام الآلات بالتفكير واستكشاف ما إذا كانت أجهزة الكمبيوتر يمكنها نسخ اللغة المنطوقة وترجمتها، ناحتاً لأول مرة مصطلح الذكاء الاصطناعي ومقدماً إياه كمفهوم نظري وفلسفي. بعده طور العلماء خوارزميات تعلم الآلة فأصبحت قادرة على تحليل كميات كبيرة من البيانات وتزويدنا بالمعلومات واتخاذ قرارات أكثر ذكاءً وترجمة كلمات ونصوص إلى كل اللغات والعمل على مدى الساعة طوال أيام الأسبوع من دون أن تنخفض معدلات الأداء، وأداء المهام اليدوية بلا أخطاء، والتركيز على المهام المتكررة والمملة، وتحديد الاتجاهات وتقديم التوجيه... إلخ. وكل ذلك من خلال محاكاة عمل الدماغ البشري وخلاياه العصبية.

عدم محاكاة الفكر

وقد فاجأ عالم الإدراك ديفيد جون تشالمرز متابعي أبحاثه حين أقر في إحدى دراساته بأن نسبة احتمال ظهور ذكاء اصطناعي "واع" قد تصل إلى 20 في المئة في الـ10 سنوات المقبلة، لكنه سرعان ما توصل إلى خلاصة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع محاكاة الفكر الإنساني، لأن الآلة لن تكون قادرة على القيام بالوظائف العليا التي يقوم بها الدماغ على نحو كامل، ما دام الإنسان هو الذي يقرر.

أما في كتابه المعنون "الذكاء الاصطناعي، الذكاء البشري، اللغز المزدوج" الصادر في باريس (غاليمار 2023)، اعترف دانيال آندلر أن الذكاء الاصطناعي الذي يحلق اليوم في سماء الإبداع التكنولوجي لا يزال غامضاً، لا بل إنه، على رغم تقدمه الهائل، فلا تزال الفجوة بينه وبين هدفه المعلن إعادة إنتاج الذكاء البشري تتسع. ولعله في مقاربته هذا اللغز، اضطر إلى التفكير بلغز آخر، عنيت لغز الذكاء البشري. وها هو ذا يقول لنا إن عمل الذكاء البشري لا يقتصر على حل المشكلات، بل يتعداها ليتصل بالطريقة التي يواجه بواسطتها المواقف التي يجد الإنسان نفسه فيها. فالذكاء البشري هو مفهوم لا يمكن التقاطه وهو غير قابل للاختزال، مثله مثل الحكم الأخلاقي أو الجمالي. ولئن كان الذكاء البشري، وهو البراعة الفكرية المتصفة بالوظائف المعرفية المعقدة والمستويات العالية من الدوافع والوعي الذاتي والقدرات على صياغة المفاهيم والفهم واستعمال المنطق، بما في ذلك القدرة على التعرف إلى الأنماط وفهم الأفكار والتخطيط وحل المشكلات واتخاذ القرارات والاحتفاظ بالمعلومات واستخدام اللغة للتواصل، فإن النظام الاصطناعي الذي يطلق عليه صفة "الذكي" يتعرف فقط إلى المشكلات من دون فهم الأوضاع التي ترافقها. من هذه الزاوية لا يمكن للذكاء الاصطناعي برأي آندلر مجاراة الذكاء البشري أو تجاوزه، ولو كانت البشرية من وجهة نظره في حاجة إلى أدوات قوية ومتعددة الاستخدامات، لكنها بالتأكيد ليست في حاجة إلى أشباح مزيفة مزودة بأشكال "زومبية" من الإدراك. ولعل عدم التحكم التام بهذه "الأشكال الوحشية" من الآلات التي صنعها الإنسان في غياب مفهوم واضح ومحدد للوعي والإحساس، جعل معظم المفكرين يعيدون النظر بمواقفهم من العلاقة بين الإنسان والآلة، التي أصبحت اليوم قادرة على التلاعب به وعلى إخضاعه لسلطتها، إذ أصبح السؤال الأساس يتمحور حول كيفية حماية أنفسنا من نفوذ هذا الذكاء ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءه.

المعايير الأخلاقية

في كتاب آخر صدر عن دار فلاماريون عام 2021 بعنوان "تأنيب الروبوتات، مقدمة في أخلاقيات الخوارزميات"، فكر مارتان جيلبير في تغلغل الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، بدءاً من السيارات ذات القيادة الذاتية، مروراً بالروبوتات العسكرية، وصولاً إلى المساعدين الافتراضيين للأطفال والمسنين، المدعوين إلى اتخاذ قرارات تتعلق بسلامتنا، طارحاً سؤال برمجة هذه الروبوتات كأن تصبح قادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة عند مواجهتها عدداً من الخيارات. من هنا كان سؤاله عن المعايير والقيم الأخلاقية التي يجب على الروبوتات اتباعها وعن إمكانية وجود روبوتات "جيدة" أو"سيئة" كما هو الحال عند البشر. قادت هذه التساؤلات المفكر إلى الاهتمام بمسألة أخلاقيات الخوارزميات والغوص في أعماق النظريات المختلفة حولها، فاستكشاف مجال جديد في الفلسفة، عنيت مجال أخلاق الذكاء الاصطناعي. وقد خلص في كتابه هذا إلى الاعتراف أن الذكاء الاصطناعي لا يزال لغزاً محيراً، لا يتحكم الإنسان في أسراره، ولا يفهم دوماً ردود فعله المعروفة باسم "هلوسات الذكاء الاصطناعي"، مستشهداً بحادثة الطائرة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والتي تمردت على مشغلها إثر اختبار فقتلته، أو البيانات التي تتضمن الأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة، مشيراً إلى أن الإنسان يلعب بالنار حين يعطي الآلة حقه في الاختيار ويفوضها أخذ القرارات بدلاً منه، وهو الذي يأخذ قراراته تحت تأثير كم من الاعتبارات الثقافية والإنسانية والدينية التي تختلف من مجتمع إلى آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كيف يحمي الإنسان نفسه من نفوذ الآلة التي اخترعها ومن نفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها، حتى لا يكون مصيره كمصير فيكتور فرانكشتاين بطل رواية ماري شيلي (1797-1851)؟

 يقول دانيال آندلر في مقابلة أجريت معه إن الهوة قد أصبحت عميقة بين السباق المستعر الذي تقوده المجموعات التي تحتكر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لأغراض ربحية والتفكر الفلسفي الذي يتناول تبعات هذه التكنولوجيا على الصعد الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، التي تتطلب الروية والتأمل والبحث الدقيق. غير أنه سرعان ما يشير إلى أن كبريات شركات التكنولوجيا كـ"غوغل" قد أدركت أهمية دور الفلسفة في تطوير هذه الخوارزميات، وهي تتعاون منذ فترة مع عدد من الفلاسفة في عمل أنظمتها الذكية بغية التأكد من بقائها داخل نظم الأخلاق العامة. ولا بد في هذا السياق من الإشارة أيضاً إلى أن التفكر الفلسفي في عمل هذه الآلات ليس فقط من جهة معالجتها المعلومات وبناء تسلسل اللغات والاستدلال على المعرفة، بل أيضاً من جهة نمذجتها السلوكيات الإنسانية ومحاكاتها ظواهر التفكير البشري وإعادة إنتاج اصطناعية للعمليات نفسها التي يفترض أن ينتجها الفكر الإنساني، قد بدأ يسلك سبيله بخطوات واثقة.

باختصار، يعود بنا موضوع الذكاء الاصطناعي إلى الأسئلة الفلسفية الأولى التي طرحها كل من ديكارت ومونتاين وباسكال ولايبنتيز عندما تأملوا في طبيعة الإنسان وعلاقته بالآلة وأوجه الشبه والاختلاف بينهما، أو بشكل أكثر تحديداً إلى ليوناردو دا فينشي الذي حاول الربط بين التشريح والميكانيكا في تصميم آلاته، جاعلاً من سؤال الآلة جزءاً لا يتجزأ من سؤال الإنسان. من هنا نفهم فلسفة هايدغر ونقده التقنية التي ظلت في نظره مصير العصر الذي نعيش فيه وقدر وجودنا، مما استوجب التفكير في ماهية هذه التقنية ووظيفتها، ليس فقط من جهة الخطر والتهديد الذي تحمله للإنسانية وحسب، بل أيضاً من جهة الوعود التي تقدمها لها.  

فهل يفتح لنا الذكاء الاصطناعي صندوق باندورا جديداً تخرج من جسيماته وأشيائه النانومترية وخوارزمياته المعقدة مشكلات متعلقة بتجسيد الفعل ودور العاطفة والعقل البشري، بحيث تسيطر الآلة على الإنسان فتسيره أو يتمرد هو نفسه على اختراعاته، معيداً التفكير في هذا المصطلح وعلاقته بالعقل والوعي والخوارزميات الرياضية؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة