ملخص
تتخذ المنشورات الورقية أشكالاً مختلفة منها قصاصات ورقية بيضاء تحمل شعار الجيش، وعبارات التهديد والترهيب المكتوبة بلغة عربية ركيكة.
ما إن رأت وفاء عبد الرحيم (40 سنة)، سماء غزة تمطر أوراقاً حتى بدأت البكاء والعويل، فقد باتت على دراية تامة بأن المنشورات التي تلقيها الطائرات الاسرائيلية فوق سماء القطاع بين حين وآخر، تحمل في طياتها معاناة جديدة أشد قسوة وألماً من سابقتها.
كيف لا وقد اضطرت بعد مقتل زوجها وأقربائها خلال غارات إسرائيلية شمال القطاع وتصنيفه كمنطقة عمليات عسكرية خطرة على المدنيين للنزوح مع أطفالها الخمسة خلال هذه الحرب ثلاث مرات الأولى إلى مشفى الشفاء، وبعد قصفه توجهت للمناطق الوسطى، والآن يطالبهم الجيش الإسرائيلي بالنزوح إلى رفح جنوباً.
وتصف عبدالرحيم شعورها قائلة "أقف ساعات وساعات في طوابير من أجل الحصول على رغيف خبز أو شربة ماء لأطفالي، وأحياناً كثيرة لا أنجح في هذه المهمة التي يتزاحم عليها ملايين النازحين، وهذا ما تريده إسرائيل من الحرب أن نفر من الموت إلى الموت".
وفي إطار الحرب النفسية على السكان يلقي الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي منشورات على مناطق مختلفة من قطاع غزة، تهدف بصورة أو أخرى لإجبارهم على النزوح وإخلاء منازلهم، والتأكيد بصورة متواصلة على تدمير "حماس" وبقية الفصائل الفلسطينية، واضعاً ذلك في "إطار الجهود المكثفة لتحرير الرهائن الإسرائيليين والأجانب المحتجزين في غزة".
وتتخذ تلك المنشورات الورقية أشكالاً مختلفة، منها قصاصات ورقية بيضاء تحمل شعار الجيش وعبارات التهديد والترهيب المكتوبة بلغة عربية ركيكة، وأخرى أقل وطأة على هيئة نصائح وتحذيرات.
وجاء في بعض المناشير "إن كنتم تريدون مستقبلاً أفضل لكم ولأولادكم، افعلوا الخير وأرسلوا لنا معلومات ثابتة ومفيدة تخص المخطوفين في منطقتكم"، وأخرى كتب فيها "يعدكم الجيش الاسرائيلي بأنه يعمل الجهد الكامل كي يحافظ على أمنكم وسلامة بيوتكم"، و"هذه فرصتكم الأخيرة لتضمنوا لأنفسكم مستقبلاً أفضل".
تهرب قانوني
وفي المقابل يرى المحلل السياسي عصمت منصور أن أسلوب المناشير الورقية الذي تتبعه إسرائيل من عقود يندرج في إطار تحطيم نفسية الفلسطينيين وتشيتهم عقلاً وجسداً، مشيراً إلى أن الجيش يستخدم المناشير للتهرب من أي مساءلة قانونية دولية أمام العالم ومنظمات حقوق الإنسان.
وأضاف، "في ظل انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصال والإنترنت تلقي إسرائيل كماً هائلاً من المناشير لترفع مسؤوليتها القانونية عن مقتل المدنيين في المناطق المستهدفه، بدعوى أن الجيش قد أنذر السكان قبل القصف وطلب منهم إخلاء منازلهم".
من جهته يقول الخبير في الشأن العسكري والاستراتيجي واصف عريقات "إن الجيش يعتبر المنشورات الورقية الملقاه من الطائرات امتداداً لحربه العسكرية على قطاع غزة التي يسعى من خلالها إلى جلب معلومات استخباراتية من الفلسطينيين عن أماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية بخاصة، وأن كل المنشورات تكون مزودة بأرقام هواتف وطرق للتواصل مع الجيش"، مؤكداً أن "المنشورات التي تقدم للفلسطينيين الحماية والتعويضات في مقابل المعلومات لم تفلح حتى اليوم في الكشف عن أية معلومة عن أماكن احتجاز الأسرى أو الطرق المؤدية للأنفاق وأماكن إطلاق الصواريخ".
ردود متبادلة
ومع اشتداد وتيرة الحرب وأمدها على القطاع صعّدت إسرائيل من هذه الأساليب وبدأت باستخدام منشورات ورقية مليئة بعبارات تهكمية وساخرة، تشكك في قدرة الفصائل الفلسطينية على حماية المدنيين.
وقبل أيام ألقى الجيش منشورات مطبوعة على عملات ورقية مزيفة من فئة 200 شيكل على حي الدرج والتفاح شرق مدينة غزة، عرض فيها مكافأة مالية كبيرة لمن يدلي بمعلومات عن قادة "حماس" في غزة، معتبراً أن الحركة "فقدت قوتها وعاجزة عن قلي بيضة، وأن نهايتها باتت وشيكة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكتب الجيش في المنشور "من يقدم معلومات عن رئيس ’حماس‘ في غزة يحيى السنوار سيحصل على مكافأة مالية بقيمة 400 ألف دولار"، مضيفاً "من أجل مستقبلكم قدم المعلومات التي تمكننا من القبض على الأشخاص الذين جلبوا الدمار والخراب للقطاع". وأرفق بهذه المنشورات أرقاماً للتواصل ورموز استجابة سريعة وحساباً على منصة "تيليغرام" وتطبيقات أخرى لضمان السرية.
من جهة ثانية رد القيادي في "حماس" عزت الرشق على المنشورات الإسرائيلية بتصريح مقتضب عبر منصة "تيليغرام" قائلاً "لا وقت لقلي البيض، مقاومونا منشغلون بشواء الميركافا (دبابة إسرائيلية)".
وفي ما يقلل سكان قطاع غزة من هذا النوع من المنشورات ويعتبرونها مجرد ثرثرات، بينت صور ومقاطع فيديو تداولها ناشطون فلسطينيون لعائلات تقوم بجمع هذه المنشورات الورقية التي عادة ما تكون بأعداد كبيرة للغاية، ويستخدمونها لاحقاً في إشعال النار للطبخ أو التدفئة، بخاصة مع اشتداد البرد وشح البطانيات والانعدام التام لوسائل التدفئة الكهربائية أو تلك التي تعمل بالغاز أو الكاز.
خريطة إخلاء
ولم تقتصر المنشورات الورقية لسكان القطاع على بث رسائل التهديد والوعيد والتعهد بالمكافات والتعويضات، بل تطورت إلى خرائط وطرق تبين مناطق إخلاء لسكان القطاع، وتعليمات مفصلة لأماكن النزوح التي يقترحها الجيش الإسرائيلي على السكان للتوجه إليها باعتبارها آمنة.
وأشار الجيش الإسرائيلي في بيان إلى أنه "سيحدد مناطق الإخلاء من خلال رسائل ومناشير ورقية ترسل إلى سكان غزة توجههم من خلالها إلى إخلاء مناطق معينة والانتقال عن طريق الشوارع ذات الصلة".
وأضاف، "في الخريطة المنشورة تظهر أرقام مناطق الإخلاء (بلوكات) في شمال القطاع وجنوبه، مع نداء إلى السكان للعثور على البلوك ذي الصلة بمكان سكنهم والتصرف في حال طلب منهم الانتقال منه"، مؤكداً أنه "تم نشر الخريطة على صفحة خاصة على موقع الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، وضمن مناشير وزعها الجيش في قطاع غزة".
وزعم الجيش أنه يريد من خلال تقسيم خريطة القطاع لأكثر من 2300 بلوك "تجنب إيقاع خسائر في أرواح المدنيين".
بدوره ادعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي أن "إسرائيل لا تطلب من سكان غزة مغادرة القطاع بل مغادرة الأماكن التي تجري فيها عمليات عسكرية، والإخلاء من مناطق القتال ليتم التمييز بين المدنيين والمسلحين".
وقال عبر حسابه الرسمي على منصة "ميتا" في مقطع فيديو وجهه إلى سكان القطاع، "هذه الخريطة ستساعدكم في المراحل اللاحقة من الحرب على التوجه وفهم تعليماتنا والانتقال عند اللزوم من أماكن معينة في حال طلب منكم القيام بذلك"، وتابع "سنبذل جهدنا للإجلاء فقط إلى أرقام البلوكات ذات الصلة في النداء للانتقال إلى مناطق أخرى".
وبالنسبة إلى سكان القطاع فإن انقطاع الكهرباء لشحن الهواتف والأجهزة وانهيار نظام الاتصالات بانتظام، يجعل من متابعة الخرائط عبر خرائط "غوغل" أمراً مستحيلاً، وسبباً جديداً لرفع حال الإرباك والهلع .
ووفقاً لصحيفة "غارديان" البريطانية فقد حذر عمال إغاثة إنسانية من أن نظام الشبكة (البلوكات) الإسرائيلي الجديد الذي نشرته إسرائيل عبر خرائط "غوغل" في شأن تحذيرات الإخلاء المستهدفة في جنوب قطاع غزة "يخاطر بتحويل الحياة في القطاع إلى ما يشبه المتاهة، مما يشكل بدوره خطراً على السكان".
وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن السكان "ليس لديهم طريقة موثوقة لمعرفة خريطة التنقل".
وأضاف بيان المنظمة الأممية، "المناشير الورقية لا تحدد المكان الذي يجب إجلاء الأشخاص إليه، ومن غير الواضح كيف سيتمكن سكان غزة من الوصول إلى الخريطة من دون كهرباء وفي ظل الانقطاع المتكرر للاتصالات".
طرق جديدة
وفي الضفة الغربية لم تكن مناشير الجيش الإسرائيلي أثناء الاقتحامات والاعتقالات لمن يعتبرهم "إرهابيين" أقل وطأة من تلك التي تلقى في سماء غزة، وتركز المنشورات التي يلصقها الجنود على الجدران في المخيمات والقرى وعلى أبواب المنازل المستهدفة في معظمها على استخدام اسلوب التهديد، لبث الرعب في نفوس الناس من إيواء "مطلوبين" لإسرائيل والمطالبة بتسليمهم، أو تحذيرهم من التعامل مع فصائل مسلحة ومساندة من فيها بصورة أو بأخرى.
وجاء في إحدى المنشورات "ألق السلاح، الإرهاب هو الطريق المؤكد للموت" و "سلم نفسك من أجل عائلتك" و "لا تقفوا مكتوفي الأيدي حافظوا على أولادكم".
وفي بلدة حزما شمال شرقي مدينة القدس عمد الجيش الإسرائيلي إلى وضع منشورات وملصقات تحذيرية على أطراف صناعية، وتركها في الشوارع وبين المنازل كتب عليها "من يلعب بالسيف قد يقطع رجله".
وفي مخيم جنين شمال الضفة الغربية دعت المنشورات التي تصاعدت وتيرتها أخيراً سكان المخيم "العيش بسلام" من خلال "مساعدة الجيش في اعتقال المطلوبين"، لأن ذلك بحسب المنشور "سيقلل الاقتحامات والتدمير في المخيم".
وفي مناطق جنوب الخليل جنوب الضفة الغربية، يتلقى الفلسطينيون المنشورات الاسرائيلية بالصوت والضوء عبر طائرات مسيرة ناطقة، ووفقاً للسكان فهناك تعمد الطائرات المسيرة بث منشورات صوتية على مدار ساعات مصحوبة بأضواء ساطعة بقصد إزعاجهم وتهديدهم.
تقول إحدى تلك المنشورات، "أي شخص يفكر بعمل شيء ما ضد الجيش أو المستوطنيين سنصله وسنقتله، احذروا وحذّروا أبناءكم".
صورة قاتمة
ويرى مراقبون أن تطور أسلوب المنشورات الورقية الذي تعتمده إسرائيل منذ احتلالها الضفة الغربية عام 1967 لنشر الأوامر العسكرية والتهديدات لم يثبت قدرتها على زعزعة ثقة الفلسطينيين وترهيبهم، وأنها مجرد حبر على ورق.
وفي خضم الحرب النفسية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في حربها على غزة باستخدام المنشورات الورقية وغيرها، قالت القناة الـ "12" الإسرائيلية إن تحليلاً أجرته شركة "ميغ أي آي" كشف عن أن الغالبية المطلقة للمنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي والمقالات في وسائل الإعلام الدولية الكبرى هي ضد إسرائيل.
وبحسب التحليل فإن 83 في المئة من المنشورات على الإنترنت المتعلقة بالحرب هي ضد إسرائيل، وتسعة في المئة فقط لمصلحتها.
وفي المواقع الإخبارية الكبرى نجد أنه في مقابل كل تقرير إيجابي تجاه إسرائيل هناك ثلاثة تقارير تقدم إسرائيل بصورة سلبية، ومن أصل 372 ألف مقالة عن الحرب هناك 64 في المئة منها كتبت بحيادية، و28 في المئة ضد إسرائيل وثمانية في المئة لمصلحتها.