Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلمان يطرحان رؤية غامضة للمستقبل في "الجونة"

من مأساة الفلسطينيين تحت الاحتلال إلى أزمة المهاجرين في الضواحي الفرنسية

من الفيلم الفلسطيني "الأستاذ" (ملف الفيلم)

بعد عرضه في مهرجان "البحر الأحمر" حيث فاز بجائزتين، شق فيلم "الأستاذ" للمخرجة الفلسطينية البريطانية فرح النابلسي طريقه إلى "مهرجان الجونة السينمائي" (21-14 الجاري) في إطار البرنامج المخصص لفلسطين تضامناً مع غزة. الفيلم كانت افتتحت عروضه في مهرجان تورونتو الأخير، في سبتمبر (أيلول) الماضي. النابلسي مخرجة أربعينية ولدت وعاشت في بريطانيا وعملت فيها كناشطة حقوق إنسان ومنتجة، وهي لا تتحدّث العربية بطلاقة، لكن يربطها إحساس ووعي بجذورها وتاريخها ومعاناة شعبها على مر الزمن، وهذا يكفي أحياناً، في الكثير من الأحيان، لصناعة فيلم. أما إذا كان يكفي لصناعة فيلم جيد ومتماسك يقول ما يستحق التوقف عنده وتحليله والبناء عليه، فهذا بحث آخر.

هذا أول فيلم روائي طويل للنابلسي التي كانت قدّمت فيلم "الهدية" (2021) عن أب وابنته من الضفة الغربية يحاولان عبور إحدى نقاط التفتيش الإسرائيلية لشراء هدية في مناسبة عيد الزواج. في "الأستاذ"، تعيد النابلسي موضوعة الأحداث في ضوء الاحتلال، في نوع من امتداد لعملها السابق مع بلورة نواح عدة منه. وتسهم مشاركة صالح بكري بدور البطولة في الفيلم بتعزيز إحساس الترابط بين الفيلمين. فهو الذي كان يجسّد شخصية الأب في العمل القصير، يؤدي هنا دور الأستاذ بأبوية واضحة، لكونه المؤتمن على الأجيال الصاعدة في الضفة الغربية. لكن، أي مستقبل ينتظر هؤلاء الشباب الذين سُلبوا أبسط أحلامهم؟ هذه ليست فرضية، بل واقع ملموس يعيشه أحد طلاب الأستاذ الذي يجد نفسه أمام أزمة تقلب وجوده: تدمير منزل أهله أمام عينيه على يد السلطات الإسرائيلية وقتل شقيقه على يد مستوطن كان يضرم النار في بستان الزيتون مدفوعاً بالحقد. إنها الحادثة التي ستزج الشاب في حالة نفسية غير مسبوقة. يهتز كيانه فيحاول إحقاق العدالة عبر الانتقام، لكن الأستاذ يحاول مراراً إعادته إلى رشده. في تلك الأثناء، تدخل مُصلحة اجتماعية تابعة لإحدى الجمعيات غير الحكومية على الخط، لتخلق بعض التوازن بين المقاربات والنظرات المختلفة، وتبث بعض النعومة النسائية في فيلم يحتاج إلى هذه الرؤية من الخارج والنظرة البريئة على الأحداث. هذه البريطانية تغدو شاهدة على ما يجري وهي نوعاً ما الجانب العقلاني للفيلم والعنصر الذي يمنع انزلاقه إلى الهاوية. بيد أن الفيلم لا يقتصر على هذا. ففي المعسكر الثاني، أي الاحتلال، ثمة جندي إسرائيلي خطفته جهة فلسطينية للمطالبة بالإفراج عن بعض الأسرى، وها أن والديه يصلان إلى إسرائيل لمواكبة عملية البحث عنه التي كُلِّف بها قائد الاستخبارات مستخدماً كل الوسائل المتاحة.

 

الفيلم مدروس وعاقل وشجاع وواقعي في الوقت عينه، غير ممسوك تماماً على مستوى الإيقاع، خصوصاً في جزئه الأول، ولكن فعّال ويأتي بنتائج مرضية في الفصل الأخير. كل الأحداث التي نتابعها والتي يحملها صالح بكري على كتفيه في أداء ممتاز، يفرز عنها كشف للوضع الذي يرزح تحته الفلسطينيون، ولكنه كشف مقتصد لا يعود إلى الأساسيات لفهم الصراع. صحيح أن لا جديد في هذا كله، لكن الحبكة تفعل فعلتها. والفيلم يائس ومتقبّل ليأسه فلا يقدّم أي حلول، بل كل ما يدعو إليه هو الثأر كبديل لغياب العدالة والعقاب.

عُرض "الأستاذ" للمرة الأولى في سبتمبر الماضي، وحدث ما حدث في فلسطين طوال الشهرين الماضيين. كان يُمكن التحدّث عن مصادفة غريبة أو توارد أفكار، لولا إننا نتحدّث عن بلد يعيش أحوال طبيعية. لكن نحن أمام ظروف مكرورة ومستعادة ومتشابهة لم تشهد أي معالجة. ففي مشهد من الفيلم، يسأل الطالب أستاذه إذا كان لا يزال يؤمن بالعدالة بعد كل ما عاشه... سؤال قد يطرحه أيضاً أي طفل من غزة.

هناك في "الأستاذ" مشهد دهم لمنزل المستوطن بحثاً عن العدالة التي لم تتحقق في المحكمة الإسرائيلية، يتكرر على نحو شبيه جداً في "المنبوذون" للمخرج الفرنسي من أصول مالية لادج لي (شاهدناه في الجونة)، ذاك أننا نرى شاباً غاضباً من أصول مهاجرة يقتحم منزل العمدة المعادي للمهاجرين ويحاول إضرام النار فيه. لكن شتّان ما بين مفهوم العدالة في العمل الأول، ومثيله في الثاني.

بؤساء الضواحي

في عام 2019، قدّم لادج لي باكورته "البؤساء" التي عُرضت في مسابقة الدورة 72 من مهرجان "كان"، حاملاً إيانا إلى المنطقة حيث تتشابك الثقافات، الشلل، العصابات، وكل الذين نصبوا أنفسهم أولياء على البسطاء من الناس. هؤلاء الذين يعتبرهم لادج لي "بؤساء"، في إشارة إلى فيكتور هوغو الذي كتب روايته الشهيرة في مونفرماي (سين سان دوني)، البقعة التي تجري فيها أحداث الفيلم.

جديده لا يختلف عن عمله الأول، بل إنه امتداد له، تنويعة، قراءة مسيسة بأسماء ووجوه أخرى، ويبدو أن هذا المخرج في طريقه إلى تقديم ما يشبه الثلاثية عن الضواحي. صحيح أنه يرى الأشياء من زاوية أخرى ومنظور آخر، لكن يبقى مع ذلك وفياً لأشيائه. يجب التذكير أيضاً أن بين الفيلمين، هذا وفيلمه السابق، كتب لي سيناريو "أتينا" لرومان غافراس، عن أزمة الضواحي، وهو فيلم أحدث ضجة كبيرة لدى عرضه على "نتفليكس" في فرنسا في أواخر العام الماضي. هذا كله للقول إن المُشاهد المطلع يعرف جيداً ماذا ينتظره وهو يدخل الصالة، فخلفية لادج لي وخطابه ما عادا من الأسرار، والفيلم بهذا المعنى يقدّم وجبة دسمة من الالتزام بقضية يؤمن بها وقد حوّلها إلى "عدة الشغل" الخاصة به، والمقصود بهذه القضية الانتصار للبؤساء من المهاجرين والمنبوذين منهم، وذلك من دون النظر في عمق الأزمات عند الجانبين المتخاصمين. علماً أنه يجب التنويه أيضاً بأنه لا يدين أحداً ولا يبرر لأحد، بل يصوّر المواجهة بروح يائسة تتوقّع الأسوأ. وفي الحقيقة، لادج لي لا يهتم الا بمخاطبة ناس من معسكره، متجاهلاً المترددين أو الواقفين في الضفة المقابلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خطّة لإعادة هيكلة أحد الأحياء السكنية المليئة بالمهاجرين، تجعل رئيس بلدية، منتخباً حديثاً يأخذ قراراً بهدم أحد المباني. هذه ستكون بداية المواجهات بين السكان وفعاليات المدينة. هناك وسط هذه المعمعة شابة طموحة تُدعى هابي وهي تخطط للترشّح لمنصب العمدة. باختصار، إنها القصّة الأبدية لأزمة الضواحي والطبقة السياسية التي تحاول حماية مصالح النافذين.

يصوّر الفيلم المهاجرين ومَن معهم وضدهم، ومَن يراهم وحوشاً ضارية ومَن يعتبرهم ضحايا، والشارع ينقسم بين مَن يؤمن بهذا ومَن يصدّق ذاك. لكن، في النهاية، هناك حقائق تُعاش بوتيرة يومية، قد لا نجدها في هذا الفيلم ولا في غيره، لأنها موزّعة هنا وهناك بأشكال متفاوتة، ولا يمكن لنص بصري أن يستوعبها، خصوصاً إذا كان مشغولاً بصناعة إثارة شكلية أكثر منها دراسة معمّقة لأحوال الناس وظروفهم.

أفلام لي عن الغضب عموماً، ذلك الغضب المتصاعد من خلال حفنة شخصيات لا يمكن للمُشاهد الدفاع عنها أو الانتصار لخياراتها، و"المنبوذون" لا يشذ عن القاعدة. يحاول لي أن يصوّر التفاوت الطبقي موظّفاً قضية السكن هذه المرة، إلا أن مشكلته أنه لا يسمع كثيراً إلى الفرنسيين من أصول فرنسية. يطرح الفيلم قضايا عدة (أزمة السكن، الهجرة، صعود اليمين)، لكنه يبقى على سطح كل منها، متأرجحاً بين الروائي والتوثيقي، ومقدّماً رؤية غامضة لمستقبل العيش المشترك في فرنسا.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما