ملخص
وضعت إسرائيل نصب أعينها منذ اليوم الأول للحرب إسقاط حكم "حماس" في القطاع وإنهاء قدراتها العسكرية التي تطورت ونمت بصورة غير مسبوقة
بينما يتزاحم سكان قطاع غزة على رغيف خبز وشربة ماء لإنقاذ أنفسهم وأطفالهم المكدسين في أروقة المستشفيات ومراكز الإيواء وخيم النزوح التي بالكاد تقي برد الشتاء، تتسارع التصريحات والنقاشات والتحليلات، سواءً على المستوى الرسمي، أو حتى على مستوى معاهد أمن قومي وتفكير استراتيجي في إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى، حول مستقبل غزة، الذي يرى كثر أنه يجب أن يشمل تغييراً سياسياً وليس حسماً عسكرياً فقط، يفتح المجال لإحداث تغييرات حقيقية على صعيد الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
بعد هجوم "حماس" المباغت يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على مستوطنات غلاف غزة، وضعت إسرائيل نصب أعينها منذ اليوم الأول للحرب إسقاط حكم "حماس" في القطاع وإنهاء قدراتها العسكرية التي تطورت ونمت بصورة غير مسبوقة، وجرمت في الوقت نفسه السلطة الفلسطينية، ونادت بضرورة إخراجها من المشهد السياسي، لأنها "فاشلة ومحرضة ومعادية"، مما عكر صفو الأجواء بين تل أبيب وواشنطن، وأمام إصرار إسرائيل على أن غزة "لن تكون حماسستان ولا فتحستان" في إشارة إلى حركة "فتح" التي ينتمي إليها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، جددت الإدارة الأميركية تأكيدها على أهمية "توحيد السلطة الفلسطينية للضفة الغربية وقطاع غزة، ورفضها أي احتلال إسرائيلي أو تقليص للأراضي الفلسطينية"، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن دعا إلى ضرورة العمل على إنشاء "سلطة فلسطينية متجددة" قد تشكل نواة لفيدرالية فلسطينية - أردنية مستقبلية بمساعدة ودعم الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة.
علاقات وثيقة
وبين هذا وذاك، تشدد قيادات "حماس" التي تستفرد بحكم قطاع غزة منذ عام 2006، على أن أية ترتيبات حول مستقبل غزة "لن تنجح من دونها". كيف لا وقد تمكنت الحركة الفتية وهي لا تزال في عقدها الثالث من إنشاء علاقات متينة مع عدد من الدول التي أسهمت في تقويتها ودعمها وحتى تمويلها على مدار عقود، وتعد دولة قطر واحدة من الحكومات التي دعمت إلى جانب تركيا "حماس" بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006. وعندما فرضت إسرائيل حصاراً على غزة عام 2007 قررت قطر دعم الفلسطينيين في القطاع بالمساعدات الإنسانية، بل وقدمت صورة من صور الدعم السياسي للحركة من خلال السماح لقادتها بالاستقرار في الدوحة منذ عام 2012، ونقل مكتبها السياسي إلى هناك بعد أن اضطروا إلى التخلي عن مقرهم التاريخي في دمشق بسبب الحرب في سوريا. ويقيم في العاصمة القطرية الدوحة كل من إسماعيل هنية، الذي يعد زعيم الحركة، ورئيس مكتبها السياسي، إضافة إلى خالد مشعل رئيس الحركة في الخارج. وقد أكدت الدوحة أن افتتاح مكتب الحركة السياسي في الدوحة جاء بطلب أميركي بهدف إنشاء خطوط اتصال غير مباشرة مع "حماس".
العلاقات الوثيقة مع "حماس"، مكنت قطر من اتخاذ دور محوري وأساسي في المفاوضات مع الحركة التي تعدها القوى الغربية "منظمة إرهابية "، وتؤدي دور الوسيط الرئيس بينها وبين وإسرائيل، وهو ما كانت مصر تتولاه تقليدياً.
وفيما جددت إسرائيل مطلع الشهر الجاري تهديداتها باغتيال قادة "حماس" وملاحقتهم في لبنان وتركيا وقطر، اكتفى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بتحذير الدولة الخليجية من علاقاتها الوثيقة مع "حماس". وقال "لا يمكن أن تستمر الأمور كالمعتاد مع (حماس)".
وفي هذا السياق، يقول مايكل ماكوفسكي، وهو مسؤول سابق في البنتاغون والمدير التنفيذي للمعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي بأن إحدى أهم الاستراتيجيات للوصول إلى إسقاط "حماس"، لا يكمن فقط بمحاربتها عسكرياً من الداخل، وإنما بمحاصرتها من الخارج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى ماكوفسكي أن على الولايات المتحدة أن تتحرك وبصورة فورية أمام كل من تركيا وقطر. وأضاف "على إدارة بايدن فرض عواقب واضحة على تركيا وحثها على طرد قادة (حماس) من إسطنبول. وإبلاغ قطر بأن العلاقة الثنائية المستقبلية ستعتمد على نجاح الدوحة في طرد قادة (حماس) من أرضها".
تمويل ودعم
المسؤول حالياً عن أنشطة المنظمة في الخارج خالد مشعل، والمهدد بالاغتيال من قبل إسرائيل، نجح منذ توليه رئاسة الحركة لمدة تزيد على عقدين، من إرساء عديد من العلاقات التي مكنت الحركة فيما بعد من إيجاد القبول والترحيب في عديد من الدول، وإلى جانب قطر، تعتبر إيران من أول الدول الحليفة لـ"حماس"، حيث استضافت مكتب تمثيل لها منذ عام 1992، ومدتها بالمال والسلاح.
ووفقاً لوزارة الخارجية الأميركية، فإن إيران تمنح "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، سنوياً نحو 100 مليون دولار. ويرى محللون في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" أن وجود خلافات بين "حماس" وإيران خلال الحرب السورية منذ عام 2011، لم يمنع طهران من تمويل الحركة ودعهما. وتمكن مشعل بعد ذلك، من فتح مكتب تمثيل للحركة في بيروت منذ 1998، حيث تربط "حماس" علاقات متينة بمنظمة "حزب اللهقوي" ذات النفوذ الكبير في لبنان".
دول صديقة
لم يقتصر نفوذ مشعل إلى جانب قادة "حماس" من التغلغل في تلك الدول فحسب، بل امتد ليصل أخرى، حيث أسهم فوز الحركة في الانتخابات التشريعية عام 2006، بتحسين علاقتها مع تركيا، واعترفت أنقرة بنتائج تلك الانتخابات وطالبت الفلسطينيين باحترامها، وبعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي، رفضت تركيا تصنيف "حماس" بأنها منظمة إرهابية.
وبدلاً من ذلك وصفت إسرائيل بأنها "دولة إرهاب"، ولوحت كثيراً بمحاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في المحافل الدولية. وعلى رغم أن العلاقة بين مصر و"حماس" اتسمت بالتأرجح حتى وصلت إلى حد القطيعة بين عامي 2013 و2017، فإنها عادت بين الجانبين في صورة علاقات رسمية، يديرها جهاز الاستخبارات العامة المصرية، حيث تعمل القاهرة على التوسط بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وكذلك ترعى ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية.
وترتبط "حماس" بعلاقة مستقرة مع الجزائر، حيث فتحت الأخيرة أبوابها لقيادات من الحركة الذين قالوا إن الجزائر وافقت على فتح مكتب لـ"حماس" عام 2016، وإثر زيارة رئيس وزراء ماليزيا السابق محمد نجيب عبدالرزاق إلى قطاع غزة عام 2013، بدأت العلاقات بين الجانبين بالظهور، ومن ثم توالت الزيارات والاتصالات على المستوى السياسي الرسمي.
وتصف "حماس" علاقاتها بجنوب أفريقيا بـ"الجيدة"، وهي التي بدأت منذ عام 1998، وتطورت على المستويات الرسمية خلال الأعوام السابقة، كما حافظ مشعل على علاقات جيدة مع "الحوثيين" الذين يستضيفون مكتباً للحركة في صنعاء، ولأن مشعل ترعرع في الكويت لعقود، حظيت الحركة بعلاقات جيدة معها، وتطورت هذه العلاقة في أعلى مستوى حين فازت "حماس" في انتخابات 2006.
وعلى رغم محدودية المكاتب التمثيلية لـ"حماس" حول العالم، فإنها تمكنت عبر مشعل، من مد شبكات ودية وأجرت زيارات ولقاءات واتصالات مع عدد من الدول، مثل روسيا والمغرب وعمان وفنزويلا وباكستان وأفغانستان والصين وموريتانيا والعراق وتونس وإندونيسيا، وغيرها.
تحذيرات دولية
وكالات الاستخبارات الأميركية وبعد موجة من التحليلات الجديدة التي أجرتها قد حذرت من أن صدقية "حماس" التي تصنفها الولايات المتحدة وأوروبا كمجموعة إرهابية ونفوذها تنامت بصورة كبيرة عبر الشرق الأوسط خلال الشهرين الماضيين.
ويرى مطلعون أن الحركة نجحت في وضع نفسها في بعض أجزاء العالم العربي والإسلامي كمدافع عن القضية الفلسطينية ومقاتل فعال ضد إسرائيل. ووفقاً لشبكة CNN الأميركية، تعاظم نفوذ "حماس" في أعقاب أدائها الميداني في مواجهة الجيش الإسرائيلي، وتسديد ضربات قوية له، على رغم شراسة الحرب التي يشنها على كل قطاع غزة. وبحسب تقرير الاستخبارات الأميركية "من المحتمل أن يؤدي الصراع إلى تعزيز نفوذ (حماس) خارج غزة أكثر من تعزيزه داخلها".
وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" في رام الله "ارتفاع نسب دعم (حماس) في الضفة الغربية 3 أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب".
ووفقاً للاستطلاع الذي نشرت نتائجه في منتصف ديسمبر (كانون الأول) الجاري، فإن ما يقارب 70 في المئة من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90 في المئة من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل. وبينت النتائج ارتفاع تأييد الفلسطينيين للعمل المسلح لمواجهة إسرائيل، حيث يرى أكثر من 60 في المئة من المستطلعة آراؤهم أن "المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال".
وقال 72 في المئة ممن شملهم الاستطلاع إنهم يؤيدون هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي، في حين أعرب 64 في المئة من المستطلعة آراؤهم رفضهم مشاركة السلطة الفلسطينية في لقاءات مع الولايات المتحدة ودول عربية أخرى لبحث مستقبل قطاع غزة بعد الحرب.
خطة متماسكة
تزامناً مع دعوات واشنطن السلطة في الضفة الغربية إلى تولي السيطرة على غزة وإدارة المنطقتين تمهيداً لإقامة الدولة، وإصرار إسرائيل الاحتفاظ بسيطرة أمنية مفتوحة في غزة، كشفت تحليلات مجلة "فورين بوليسي" الأميركية أن "حماس" لن تختفي من المعادلة بمجرد انتهاء الحرب على غزة، وستظل أياً كان شكلها في المستقبل تلعب دوراً ولو ثانوياً في حكم غزة يقبله العرب وإسرائيل. وذكرت تحليلات المجلة التي نشرت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أن إسرائيل تركز جهودها على الهجوم على غزة باعتباره ضرورياً، لتحقيق هدف القضاء على هذه القيادة العسكرية بدلاً من وضع خطة متماسكة في ما يتعلق بحكم غزة بعد الحرب، أو مصير حركة "حماس".
وأشارت المجلة إلى استمرار الدعم الإيراني لهذه الجماعات المسلحة، طالما تعدها طهران ضرورية لنفوذها الإقليمي، وأنها ستحييها مجدداً بعد أية نكسات عسكرية وخسائر في القيادة.
اجتماعات سرية
من جهتها، أكدت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية ورئيس "حماس" في الخارج خالد مشعل، على اتصال مع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، في شأن التحالف تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. وكشفت عن أنه "يشارك في المحادثات السرية زعيم حركة الإصلاح الديمقراطي، عضو (فتح) السابق محمد دحلان، الذي يحتفظ بعلاقات قوية في الخليج ومصر. وأكد دحلان في أول تحرك علني لتياره الإصلاحي المنشق عن حركة "فتح" أنه شارك في المحادثات، قائلاً "أنا لست صديقاً لـ(حماس)، ولكن هل أحد سيكون قادراً على الترشح لصنع السلام من دون (حماس)؟".
وفقاً لمحللين، فإن تصريحات دحلان، وإطلالاته التلفزيونية الأخيرة، التي رفض خلالها إدانة "حماس" وهجومها، محملاً إسرائيل المسؤولية الكاملة عن معاناة الشعب الفلسطيني، جاءت تمهيداً لمشروع يضع دحلان كجزء من التسوية في غزة ما بعد الحرب، ليس لأنه يملك علاقات واسعة عربياً ودولياً، قد تقوض شرعية أبو مازن في رام لله، بل لأن الاستطلاعات والمؤشرات إلى الارض، تبين مدى تململ الفلسطينيين من السلطة وسياستها المتفردة بالحكم.
صعود مذهل
منذ أن طرده الرئيس الفلسطيني محمود عباس من حركة "فتح" وهم بمحاكمته بتهم الفساد المالي عام 2011 تمكن دحلان الذي انتقل لاجئاً إلى أبوظبي من نسج علاقات واسعة في المنطقة. ووفقا للمحللين، فإن التيار الإصلاحي الذي يترأسه دحلان، لم يدن "حماس" مثلما فعل نقيضه في رام الله، وكان مقرباً منها في غزة عبر المشاريع التنموية والمساعدات الإنسانية والإغاثية لسكان القطاع.
ويحاول دحلان منذ عام 2016 القيام بتنظيم مؤتمرات في بروكسل وباريس وغيرهما من الدول حول العالم، لاجتذاب مئات الفلسطينيين في الشتات، وبعضهم أعضاء في حركة "فتح" في محاولة "لاستقطاب مسؤولين سابقين في الحركة وإنشاء تنظيم مواز"، بحسب أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين في أوروبا. كما حاول الاقتراب من حركة التضامن الأوروبية مع الفلسطينيين والاتحاد العام للطلاب الفلسطينيين، وبحسب "لو موند" يرعى دحلان منصات حوار عدة، بينها موقع "فورمينا" ومقره في بروكسل و"المنتدى المتوسطي الخليجي" ومقره روما، و"المركز الدولي للدراسات الجيواستراتيجية والاستشرافية" في باريس.
وبحسب المحلل السياسي في "واشنطن بوست" ديفيد إغنياتوس، فإن الهزيمة التي منيت بها إسرائيل صباح السبت في السابع من أكتوبر الماضي "يجب أن تترافق مع إعادة ترتيب المشهد الفلسطيني - الإسرائيلي بشكل يحقق انتصاراً استراتيجياً لإسرائيل، على رغم إمكانية هزيمتها عسكرياً". وبالنسبة إلى إغناتيوس فهو يرى أن السعودية قد تلعب دور العراب في تحديد معالم المستقبل الجديد الذي من شأنه أن يعيد تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي - الفلسطيني.