لم تتوقف الحروب ومظاهر العنف عن مرافقة الاجتماع الإنساني. ولم تنجح الحضارة والعمران والتقدم في كبح جماح الصراعات بين البشر. ولعل هذه الصراعات تزداد وحشية كلما ازداد التطور. يكفي أن ننظر حولنا إلى الحروب المشتعلة، هنا وهناك، في كل أنحاء العالم، حتى ندرك أنها أصبحت على درجة عالية من الوحشية والابتكارات المدمرة والتكنولوجيا الفتاكة، التي قد تصل إلى إبادة للإنسانية جمعاء وتتطلب معرفة بالعلوم. فما الحرب؟ وما العنف؟ وما العلاقة بين الطبيعة البشرية والحرب؟ وهل هناك حرب عادلة؟ ولماذا يتحارب الناس ويقتل بعضهم بعضاً؟ وما الذي يدفعهم إلى القبول بقتل أعداد كبيرة من البشر وإلى تهديم المدن والقرى وإغراقها تحت كم من الركام وتشريد مئات الآلاف من البشر؟ أفلا يمكن حل النزاعات والدفاع عن الحقوق بطرق وأساليب أخرى؟ وكيف تفسر الفلسفة هذه الصراعات الجماعية المسلحة بين دول أو مجموعات بشرية مختلفة تسعى من خلال العنف إلى تحقيق أهداف معينة؟
لن يختلف معي أي ناظر إلى تاريخ الآداب والفلسفة أن محاولة تفسير ظاهرة العنف والحرب استرعت انتباه أوائل الشعراء والمفكرين والفلاسفة منذ مرحلة ما قبل سقراط حتى يومنا هذا، وأن التفكير في الحرب والعنف قد شكل مسألة فلسفية بامتياز، تناولت جوهر الطبيعة الإنسانية والعلاقات بين الأفراد والمجتمعات. غير أن قراءة هذه النصوص الأدبية والفلسفية التي وصفت أو تفكرت في العنف والحرب والقتال بين البشر تتطلب تنسيق مفاهيم مختلفة مستمدة من علوم الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والأخلاق والسياسة.
يخبرنا سفر التكوين، أن نمرود ابن كوش وحفيد ابن نوح قد ملك على أرض شنعار وبابل. إلا أنه ابتدأ يكون جباراً في الأرض. ولعله كان أول ملك حكم رعاياه بالعنف والقوة وأول من جمع جيشاً وقاد حرباً متجاوزاً بذلك القانون الإلهي. فمن أين كان لنمرود هذه القدرة؟ وكيف نفسر الشر الذي فعله؟ وهل الحرب كما قال هوميروس في الإلياذة في القرن التاسع قبل الميلاد "شر لا بد منه"؟
الفلاسفة والحرب
اختلف الفلاسفة في التعريف بالحرب ووظائفها. وكان هيراقليطس أول من تفكر فيها، فقد أكد هذا الفيلسوف في واحدة من أشهر شذراته أن "الصراع أم الكائنات وأبوها"، مشيراً إلى أن الاختلافات والتناقضات مبعث للصيرورة ولكل حدث جديد. فالحرب من وجهة نظره جزء من نظام الكون، وهي قائمة في الطبيعة وفي العمران البشري. لم يتجاهل أفلاطون بدوره التفكير في العنف والحرب في بعض محاوراته. وها هوذا يحدثنا في إحداها عن أسطورة بروميثيوس الذي أعطى البشر عديداً من المواهب بعد أن سلبها من آلهة الأولمب، مما أثار غضب رب الأرباب. لكن بروميثيوس لم يكتف بما فعل، بل قام بغفلة من زيوس، بسرقة النار الإلهية من هيفايستوس المكلف صنع عدة الحرب، وأعطى قبساً منها للبشر. ويقول لنا الفيلسوف اليوناني إنه مذاك تعلم الناس القتل وترافق العيش في مدنهم بالصراعات فيما بينها. وقد توسع أفلاطون في الحديث عن الحرب في محاورتي "الجمهورية" و"التيماخوس"، فرأى أنها تنبع من سياسة وإدارة المدينة، وهي من ثم الأداة التي يمكن من خلالها حفظ الأمن والسلام. وكذلك فعل تلميذه أرسطو في كتاب "السياسات". غير أنه شدد، مثله مثل عديد من المفكرين، على أن العنف المنظم خاصية إنسانية، ذلك أن الحيوان، خلافاً للإنسان، يقاتل من أجل الحصول على الطعام، أو الفوز بالإناث، أو الحفاظ على مناطق عيشه، ومن النادر أن يكون قتاله قتالاً منظماً وجماعياً لدرجة أن الحرب الفعلية كظاهرة اجتماعية هي شأن ملازم للحياة البشرية.
كان لهذه التعاليم، لا سيما تلك التي قال بها هيراقليطس، صداها لدى الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831)، الذي نظر إلى الحرب أيضاً نظرة إيجابية. فهي عنده في أصل تقدم الحضارات والحفاظ على صحة الشعوب وحيويتها الأخلاقية، بمعنى أن الحرب من وجهة نظره مسألة طبيعية تبعث على التفاعل والتجديد الدائم. وهي، كهبوب الريح التي تحفظ البحر الساكن من التلوث، تحرر الأمم من الفساد الضارب فيها نتيجة فترة طويلة من الركود. الحرب في عرف هيغل تصنع التاريخ، لا بل هي التاريخ نفسه، لكننا قبل الخوض في فلسفة الحرب، يجدر بنا تحديد جوهرها والتعريف بمن يستطيع شنها، ذلك أن معظم تحديدات الحرب تربطها بسياسة الدول. فالأفراد الذين يختلفون ليسوا حتماً في حالة حرب. فما الأسباب التي تدفع الدول إلى إعلان الحرب؟ وهل الحرب في صلب الطبيعة الإنسانية، مدرجة في جيناتها، أم هي وليدة خيار عاقل حر؟ وهل للحرب قوانين وأخلاقيات يجب احترامها؟ وما الفرق بين العنف المقونن والعنف الخارج على القانون؟
الإفراط في العنف
بغية الإجابة عن كل هذه الأسئلة، لا بد لنا أولاً من الانطلاق من تعريف واضح وصريح للحرب كهذا الذي تبدى في كتاب توسيديديس "تاريخ الحرب البلوبونيزية". في هذا المؤلف قدم المؤرخ وصفاً دقيقاً للحرب وتعريفاً عاماً لها. يقول لنا توسيديديس إن الحرب عبارة عن فوضى وإفراط في توسل العنف مرتسم في طبيعة التجمعات السياسية التي تتسلح وتحصن ذاتها حتى لا تقع تحت استعباد التجمعات الأخرى واستبدادها. يشدد توسيديدس إذا على أن التجمعات البشرية تشن الحرب على بعضها بعضاً من أجل البرهنة على قوتها ومن أجل إخضاع التجمعات المجاورة لها، رابطاً في تحديده الحرب بالسياسة. بدوره شبه الكاتب والخطيب الروماني شيشيرون، الحرب بمناظرة تحسم بالقوة. أما تحديد الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتس (1780-1831)، الذي حاول بسط مفهوم نظري للحرب انطلاقاً من عيشها وممارستها في المعارك التي خاضها أثناء الاجتياحات النابليونية، فهو أن الحرب عبارة عن منازعة بين طرفين، يرمي كل واحد منهما إلى إقناع الخصم بالامتثال لإرادته. وهذا ما بينت الوقائع التاريخية استحالته. من هذه الزاوية نفهم أيضاً تعريف ماكس فيبر (1864–1920) للسياسة حين يقول بأنها حقل صراعات وحروب بين البشر وبين الأحزاب والأمم المختلفة. ونفهم أيضاً تشديده على أن واجب الفيلسوف يقوم أولاً على التحذير من الحرب، أي من الشر المطلق، ولو كان الإنسان بطبعه كائن مفطور على العنف كما هو مفطور في الوقت عينه على السلام، ذلك أن الإنسان على حد قول باسكال (1623-1662) ليس ملاكاً ولا بهيمة. "والبلوى هي أن من أراد نفسه ملاكاً فقد جعلها بهيمة"، في حين عرف الفيلسوف الفرنسي إميل شارتيه أو آلان (1868-1951) الحرب "بالجريمة العاطفية". ليس لأنها تترافق مع القتل والمعاناة وإطلاق العنان للعنف وحسب، بل لأنها تنسف الإنسانية في الإنسان برمتها، ولأنها تدل على فساد أخلاقي أساس وعلى انفعال لا عقلي يقود البشر إلى صراعات مخيفة.
تقودنا هذه التحديدات المختلفة إلى القول إن الإنسان تتنازعه طبيعتان، طبيعة الخير وطبيعة الشر. ولئن كانت طبيعة الشر أقوى فيه من طبيعة الخير، أسس عديد من الفلاسفة رؤيتهم السياسية على أنثروبولوجية ترى الإنسان كائناً شريراً. هذا مما دفع بالفيلسوف الفلورنسي مكيافيللي (1469-1527) إلى القول إن الناس لا يفعلون الخير إلا مكرهين، غير أن معظم الفلاسفة لا يتفقون على هذا التحديد لطبيعة الجوهر الإنساني. ففي حين قال بعضهم إن الإنسان كائن عدواني مفطور على العنف، شرير بطبعه، وإنه ذئب لأخيه الإنسان، كما في فكر ابن خلدون (1332-1406) وتوماس هوبس (1588-1679)، قال بعضهم الآخر كجان-جاك روسو (1712-1778) إن الإنسان كائن خير مخلوق على صورة الله ومثاله، خليفة لخالقه على الأرض، لكن كل الفلاسفة أجمعوا على أن الإنسان، إن كان خيراً بطبعه أو شريراً، فهو قادر في الوقت عينه على التصارع مع أخيه الإنسان من أجل الدفاع عن مصالحه الخاصة وعلى العيش بسلام، أكان هذا السلام مفروضاً بقدرة وازع أو بقدرة القوانين المدنية والإرادة العامة وما ينتج منهما من عقد اجتماعي. من هذه الزاوية نفهم مقولة روسو "إذا كان نقاء الطبيعة يلغي الحرب، فإن الجور يقرها". هذا يعني أن العنف والحرب هما وسيلة للوصول إلى مجتمع بلا حرب، وأن الغاية تبرر الوسيلة.
ضرورة تاريخية
الحرب إذا ضرورة تاريخية، ولو كانت أمراً فظيعاً. يرتكبها الإنسان إما بداعي الفقر والاستغلال بحسب توماس مور (1478 - 1535) أو بسبب من طبيعته الفطرية التي تميل به إلى العنف. هذا ما دفع بالشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) إلى القول إن الحالة الطبيعية هي الحرب، وإن التوصل إلى السلام لا يتم إلا في عصور معينة.
انطلاقاً مما تقدم تصبح الحرب النموذج الذي يسمح بتأسيس الحالة الاجتماعية والسياسية. ففي كتابه "اللوياثان" أو "التنين"، افترض هوبس أن أصل المجتمع هو قوة التهديد التي تميز حال الطبيعة. فليس من أحد يستطيع القضاء على فوضى العنف و"حرب الجميع على الجميع" سوى الأكثر قوة، "اللوياثان" القادر على حمل الجميع على الخوف منه. وحده التنين، كرمز للحاكم، يتفرد بالكلام وبالقوة وبفرض العقد الاجتماعي الذي يرسخ الأمن والسلطة المطلقة، مقابل سلب الإنسان حريته وإطلاقه العنان لرغباته العنيفة. ليست الحرب هنا سوى توكيد لهذه الحقيقة. إنها مقابلة للعنف بالعنف وتدمير للحرب الجائرة بالحرب العادلة. وليست الدولة من هذا المنظار أيضاً تجمعاً عقلانياً، بل هي ناشئة من الخوف ومن حاجة الإنسان إلى البقاء على قيد الحياة. من هذا القبيل كانت السياسة في فكر هوبس طريقة في تحويل الحرب إلى سلام، في حين نظر إليها جون لوك (1632-1704) كاستمرار للسلام بوسائل أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبين لنا هذه المقاربة أن خطاب الحرب يتداخل بخطاب السلم، وأن الفلسفة حين تفكر بالحرب والعنف، فإنها تحاول أولاً فهم الطبيعة البشرية وفهم السبل الآيلة إلى السلام، الذي اقترح كانط شروط إمكان إقامته بصورة دائمة وثابتة، ونظر إليه أحد أبرز ممثلي الفلسفة المثالية الألمانية، يوهان غوتليب فيشته (1762–1814) كفكرة مؤسسة في ماهية العقل، تسعى دوماً إلى التحقق. ولئن اعترف كانط أن تاريخ الطبيعة يبدأ بالخير لأنها من صنع الله، فإنه أقر في الوقت عينه أن تاريخ الحرية البشرية، وهو من صنع الإنسان، يبدأ بالشر. فالحرب حقيقة، ومن يرفضها فكأنه يرفض الحياة، لكنه رأى أن العنف قادر على أن يكون منبتاً للسلام. شأنه شأن الأشجار التي تسعى كل واحدة منها إلى أن تأخذ من الأخرى الشمس والهواء. فيترتب عما تبذله الأشجار من جهد في تجاوز بعضها بعضاً، نموها نمواً جميلاً ومستقيماً. هكذا هو حال المجتمعات الإنسانية التي على رغم صراعاتها تعمل على تحقيق العقل الذي أودعته الطبيعة فيها والذي يتطلع إلى إقامة عالم كامل في منتهى الجمال.
في هذا الإطار، نظر كانط للسلام الدائم على مستوى دولي، انطلاقاً من دافع عقلي. لكن رؤيته الطوباوية لم تسلم من النقد ومن عدم التحقق عبر التاريخ. بعده شدد ماركس في كتاباته التي أسست لإقامة نظام سياسي اجتماعي اقتصادي أكثر عدلاً وتشاركية على دور العنف والقوة في تحقيق هذا التغيير، كأنما الحياة السعيدة لا تستقيم في رأيه دون المرور بالصراعات والمخاطرات والعنف المتفلت من عقاله. ولئن كان الإنسان على حد قول جوزيف دو ماستر (1753-1821) كائناً يمتلك عقلاً وإحساساً وعواطف وانفعالات، فكيف يمكن له أن يخوض الحروب وأن يوقع بأخيه الإنسان كماً من الآلام والمآسي؟ هذا ما قاد بعض المفكرين إلى الدفاع عن فكرة الحرب العادلة من وجهة نظر دينية أو أخلاقية، ولو قالوا إنها مكروهة، لكنها برأيهم تكون عادلة حين تستوفي مجموعة من المعايير أهمها الدفاع عن النفس والحق في خوض الحرب، والسلوك الصحيح أثناءها في احترام صريح للقوانين والمعاهدات الدولية.
مهما يكن من شأن الحرب وتحديدها، يبقى أن الإنسان لم يتمكن حتى اليوم من فهم هذه الظاهرة وتفسيرها تفسيراً مطلقاً. وهو على رغم تقدمه في المعارف والعلوم والحضارة لم ينجح في لجم الحروب والاستعاضة عنها بالحوار. ومن المؤكد أن الحروب العنيفة سترافق دوماً الحياة الإنسانية وأن مشاهد القتل والذبح والدمار لن تزول. فالحرب شأن "إنساني، إنساني جداً" على رغم الخطابات الفلسفية والسياسية والاجتماعية والدينية التي تشجبها أو تحاول عقلنتها. ولعل دراستها من منظار علمي مستند إلى منهجيات ومكتسبات العلوم الإنسانية سيمكننا ذات يوم من فهم هذه الظاهرة التي لم تتمكن المدنية الحديثة من إيقافها أو التقليل من فرط عنفها، كأنها في حتميتها قدر يلوح في أفق الإنسانية.