في مشهد اقتصادي قاتم ووضع مالي هش، تمكنت تونس على رغم الحصار المالي الخارجي المفروض عليها من التقليص من إجمالي ديونها الخارجية بمنحى تنازلي بدأ في عام 2022 وتواصل تقريباً في عام 2023.
وعلى عكس توقعات عدد من المتخصصين في الشؤون المالية ومنظمات إقليمية في شأن إمكان تعثر تونس في سداد ديونها الخارجية وإمكان طلب إعادة جدولة ديونها، نجحت الحكومة على رغم الظرف المالي الداخلي والعالمي من سداد ديونها خصوصاً الخارجية منها.
ووفق أحدث تقرير صادر عن البنك الدولي، انخفض إجمالي الدين الخارجي لتونس (المبلغ المستحق سداده) حتى 2022 إلى 39.6 مليار دولار في مقابل 41.6 مليار دولار في عام 2021 للمرة الأولى منذ عام 2010.
وتزامن هذا الاتجاه التنازلي لقائم للدين الخارجي للبلاد مع تسجيل تدفقات مالية صافية سلبية، قدرته المنظمة الدولية العام الماضي بنحو (-694) مليون دولار.
إلى ذلك تمثل خدمة الدين الخارجي نحو 18 في المئة من إجمالي الصادرات ونحو تسعة في المئة من الدخل الوطني المتاح في 2022.
كان الدين الخارجي لتونس ارتفع بمعدل غير مسبوق منذ عام 2011، إذ تضاعفت تقريباً نسبة التداين من الناتج المحلي الإجمالي بسبب الاقتراض الخارجي على نطاق واسع لمواجهة التزايد المتواصل للنفقات العامة والتدهور الكبير في ميزان المدفوعات.
وبحسب المعطيات الإحصائية فإن انخفاض اللجوء إلى سحوبات الاقتراض الخارجي على مدار العامين الماضيين، إضافة إلى التحسن في موارد الموازنة العام للدولة مكنا الحكومة من الحد من تطور الدين الخارجي.
واستطاعت تونس هذ العام من سداد كامل خدمة ديونها الخارجية بقيمة 11 مليار دينار (3.5 مليار دولار) من دون أية إعادة جدولة أو تأخير في السداد، وهو ما يؤكد قدرتها على الوفاء بقروضها ويكشف عن صلابة ملاءتها المالية.
عكس التوقعات
وتمكنت الحكومة التونسية من سداد 93 في المئة من إجمالي خدمة الدين الخارجي حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إذ نجحت في سداد أقساط القروض الخارجية، التي حل أجلها في 2023 على رغم صعوبات الوصول إلى السوق المالية الدولية وتعطل اتفاقها المالي مع صندوق النقد الدولي الذي يعد أهم الجهات الممولة.
وتعليقاً على ذلك أكدت وزيرة المالية التونسية سهام بوغديري نمصية سداد نحو 532 مليون دولار من أصل الدين و35 مليون دولار من فوائده دين.
وأوضحت أن "الزيادة في الاقتراض الداخلي تأتي بسبب عدم حصول تونس على قروض خارجية مبرمجة سابقاً"، مضيفة أن "وزارتها مجبرة على إيجاد التمويلات لخزانة الدولة على رغم نسبة الفائدة في السوق الداخلية التي تعد مكلفة، وتفوق في بعض الأحيان الفوائد من الاقتراض الخارجي".
جاءت تصريحات بوغديري خلال جلسة عامة بالبرلمان لمناقشة مشروع قانون المالية التعديلي لعام 2023.
كانت مؤسسة "كابيتال إيكونوميك" رجحت في نهاية الشهر الماضي أن تتخلف تونس عن سداد ديون سيادية في ظل استحقاقات الدين العام الكبيرة المرتقبة للبلاد، فضلاً عن معارضة الرئيس التونسي قيس سعيد للحصول على دعم من صندوق النقد والافتقار إلى ضبط للأوضاع المالية.
وأضافت المؤسسة البحثية ومقرها لندن أن "الأزمة الاقتصادية في تونس تقترب من نقطة حرجة، إذ إن استنفاد احتياطي النقد الأجنبي لدعم الدينار يجعل المركز الخارجي للبلاد في وضع تكتنفه الأخطار على نحو متزايد".
انخفاض لافت للديون
في غضون ذلك، رأى بسام النيفر المتخصص المالي أن دين تونس الخارجي تراجع منذ 12 عاماً، لكن الأمر المهم من وجهة نظره أن التراجع كان بالدولار وبالأسعار الجارية وليس بالدينار التونسي معتبراً أنه أمر إيجابي للغاية.
وقال النيفر في تصريحات إلى "اندبندنت عربية" إن "قيمة الديون وصلت إلى 39.6 مليار دولار عام 2022"، مضيفاً أن "حجم تداين الدولة مقارنة بحجم الاقتصاد يعد مستوى مرتفعاً على رغم تراجعه لما كان في حدود 41.6 مليار دولار عام 2021"، مشيراً إلى أن "تداين تونس يمثل نحو 170 في المئة من إجمالي صادراتها مما يشكل معياراً مهماً يتم اعتماده"، موضحاً أن "صادرات البلاد لعام كامل لا يمكن أن تغطي الديون وأن البلاد تظل في حاجة إلى التمويل الأجنبي وأن الاقتصاد التونسي غير قادر على توفير عملة أجنبية كافية لتغطية الديون"، ومشيراً إلى أن هذا الأمر قد يدفع البلاد إلى الاقتراض الخارجي سواء من مؤسسات التمويل الدولية أو الدول الشقيقة أو الصديقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال النيفر إن "الديون الخارجية تمثل 87 في المئة من الناتج القومي الإجمالي (التونسيين بالداخل والخارج) وهو رقم مرتفع على رغم التراجع الملحوظ في إجمالي الديون"، داعياً إلى مزيد من تقليص إجمالي الديون لتحسين أساسات الاقتصاد التونسي التي تظل تشكو بعض الصعوبات خصوصاً خلال العقد الماضي، الذي شهد تدميراً بصورة لافتة للمالية العامة والاقتصاد التونسي.
وأوضح النيفر أن "البلاد من خلال التقليص من حجم ديونها الخارجية تسير في الاتجاه الصحيح في سياق التخفيف من وطأة هذه الديون".
مصدر الديون التونسية
من جانب آخر أوضح النيفر أن "مصدر ديون تونس يتركز في الاتفاقات متعددة الأطراف بنسبة تصل إلى 59 في المئة، إذ إن 18 في المئة من القروض الخارجية مصدرها البنك الدولي و11 في المئة من البنك الأفريقي للتنمية والبقية من مؤسسات مالية أخرى في إطار التعاون متعدد الأطراف على غرار صندوق النقد العربي وبنك الأوروبي لتنمية وإعادة الاعمار والبنك الأوروبي للاستثمار.
وأشار إلى أن "21 في المئة من ديون تونس من القطاع الخاص العالمي منها 19 في المئة أسواق دولية، إلى جانب 20 في المئة من الديون الخارجية ضمن التعاون الثنائي، منها أربعة في المئة من ألمانيا وأربعة في المئة فرنسا وثلاثة في المئة من اليابان ونسب أقل قطر والسعودية والجزائر وإيطاليا.
ولفت المتخصص المالي إلى أن تراجع إجمالي ديون تونس الخارجية تعود إلى انخفاض القروض المتأتية من التعاون متعدد الأطراف (المؤسسات المالية الدولية)، مشيراً إلى أن تونس ترفض التعامل مع صندوق النقد الدولي بالشروط التي يفرضها الأخير في عدد من الإصلاحات الاقتصادية.
وفي سياق تحليله لتراجع ديون تونس الخارجية كشف النيفر عن أنه "بالنسبة إلى تراجع الديون الخارجية الخاصة يعد هذا الانخفاض الرابع على التوالي منذ عام 2018"، مشدداً على أن "استمرار الدولة في سياسة التعويل على الذات وتقليص اللجوء إلى الاقتراض الخارجي قدر الإمكان سيسهم في تراجع الديون في العام الحالي". وأوضح أن "تونس سددت ديون خصوصاً في 2023، بينما ستدفع في فبراير (شباط) 2024 نحو 850 مليون دولار"، مرجحاً تقلص ضغط الديون. وأشار إلى أن ثلث ديون تونس ستسدد في الفترة من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وفبراير 2024، مرجحاً أن تتراجع وتيرة الديون الخارجية في عام 2026 ومطلع 2027، لتعود تونس لوضعية تسمح لها بدخول مرحلة اقتصادية جديدة.
فاتورة باهظة
وعن الجانب المظلم قال النيفر إن "تونس في حاجة إلى التمويلات والقروض الخارجية لدعم اقتصادها والشركات الحكومية وتمويل فاتورة الواردات بما سيكون له أثر سلبي في معدل النمو، معتبراً أنه وعلى رغم النتائج الإيجابية في عائدات القطاع السياحي وتحويلات المغتربين التونسيين، إلا أن الدولة ستلجأ إلى تلك الموارد المالية لسداد الديون على حساب دعم النمو الاقتصادي (0.9 في المئة متوقعة لهذا العام).