Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وقائع ثلاثة لقاءات جمعت رئيس فرنسا بفيلسوفها سارتر

جيسكار ديستان بين انبهاره بوحدة المفكر وسروره المطلق بزيارته ورفاقه قصر الإليزيه

جان بول سارتر وريمون آرون لدى دخولهما إلى الإليزيه عام 1979 (أ ف ب)

كان معروفاً عن الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، أنه كان مثقفاً من طراز لا بأس به، كمعظم الرؤساء الفرنسيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأن ثقافته قادته إلى كتابة مذكراته بلغة بالغة الأناقة. لكن ما كان معروفاً عنه أقل من ذلك هو اطلاعه الواسع على كتابات كبار المفكرين الفرنسيين الذي عاشوا ونشطوا في تفكيرهم وكتاباتهم في الزمن الذي حكم فيه فرنسا. ومن هنا لم يكن غريباً أن تشتهر عنه جملة وردت في كتاب مذكراته المعنون "فرنسيان من أصل ثلاثة" الذي يشير فيه بفخر إلى كون ثلثي الفرنسيين قد صوتوا له حين انتخبوه رئيساً. وفحوى الجملة أن "ريمون آرون جالس إلى يساري فيما جان بول سارتر جالس إلى يميني فكيف لا أطيل الجلسة". ومن المعروف أن تلك الجلسة التي جمعت الرئيس الفرنسي عام 1979 بهذين المفكرين الكبيرين في قصر الإليزيه بناء على طلبهما كانت نادرة الحدوث، وليس فقط بينهما وبين رئيس البلاد، بل حتى بين آرون وسارتر نفسيهما هما المعتبران أخوين – عدوين لا يجمع بينهما جامع. فكيف لا يعتبر جيسكار ديستان نفسه رئيساً مميزاً وقد اجتمعا ليلتقيا به كرئيس لهما؟ مهما يكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن اللقاء كان سياسياً لكن الرئيس سرعان ما حوله، كما يروي لنا بنفسه، إلى لقاء فكري بعد أن "استجاب" خلال دقائق اللقاء الأولى للمطلب المشترك الذي طلباه معاً: مساعدة الدولة الفرنسية في مشروع "قارب من أجل فيتنام" الذي جمعهما مع رهط من رفاقهما بغية تقديم يد العون للهاربين من جحيم فيتنام بعد هزيمة القوات الأميركية هناك.

لقاء بعد فراق طويل

والحال أن آرون، اليميني إلى حد كبير، وسارتر، اليساري إلى حد أكبر، كانا افترقا منذ دراستهما الثانوية معاً وفي صف واحد وتفاقم الخلاف بينهما غير أن "مشروع قارب من أجل فيتنام" تمكن من جمعهما وقد باتا عجوزين ليقوما بلقاء الرئيس على تلك الشاكلة ومعهما أندريه غلوكسمان وميشال فوكو. وهو اللقاء الذي اعتبره جيسكار ديستان من أحلى أحداث حياته، ومن هنا إطالته زمن اللقاء بأكثر كثيراً مما كان مطلوباً منه. غير أن ذلك اللقاء لم يكن الوحيد الذي جمعه بسارتر، على الأقل، حتى وإن كان الوحيد الذي تحدث فيه إلى الفيلسوف الكبير ودائماً كما يروي لنا بنفسه. بيد أن اللقاءين الآخرين كانا، من طرف واحد إن جاز لنا القول، وتحديداً نقلاً عن صاحب الشأن. فهو كان في المرة الأولى في عام 1950، وجيسكار لا يزال بعد شاباً يدرس في المدرسة الوطنية للإدارة التي تخرج عادة كبار رجال الحكم في هذا البلد. حينها كان سارتر مَعْلماً كبيراً في الحياة السياسية والثقافية الفرنسية. لذلك حين فوجئ طالب الإدارة الشاب بذلك الصنم جالساً إلى طاولة في مقهى "الفلور" بالحي اللاتيني – سان جيرمان منكباً على أوراقه، اكتفى بمراقبته بإعجاب من بعيد لتظل ذكرى ذلك "اللقاء" في ذاكرته إلى الأبد. ويقول ديستان إن سارتر "لم يلتفت إلينا أنا ورفاقي"، حيث "كان سارتر يجلس على مقعد من الجلد في محاذاة مرآة ملتصقة بجدار وإلى يساره على الطاولة كان ثمة كومة من الأوراق وفنجان قهوة سوداء وبضع قطع من الكرواسان موضوعة في طبق وقد بدأت تجف. كان يكتب منحني الرأس ثم استقام في جلسته لكي يجمع ويحدد بعض الأفكار. وبدا لي وكأن الضوء الشاحب الآتي من الخارج يعكس ظلاً مقلقاً على زجاج نظارته السميكة". ويضيف ديستان أن سارتر كان في جلسته تلك ساهماً على الشكل المأثور عنه "وكان لا يبالي بحضورنا مع أننا كنا هو وأنا ورفاقي الزبائن الوحيدين في المقهى عند تلك الساعة الصباحية المبكرة. فالساعة كانت التاسعة والربع صباحاً ولم يبدأ السابلة تنزههم في جادة سان جيرمان بعد. من هنا كانت الجادة خالية بشكل رائع. بشكل لم تعد تعرفه بعد ذلك أبداً. كانت أشبه بجادة ريفية فسيحة مزروعة بالأشجار". ولاحقاً في النص الذي كتبه حول ذلك "اللقاء الأول"، بعد نحو ثلاثين عاماً سيخبرنا ديستان كم كان سروره غامراً "لأنني لمحت سارتر ذلك الصباح. بل شعرت بالسرور لأنني لم أجرؤ حتى على أن أتحدث إليه وبالتالي لم أسع لإزعاجه وهو ذلك المعلم الفائق الذكاء والمعرفة، فاكتفيت بأن أشكر الحظ الذي أتاح لي أن أراه في يوميته الأليفة في تلك الصبحية الرائعة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سرور و"كذبة كبيرة"

ولسوف يقول لنا ديستان كيف أن سروره خلال اللقاء الثاني مع سارتر لم يكن أقل. فهو الآن رئيس البلاد ويمكنه أن يقول للفيلسوف ما يشاء وأن يصغي إليه يحدثه عن ضرورة مد يد العون للاجئين الفيتناميين وهو ما "فعلته بعد أن اتخذت قراري السريع بذلك". غير أن في إمكاننا هنا أن نتساءل حقاً عما فعله ذاك الذي بات في اللقاء الثاني رئيساً للبلاد بالنسبة إلى الطلب الذي جاء الفلاسفة لوضع الرئيس أمام ضرورته. ويأتينا الجواب هنا بقلم سيمون دي بوفوار، رفيقة سارتر، التي ستكتب لاحقاً وبعد موت هذا الأخير وتحديداً في كتابها "حفل الوداع" الذي كرسته للحكي عن سنواتها الأخيرة مع سارتر، موضحة أن جيسكار – ديستان و"على العكس مما يزعمه في كتابه"، لم يفعل أي شيء على الإطلاق. فهي وبعد أن تتحدث في الكتاب عن ظروف "ذلك اللقاء الذي تلا المؤتمر الصحافي الذي عقد في العشرين من يونيو (حزيران) 1979 وشارك سارتر فيه مع لجنة "قارب من أجل فيتنام"؛ وكانت اللجنة قد نجحت في الجزء الأول من مهمتها حيث كانت السفينة "جزيرة النور" قد رست بالفعل بالقرب من بولو بيدونغ وبدأت تستقبل عدداً كبيراً من اللاجئين وها هم الآن كبار مسؤولي اللجنة يسعون لإقامة جسر جوي يصل معسكرات مقامة في ماليزيا وتايلاند بمعسكرات تقام في بلدان أوروبية وكان المؤتمر معقوداً في فندق لوتيسيا الباريسي حيث التقى سارتر الذي جاء برفقة غلوكسمان برفيقه القديم آرون بعد انفصال بينهما دام عقوداً طويلة ثم تصافحا قبل أن يتحدث ميشال فوكو على المنصة يتبعه برنار كوشنر وسارتر الذي... غادر المكان قبل مداخلة آرون. ثم التقوا معاً بعد أيام في زيارتهم الشهيرة لقصر الإليزيه ليطالبوا الرئيس بالتدخل. ولقد أسبغ هذا الأخير من الوعود ما أثلج قلوبهم. لكن كلامه سيطير دخاناً في الهواء. وكذلك سيبدو دخاناً بدوره لقاء سارتر بآرون فهما لم يتبادلا أي كلام هذه المرة على رغم أن الصحافة أسهبت في الكلام حول المناسبة معتبرة أن سارتر قد عاد إلى حظيرة اليمين. وهو أمر لم يكن صحيحاً... في رأي سيمون دي بوفوار على الأقل.

ويبقى اللقاء الثالث بين ديستان وسارتر وهو لقاء سيتوقف الرئيس عنده مطولاً لأنه كان لقاءً فردياً وشديد الخصوصية. فعشية "اللقاء" كان سارتر قد رحل وها هو جثمانه الآن مسجى في المستشفى. وها هو الرئيس يقرر أن يلقي عليه نظرة أخيرة غير رسمية. ومن هنا توجه بسيارته الخاصة مع مرافقه من دون أية احتفالية رسمية. بل إنه وصل إلى القاعة التي تمدد فيها جثمان الكاتب الكبير من باب خلفي قادته إليه مديرة المستشفى الدكتورة رينوار التي سألت الرئيس عما إذا كان يفضل أن تتركه وحيداً مع ساتر فرد بالإيجاب منفرداً بهذا الأخير ناظراً إليه بصمت وخشوع. ولسوف يصف الرئيس تلك اللحظات بلغة خشوع أيضاً: "... كان المكان صامتاً وغريباً. لو كان مرأباً لكنت سمعت على الأقل ضجيج معدن يضرب. الضجة الوحيدة التي كنت أسمعها كانت آتية من الطريق البعيد وربما كانت ضجة سيارات إسعاف. جمدت أمام نعش سارتر وحاولت أن أستعيد ذكرياتي عنه. حاولت أن أستعيد ذكريات لقاءيّ به وقد بديا من القرب زمنياً بحيث خيل إليهما أنهما تما في وقت واحد. ومن أجل حصر انتباهي تمتمت صلاة. لكني لم أفعل ذلك لحشر نفسي في قناعات الراحل. بل لجمع أفكاري وتكثيفها. لكي أدفع تلك الأفكار لخوض علاقة مباشرة مع الموت. مع الديمومة ومع البقاء..."، كما كان يمكن لسارتر نفسه أن يفضل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة