ملخص
فيلسوف الشمولية الداعي الى حوار الحضارات يخاطب الأجيال الجديدة
وجّه الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي إدغار موران المعروف بالتزامه الإنساني ورؤيته الحضارية الشاملة، والذي تخطى المئة سنة، رسالة تهنئة إلى البشر جميعاً، في مناسبة قدوم العام الجديد 2024، وورد فيها: "شهد عامنا المنتهي كراهيات، ونرى العالم بأسره كأنه على شفا هاوية، فهل يمكننا أن نخفف عن أنفسنا أوزارنا؟ أن نعالج البشر الذين يتألمون؟ إننا نعاني من هذيانات قصوى، فلنحاول تفادي الأسوأ. لنوحد بين الصداقة والحب، عسى أن نأمل في أيام أفضل".
يكون من أندر الظواهر أن يتجاوز مفكّر المئة سنة الأولى من حياته، وهو لا يزال ناشطاً، ومدركاً أبعادَ مسيرته الفكرية والفلسفية، وقد جاوزت السبعين عاماً، إنتاجاً ومغالبةً للتيارات السائدة في عصره، وتمرداً بنّاءً عليها، وترسيخاً لمنهج خاصّ به في الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا والنقد. إنه إدغار نعوم، المعروف بإدغار موران (1921) المولود في باريس، والذي احتفل مجتمع المعرفة والثقافة الفرنسي بمئويته لسنتين خلتا.
بدأ موران حياته الفكرية مناضلاً معادياً للفاشية، ومقاتلاً الى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، ومن ثمّ منخرطاً في صفوف المقاومة ضدّ النازية، باعتباره عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي. ولمّا اشتدّ عوده ورسخ فكره النقديّ، طُرد من الحزب الشيوعي عام 1951 لمقالة تقع في باب النقد الذاتي لهذا الحزب. وسرعان ما اختطّ لنفسه مساراً فكرياً، ميدانه الأوّل علم الاجتماع، وما لبث أن تجاوزه الى التاريخ، والسياسة، والانتروبولوجيا، وغيرها من العلوم، ترفده موسوعية قلّ نظيرها. ولعلّ أهمّ مأثرة تلقّفتها منه العلوم الإنسانية، أواخر القرن العشرين، وأوائل الواحد والعشرين، ذلك اليقين بتكاملية الميادين العلمية، ولا سيما الإنسانية منها (علم الاجتماع، والنفس، والتاريخ، والاقتصاد، والانتروبولوجيا) في تفسير مختلف الظواهر التي تمتّ للإنسان ومجتمعاته بصلة، فاستحدث مصطلح العلوم البينية للدلالة على تضافر هذه العلوم من أجل تحليل أبعاد كلّ ظاهرة إنسانية، أيا تكن، لتشابك هذه الأبعاد وتراكبها، بتشابك أبعاد الإنسان الواحد ومستويات تكوينه.
الكتاب الصادر حديثا (2023) عن دار الثقافة، بعنوان "التفكير شمولياً، البشر وكونهم" والذي نقله من الفرنسية الكاتب غازي برّو، هو دراسة تبسيطية يعرّف فيه الباحث المفكّر إدغار موران، الجمهور العريض، غير المختصّ، بأهمّ مفاتيح منهجه الذي اتّبعه، على مدار أكثر من خمسين عاماً، عبر سبع محاضرات كان الباحث الفيلسوف قد ألقاها على جمهور واسع في مؤسسة دار علوم الإنسان التي بات عضوا فاعلاً فيها منذ سنوات عديدة.
الطريف في رؤية إدغار موران الفلسفية، بما يعني تصويب الفكر نحو تعليل الوجود المادي، وفقاً للمنطق الأرسطي، شروعه في طرح الأسئلة عما يفترض أن يكون بديهياً، وليس هو كذلك في حقيقة أمره. يجيب عن هذا السؤال، بالقول إنّ للكائن البشري ثلاثة جذور؛ فهو وإن نظرنا اليه على أنه فردٌ، سلّطت الحضارة الحديثة عليه أضواء ساطعة، فهو كائن منبثق من مجتمع معيّن، وهو الى ذلك ينتمي الى النوع البشري. وعليه، يتوجّب عدم الفصل بين الأبعاد الثلاثة للكائن البشري، لدى التعريف بالفرد، حفظاً للأدوار التي يقتضيها تكوينه، على ما أشار.
الفرد البشري
ومن ثم ينتقل الى الكلام على الفرد البشري، من منظور انتروبولوجي، وآثاري، واصفاً إياه بأنه ابن لمراحل أربع، اجتازها الكائن البشري، على مرّ ملايين السنين، ومنذ أن تكوّن بيولوجياً من كائنات الأرض ذات الثلاثة عشر بليون سنة من الزمن، وهذه المراحل هي: المرحلة الأولى هي للإنسان العاقل، تليها مرحلة الإنسان اللاعب، وتعقبها مرحلة الإنسان المخترع. ولعلّ المرحلة الأخيرة هي المسؤولة عن تطوّر البشر، واكتشافهم أدوات جديدة واستخدامهم لها على نحو مفيد، وصولاً الى ابتداعهم الأساطير والاعتقادات، من مثل الخلود بعد الموت، وحياة الطيف، وحياة الشبح، وغيرها. وانتهاءَ بظهور الديانات الوثنية، في بلاد ما بين النهرين، ونشوء الحضارات والأديان في الشرق الأدنى، وفي الهند، وغيرها.
على أنّ تصوّراً جديراً بالاعتبار يسوقه لدى تمييزه بين أنواع الحياة التي تتحكّم بالبشر، في الحقبة الأخيرة، وهو أنّ ثمة نوعين رئيسيين من الحياة: نوع الحياة العادية الذي يكتفي فيه البشر بالحفاظ على حياتهم، في حين يتطلّب النوع الثاني الحياة الشاعرية، إضفاء لمسات من الحبّ، والانسجام، والفرح، والصداقة، على أويقات الحياة. ومن أجل فهم أعمق للحاجات الشاعرية عند الكائن البشري، كان لا بدّ من البحث عنها، برأيه، في الأدب، ولا سيما في "الروايات الكبرى "، وفي نوع الرواية بشكل عام، لأنها تظهّر أبعاد الإنسان وحاجاته الكثيرة، كما تدلّ على تعقيد تركيبته الاجتماعية والنفسية والعاطفية، والتي يعصى على سبر أغوارها علمٌ بعينه.
في المحاضرة الثالثة يعاود المفكّر والفيلسوف موران النظر في المقاربة المجتزأة لتاريخ البشرية، فيدحض النظرة التجزيئية التي اعتمدها بعض كبار المثقفين لتفسير التحوّلات الكبرى التي طرأت على البشرية، بتقسيمهم التاريخ أقساماً (من الشيوعية أو المشاعية القديمة، الى الإقطاعية، فإلى الرأسمالية، وأخيرا الى الشيوعية)، باعتباره أنّ تطوّر النوع البشري حاصل عبر سلسلة لا تنتهي من التحوّلات، منذ فجر التاريخ الى يومنا، وأنّ المجتمع البشري، وفقاً لدراسات جاين غودال، أحرز افتراقات نوعية عن مثيله، المجتمع الحيواني. على أنّ الفضل في هذا التحوّل يعود الى "تحوّلات جينية" مع زيادة في حجم الدماغ، عبر ملايين من السنين، وليس بفضل إيديولوجيا أو طبقة ظهرت في حقبة معيّنة وتلاشى أثرها.
الإنسان في الكون
أما المحاضرة الرابعة فقد تناول فيها موران نظرته الى مكانة الإنسان في الكون المترامي الأطراف، والذي يكاد يكون لامتناهياً. وأوّل ما يستهلّ به تعليله اعتباره أن "الحياة ظاهرة نادرة سلفاً على الأرض"(ص:36) فيما لم يتأكّد علمياً بعد وجود حياة على سطح كواكب أخرى. وفي السياق نفسه، يطرح المؤلف نظرية الانفجار الكوني (بيغ بانغ) قبل ثلاثة عشر بليون سنة، ونشوء أعداد هائلة من المجرّات، ومنها مجرّة درب اللبّانة، وفيها "شمسنا وكوكبنا حيث وُلدت الحياة" (ص:38).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن كانت نظرية موران استمراراً لأطروحات الكثيرين قبله، أمثال جورج لوميتر، وفريد هويل، وماكس بلانك، وستيفن هاوكينغ، وغيرهم، فإنه تميّز عنهم برؤيته الشاملة التي تجعل للإنسان الموقع المناسب له في الكون الأوسع، والى جانب الكائنات والعناصر التي تشكّل بيئة الحياة المفترض أن تكون مستدامة، والمهدّد توازنها بسبب تدخّل الإنسان المفرط بما اعتبره ملكاً له، تلويثاً، واستهلاكاً، واستثماراً متوحّشاً لغاية الربح ومراكمة الثروات.
ولدى تطرّقه إلى وصف الحياة، بناء على معطيات علم البيولوجيا، خلص إلى أنّ التطوّر البيولوجي لدى الإنسان حصل في طفرات، بل انحرافات أدّت إلى اتّخاذه البنية الحالية، مع اختلاف الأعراق. والأمر نفسه، أي ظاهرة الانحرافات، حصل في الشأن الفكري والثقافي، بحسب موران، فأدى إلى نشوء الأديان، وظهورالأنبياء والرسل وأتباعهم.
الشمولية والمستقبل والفكر المعقّد
في المحاضرات الثلاث الباقية من الكتاب، يبيّن موران كيف أنّ العولمة في مظاهرها العديدة (الاقتصادية، السياسية، التقنية، العلمية، الفنّية، الثقافية) وما خلّفته اتّجاهاتها المتطرّفة، من حيث الاستهلاك المفرط، والتلوّث البيئي الخطير، والفوارق الصارخة بين الشمال والجنوب، تطرح تحدّيات كبرى أمام الأجيال. وبناء على ذلك، يتوجب على الشعوب أن تعدّ أجيالاً من الشموليين أي الذين ينظرون إلى المشاكل والأاحداث من منظار شمولي، عالمي، من أجل أن يحسنوا وضع الحلول الناجعة لها. ولئن رأى البعض (هانتنغتون، على سبيل المثال) أن الحضارات تؤدي إلى تصادم حتمي في ما بينها، فإنّ موران يعتبر أنّ ثمة آمالاً في أن "تتعايش الحضارات" (ص:70).
على أنّ الخلاصة بل الطرح الأكثر لصوقاً بالفيلسوف، والمعبّر عن فرادته، هو اعتباره أنّ الفكر ينبغي أن يكون معقّدا، والأصحّ مركّباً، أي منفتحاً على كلّ العوامل التي تؤدّي إلى صنع الظاهرة، فكيف إذا كانت الظاهرة إنسانا متشكّلاً من عصب، ولحم ودم، ومعارف، وأساطير، وأوضاع مادية، وتربية معيّنة، وإطار اجتماعي، وغير ذلك؟
وإن صحّ أنّ الكتاب الآنف ذكره يشير إلى أهمّ مفاصل تفكير إدغار موران، ولكنّه أعجز عن إعطاء تصوّر وافٍ عن مجمل أعماله التي بلغت الى حينه 128 عملاً منشوراً، ومنها: المنهج (ستة مجلدات)، إعادة ربط المعارف، المعارف السبعة اللازمة لتربية المستقبل، السنة صفر لألمانيا، الإنسان والموت، السينما والإنسان المتخيّل، مدخل الى سياسة الإنسان، وحدة الإنسان، علم الإجتماع، حبّ، شعر، وحكمة، وغيرها.