ملخص
وصل مومباي أكثر من 1000 تاجر عربي من مناطق نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية فتركوا إرثاً عتيقاً وبصمة حاضرة في الهند... إليكم تفاصيل أكثر
ما زالت الأزقة الضيقة في الأحياء الهندية "عرب لين" و"بهندي بازار" و"زكريا استريت" تحمل في خفايا تاريخها صدى التجار السعوديين، إذ تتداخل طيات تلك الشوارع مع تاريخ العلاقات الوطيدة بين البلدين اللذين لا يفصل بينهما سوى بحر واسع، وتمثل هذه الأحياء محطات حية على خريطة التجار العرب الذين يترددون على سواحل الهند منذ آلاف السنين، حتى ينقلوا السلع التجارية والمنتجات الزراعية الهندية إلى الأسواق الأوروبية.
وكانت مومباي في أوائل القرن الـ20 ميناءً مهماً للقوافل التجارية، ومركزاً تجارياً دولياً رئيساً لتبادل البضائع التجارية المتنوعة، منها الأحصنة النجدية والشاي والبهارات والأقمشة، وكذلك الأخشاب والعود والتمور، حين وصل أكثر من 1000 تاجر عربي من نجد والحجاز ودول البحرين والكويت وعمان والإمارات.
الهند هندك لا قل ما عندك
في فترة القرن الـ13 والنصف الأول من القرن الـ14 الهجري كانت الأوضاع في نجد تشهد تحديات اقتصادية جسيمة نتيجة لضعف الموارد وانقطاع الأمان في تلك الفترة، مما أثر سلباً في النمو الاقتصادي، وهذا الوضع أسهم في تعقيد حياة السكان وتراجع مستوى المعيشة ودفعت الظروف الضاغطة إلى انتشار رحلات الهجرة والتنقل بين الأحساء والعراق وبلدان الخليج، سعياً إلى فتح آفاق جديدة إلى الهند وأصبحوا يرددون "الهند هندك لا قل ما عندك".
مومباي العربية
وفي فترة الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865) تبوأت مومباي مكانة ريادية في تجارة القطن على الصعيدين الوطني والدولي، مما أسهم في ازدهار اقتصادها ورسخ مكانتها كواحدة من المدن التجارية الرئيسة، وكان افتتاح قناة السويس عام 1869 نقطة تحول حاسمة جعلت من مومباي إحدى أكبر الموانئ البحرية على بحر العرب.
ولم تكن الهند مجرد مركز لتجارة القطن بل أصبحت مقراً للإدارة الاستعمارية البريطانية في الهند والخليج العربي، إضافة إلى كونها نقطة انطلاقة رئيسة لنقل الحجاج من مختلف أنحاء الهند إلى ميناء جدة، وشاهدة على إبحار السفن التجارية التي كانت تحت سيطرة العرب حتى وقت لاحق.
الباحث ومؤلف كتاب "السعودية في ضوء كتب الرحلات الهندية" صهيب عالم قال "زرت مدينة مومباي التي ما زالت تحتضن فصلاً مهماً من تاريخ الجزيرة العربية الاقتصادي، فتجولت في شوارعها المتعددة، التي كانت تشتهر بكونها مقار التجار العرب ومساكنها منها بهندي بازار وشارعا محمد علي والعرب وكذلك شارع عبدالرحمن وشارع ناغ ديفي، والتقطت بعض الصور لمساكنهم ومكاتبهم"، مشيراً إلى أن هذه المباني القديمة بدأت تتغير وتتحول إلى الأبراج السكنية الجديدة ذات الـ50 طابقاً، وتسمى بأسماء عربية مثل "برج السعادة" و"برج النصر".
عاش التجار العرب لفترات طويلة في سوق بهندي بازار الذي يقع خلف سوق كرافورد الذي كان مقراً لبعض تجار الخيول العرب وبنوا فيه اسطبلاتهم، وهو حالياً مقر لتجارة الجملة، واستقر بعضهم فيه حتى الممات كما تشهد قبورهم في مومباي.
ويصف الباحث معالم مومباي قائلاً "يقع قرب سوق كرافورد (مبنى بدري) الذي كان مسكناً لبعض التجار النجديين وأبرزهم عائلة البسام، بينما ينسب (شارع عبدالرحمن) إلى تاجر الخيول النجدي عبدالرحمن المنيع، ويقع قربه (مطعم سنترال) في حي بهندي بازار الذي كان معروفاً قبل استقلال الهند بأنه مجلس التجار العرب ومقهاهم وكانوا يرتادونه بكثرة ويحتسون القهوة، وفي ما يتعلق بشارع (سوتر شاول) فيعد سوقاً شهيرة للقطن والأقمشة وكان فيه بعض دكاكين التجار العرب".
وأوضح عالم أن من بين العائلات التجارية السعودية التي اشتهرت بتجارتها في مومباي خلال العقود الخمسة الأولى من القرن الـ20 "عائلات البسام" و"محمد زينل علي رضا" و"القصيبي" وكذلك "الفوزان" و"حمد القاضي"، لافتاً إلى أنهم امتلكوا المكاتب التجارية والشقق الفخمة والفيلل الصيفية في مدينة بونا.
ويعتقد الباحث أن التحديات التي عصفت بتجارة بعض الأجانب لم تواجه التجار السعوديين حينها، لأن اللغة العربية مألوفة في الهند، والمسلمون الهنود ملمون بها منذ القدم، موضحاً أن الثقافة الهندية الإسلامية متشابهة مع الثقافة العربية مع اختلافات بسيطة في بعض العادات والطقوس منها الأطعمة والملابس، إضافة إلى أن النظام القانوني في الهند كان يتسم بالمرونة ولا سيما مع التجار الأجانب.
منفعة متبادلة
ولم يكن التأثير الذي خلفه التجار السعوديون في الهند قائماً على مكاسبهم الشخصية، بل كان لإبراهيم القاضي وهو من التجار العرب المهاجرين دور بارز في تغيير الديناميات الثقافية في المسرح الهندي، بحسب الباحث الذي قال "أسست المدرسة المسرحية الوطنية في 1959 لتكون على غرار أكاديمية الفنون الملكية في لندن وطلب حينها من القاضي إدارتها عند افتتاحها، لكنه لم يقبل معللاً ذلك بنقص خبرته الإدارية، وبعد سنتين تسلم منصب الإدارة لنحو 15 عاماً بين 1962 و1977".
وخلال برنامج "كفتكو" الذي يبث على قناة "أر أس" البرلمانية الهندية يقول إبراهيم "تعود جذوري إلى السعودية، ولكن الفترة الأكثر غنى في حياتي كانت تلك التي قضيتها في بونا، حيث ولدت وترعرعت وتعلمت هناك".
ويروي إبراهيم تجربة والده موضحاً أنه كان يشتغل في تجارة الشاي مع أسرة "البسام"، ثم تطور ليصبح رجل أعمال مستقلاً يتاجر في المنسوجات والأقمشة، مؤكداً أنهم كانوا يتحدثون في المنزل باللغة العربية ويمتلكون معلماً لتدريسها هي والدراسات الإسلامية.
وفي العقدين الأول والثاني من القرن الـ20 كان التجار الهنود ينطلقون من موانئ كوتش وفيرافال على متن سفن هندية متجهين إلى القطيف لشراء اللؤلؤ، وكان هذا النشاط التجاري مستمراً حتى 1885، أي بعد تولي الملك عبدالعزيز آل سعود حكم الأحساء في 1913.
آثار تروى
وأشار الباحث إلى أن كثيراً من تجار الجزيرة العربية والخليج العربي أسسوا عديداً من الأعمال الخيرية منها المدارس والجمعيات واللجان، خلال وجودهم في مومباي التي سميت بـ"بلاد العروس"، كما ساعدوا المحتاجين وبنوا مساكن تعرف بـ"مسافر خانة" لتكون سكناً للغرباء من دون مقابل، وأنشأوا مدرسة الفلاح ولجنة لإغاثة السوريين وأخرى لإغاثة الفقراء في بنغال، وكذلك الجمعية الهندية العربية التي أسست في 1954 بعد فترة الحرب العالمية الثانية، لكي تكون منبراً لتبادل الأفكار والآراء، ودعم مطالبات الشعوب العربية للحرية والاستقلال من الاستعمار، والسعي إلى قيام الأمن والسلام في العالم، وتعزيز الصداقة والأواصر الدولية.
تجارة الخيول
كان لاستيراد الهند الخيول الأصيلة من الجزيرة العربية أثر مهم في صياغة الاستراتيجية العسكرية في تلك الحقبة، لأنها كانت تلعب دوراً حاسماً في الميدان العسكري، وكان وجودها لدى أحد المنافسين يشكل عامل منافسة مؤثراً في نتائج الحروب.
وفي العصور الوسطى اعتمد ملوك الهند على التجار العرب للحصول على الخيول التي كانت تستخدم في الحروب، وبذلوا جهوداً كبيرة لجذب هؤلاء التجار إلى أراضيهم، واستفاد التجار العرب من هذه الفرصة بالفعل في توسيع نطاق تجاراتهم عبر شبه الجزيرة الهندية، حتى وصلوا إلى منطقة تشيتاغونغ في البنغال.
وازدهرت تجارة الخيول العربية في الهند منذ القرن الـ19 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ استوردت ما بين 400 و800 ألف فرس من الخيول العربية، وكانت تباع بأضعاف سعرها أو بمبادلة الحصان الواحد مقابل أربعة خيول أخرى.
ومع تمدد الاستعمار البريطاني في الهند تميزت مومباي بوصفها مركزاً مهماً لتجارة الخيول، فبدأ البريطانيون يشترون الخيول من منطقتي القصيم ونجد السعوديتين من طريق وكلائهم من هذه المدن، وكان عبدالرحمن المنيع وعيسى القرطاس وإبراهيم بن علي وعيد التميمي من أبرز تجار الخيول في الهند، ومعهم أيضاً عبدالله الخنيني وناصر السميري ويوسف بن عيسى العبيد.
تجارة اللؤلؤ
تصدرت مومباي العالم في استيراد اللؤلؤ من الجزيرة العربية وإعادة تصديره إلى عواصم أوروبا وأميركا، ولكن في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي طورت اليابان اللؤلؤ الاصطناعي، مما أدى إلى انهيار صيد وتجارة اللؤلؤ في الخليج، هذا بخلاف تأثر الحركة التجارية بالحروب العالمية التي دارت في هذه الفترة.
وتأثرت منطقة الخليج العربي عموماً وبخاصة مناطق العقير والقطيف وقطر باندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن بعض التجار العرب كان لهم حظ مضيء من خلال ارتباطهم بمومباي في العقود الثلاثة الأولى من القرن الـ20، إذ كانوا يلمعون ويصقلون اللؤلؤ ومن ثم يبيعونه، ومن أشهر هؤلاء التجار محمد علي زينل وعبدالعزيز القصيبي ومقبل الذكير.
أهمية التجارة في الهند
يقول متخصص التاريخ بجامعة القصيم أحمد عبدالعزيز البسام عن المفارقات التجارية في الهند "تاريخ التجارة النجدية في الهند شهد تحولات مهمة، إذ ازدهرت أعمال النجديين هناك، وكانوا يرسلون مساهمات كبيرة من زكاتهم لدعم المحتاجين في بلدهم، ولكن في نهاية القرن الـ14 الهجري غيرت الحكومة الهندية نظام الشراكة للتجار النجديين، مما فرض عليهم الحاجة إلى التعاون مع شركاء هنود بنسبة لا تقل عن 51 في المئة، وهذا التغيير أثر سلباً في التجار مما دفع عديداً منهم للعودة إلى بلدانهم بعد تحسن الأوضاع الاقتصادية بعد عام 1975، في حين استمر القليل منهم في الهند".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف الخبير التاريخي "أول من سافر إلى الهند من أسرة البسام هو حمد المحمد العبدالعزيز المولود في عنيزة عام 1840 والمتوفى بالبصرة في 1906، وكان سفره إلى مدينة مومباي، إذ نجحت تجارته وأشرك معه إخوته عبدالعزيز وعبدالله وعبدالرحمن".
اتفاقات وشراكات
وتعتبر الهند ثاني أكبر شريك تجاري للسعودية، إذ قدر حجم التجارة الثنائية بنحو 52.76 مليار دولار في 2023 مما يشكل 4.53 في المئة من إجمالي تجارة الهند، وتحتضن السعودية نحو 2783 شركة هندية باستثمار يقدر بنحو ملياري دولار، في حين بلغت الاستثمارات السعودية المباشرة في الهند نحو 3.15 مليار دولار حتى مارس (آذار) 2022.
وتعتبر السعودية ثالث أكبر مصدر للنفط والمنتجات البترولية إلى الهند في 2023، حيث وقع البلدان 50 اتفاقاً بنحو 3.2 مليار دولار تشمل قطاعات متنوعة منها الطاقة والبتروكيماويات والزراعة.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح عن نية بلاده دراسة فتح مكتب لصندوق الثروة السيادية في مركز المال التكنولوجي العالمي "غيفت سيتي" في غوجارات غرب الهند، مؤكداً أنه استجابة لدعوة وزير التجارة الهندي بيوش جويال لفتح مكتب في المدينة التي تعتبر مركزاً للخدمات المالية في الهند. وغيفت سيتي هي مركز للخدمات المالية يطبق الحياد الضريبي في الهند، وتعد مشروعاً حيوياً لرئيس الوزراء ناريندرا مودي يهدف من خلاله إلى منافسة مراكز الخدمات المالية الأخرى في آسيا.