ملخص
هيثم مناع في "أطلس اللاعنف" يعالج الأسماء والمفاهيم والمصطلحات ويسبح عكس التيار
في زمن، يستشري فيه العنف بتعبيراته المختلفة، وينتشر في غير منطقة من العالم، ويبلغ في بعضها ذروة التوحش، كما يحصل في قطاع غزة الفلسطيني، يشكل صدور كتاب عن اللاعنف خطوة عكس التيار، وهذا ما يقوم به الكاتب السوري هيثم مناع في كتابه "أطلس اللاعنف"، الصادر عن دار نوفل، في بيروت. والكاتب، على ما جاء في غلاف الكتاب الأخير، مفكر وناشط سوري في مجال حقوق الإنسان، درس الطب والأنثروبولوجيا والقانون الدولي في سوريا وفرنسا، وشارك في تأسيس "اللجنة العربية لحقوق الإنسان"، ويرأس "المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان" الذي يحمل اسمه، وله أكثر من 60 عنواناً في هذا المجال. من هنا، يخوض في عباب يتقن السباحة فيه حتى وإن كانت سباحته عكس التيار.
فكرة الكتاب
أما الكتاب فهو الثاني لصاحبه عن دار نوفل، بعد "تهاوي الإسلام السياسي"، الصادر عام 2021. وقد جاءت فكرته من مناضل حقوقي إيراني حين طلب من الكاتب أن يزوده بما كتب عن اللاعنف، حرصاً منه على عدم انجرار حركة الاحتجاج النسوية على سلطة ولاية الفقيه إلى الوسائل العنفية، كما حصل في سوريا، وجاء الاحتفاء في الذكرى الأولى لغياب المناضل اللاعنفي الأوروبي جان ماري مولر، المعروف بـ"غاندي أوروبا"، ليجعل تلك الفكرة تبصر النور، لا سيما أن القاموس الذي وضعه الأخير، وقرأ فيه 108 مفاهيم ومصطلحات من منظور لا عنفي، شكل حافزاً لمناع "على كتابة أطلس مختصر يتناول أسماء مهمة في النضال المدني غير العنيف، ويرصد الإنتاج المنهجي للعنف الديني والأيديولوجي والسياسي والمجتمعي للمحن ومحاكم التفتيش وتكفير المختلف، كذلك الإشكالات العملية التي تعيشها الحركات المناهضة للعنف عبر تجارب ملموسة"، على حد تعبيره في المقدمة (ص 6). وهو ما يحاول تنفيذه في الكتاب.
المحتوى والترتيب
يشتمل "أطلس اللاعنف" على 30 مادة نصية. تتوزع على: 14 ترجمة شخصية، 15 مفهوماً أو مصطلحاً، و50 شذرة مختلفة مستلة من آخرين، يذيل الكاتب بها الكتاب، مستعيراً لها من أبي حيان التوحيدي عنوان "بصائر وذخائر". على أن توزيع هذه المواد على صفحات الكتاب لا يخضع لمعيار معين، وهو ما يشير إليه صاحبه في أحد الهوامش من أنه "ليس لترتيب الفصول في هذا الأطلس قاعدة أبجدية ولا تفضيل معنوي" (ص 8). لذلك، لا غرو إذا ما وجدناه يجاور بين المهاتما غاندي والتكفير، أو بين جبران خليل جبران وجريمة الحرب، أو بين نيلسون مانديلا ومحاكم التفتيش، على سبيل التمثيل. ولعل هذه الفوضى المقصودة في التوزيع من شأنها أن تضفي على الكتاب التنوع، وأن تنأى بالقارئ عن السقوط في درك الرتابة، من دون أن ننسى أن سلكاً واحداً ينتظم المواد المتجاورة، المتنافرة، هو اللاعنف وتعبيراته المختلفة.
في التراجم، يتناول مناع 14 شخصية، تاريخية ومعاصرة، عربية وأجنبية، اقترنت أسماؤها بمناهضة العنف بشكل أو بآخر. ويركز في الترجمة على هذا الجانب في الشخصية المترجم لها، بمعزل عن النسبة التي يشغلها في حياتها، وهو ما يتفاوت بين شخصية وأخرى، ففي حين يطغى النضال المدني غير العنيف على حياة بعضها، كما هي الحال مع المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا، يقتصر على جانب معين في حياة بعضها الآخر، كما هي الحال مع جبران خليل جبران وعبدالله العلايلي. ويتعدى التفاوت بين الشخصيات المترجم لها المضمون إلى الشكل، فتتراوح المساحة المخصصة للشخصية الواحدة في الكتاب بين صفحة ونصف الصفحة في حالة الكاهن الزرادشتي مزدك، في الحد الأدنى، و12 صفحة في حالة المناضل الفرنسي جان ماري مولر، المعروف بـ"غاندي أوروبا"، في الحد الأقصى. مع الإشارة إلى أنه كثيراً ما يتقاطع المناضلون اللاعنفيون في أدوات النضال، من جهة، وفي الأثمان التي يدفعونها، من جهة ثانية.
بمعزل عن التفاوت بين الشخصيات المترجم لها، في الشكل والمضمون، ولأن المقام لا يتسع للإحاطة بتراجم المناضلين الـ14 الذين يتناولهم الكتاب، حسبنا الإشارة إلى أبرز أربعة بينهم، بدءاً بالمهاتما غاندي الذي نطلق عليه تجوزاً لقب "غاندي آسيا"، مروراً بنيلسون مانديلا الذي يمكن اعتباره "غاندي أفريقيا"، ومارتن لوثر كينغ الذي نعتبره "غاندي أميركا"، وانتهاء بجان ماري مولر المعروف بـ"غاندي أوروبا"، لا سيما أن الثلاثة يتقاطعون في بعض أساليب النضال وبعض الأثمان المدفوعة.
غاندي آسيا
في هذا السياق يشير المؤلف إلى أن المهاتما غاندي دافع بعناد عن قضية المهاجرين الهنود في جنوب أفريقيا ضد التمييز العنصري، ونظم تجمعاً في جوهانسبورغ لـ2000 هندي أحرقوا خلاله بطاقات تسجيلهم في البلاد عام 1908، وسار مع 2000 عامل مناجم 10 أيام متتالية احتجاجاً على ضريبة الإقامة عام 1913، ونظم حملة مقاطعة البضائع الإنجليزية عام 1920، وشكل حركة "غادروا الهند" عام 1944، وأضرب عن الطعام 22 يوماً احتجاجاً على الخلافات بين الهندوس والمسلمين 1947. ودفع جراء هذه الأساليب أثماناً غالية، تراوحت ما بين الاعتقال في الأعوام 1922 و1932، و1942، ووفاة زوجته في المعتقل، والصيام داخل السجن، والإضراب عن الطعام، والاغتيال على يد متعصب هندوسي في 30 يناير (كانون الثاني) 1948.
غاندي أفريقيا
ويشير المؤلف إلى أن نيلسون مانديلا قاد إضراباً طلابياً عام 1949، وقاد حملة سلمية ضد القوانين العنصرية الجائرة في جنوب أفريقيا عام 1952، وقاد الحراك الشعبي عام 1961. واعتقل جراء نضاله عامي 1952 و1962، وحكم عليه بالسجن المؤبد عام 1964.
غاندي أميركا
ويشير إلى أن مارتن لوثر كينغ كان معجباً بالمهاتما غاندي، وانخرط مبكراً في مناهضة التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية، فترأس جمعية محلية في مونتغمري اضطلعت بدور مهم في تحويل قضية اعتقال سيدة سوداء لأنها جلست في مقعد أمامي لحافلة خصصت مقاعدها الأمامية للبيض عام 1955 إلى قضية قومية، وأسس مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية للمطالبة بالحقوق المدنية عام 1957، ودعم "لجنة التنسيق الطلابي لمناهضة العنف" عام 1959، وقاد أهم التحركات السلمية في الستينيات من القرن الماضي، وشارك في تظاهرة واشنطن عام 1963 رفضاً للقوانين الجائرة، وناهض الحرب على فيتنام عام 1967. وقد دفع ثمن نضاله اعتقالاً عام 1963، واغتيالاً عام 1968. وبذلك، يتقاطع مع مثاله غاندي في أساليب النضال والأثمان التي دفعها كل منهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غاندي أوروبا
ويشير إلى أن جان ماري مولر انخرط في أنشطة نظرية وعملية في نضاله المدني، وقرن النظرية بالتطبيق، فاجتمع فيه الفيلسوف والناشط اللاعنفي، وتراوحت أساليب نضاله ما بين المحاضرات، وتنظيم العرائض، وإعداد الدراسات، ونشر الكتب، والتفرغ للبحث العلمي، والإضراب عن الطعام، والاحتجاج على تجارب نووية، ومناهضة الحرب على فيتنام، وتأسيس حركة البديل اللاعنفي، والمشاركة في حملة قانونية، وإنشاء معهد أبحاث، وقيادة دورات تدريبية، والمشاركة في بعثات حفظ السلام، وإصداره "قاموس اللاعنف" عام 2005. ولعل ما يميزه عن المناضلين السابقين هو أنه لم يتعرض للاعتقال في نضاله المدني، واقتصر الثمن المدفوع من قبله على إضراب عن الطعام لـ15 يوماً عام 1970 احتجاجاً على بيع فرنسا طائرات ميراج لحكومة الجنرالات البرازيليين، وإضراب آخر لأربعة أيام عام 1978 رفضاً لإقامة معسكر على أرض للفلاحين.
مفاهيم ومصطلحات
في المفاهيم والمصطلحات، يتناولها مناع في 15 مادة نصية. وهي على تعالق مع عنوان الكتاب بشكل أو بآخر. لذلك نجد بينها مفاهيم ومصطلحات من قبيل: العصيان المدني، المقاومة المدنية، اللاعنف، الحرية، التسامح، العنف، جريمة الحرب، العقوبات الجسدية، محاكم التفتيش، المحنة، وغيرها. وهو عادة ما يقوم بالتعريف بالمفهوم أو المصطلح، ويرصد تمظهراته، سواء على المستوى العمودي التاريخي أو الأفقي الجغرافي. وقد يشير إلى دوره في هذا التمظهر أو ذاك، من خلال نشاطه الحقوقي، مما يجعل الموضوعي يختلط بالذاتي. وحسبنا الإشارة في هذا المجال إلى تحذيراته من عسكرة الثورة السورية، مما يقدم للديكتاتورية ذريعة أخرى للفتك بها، وهو ما حصل بالفعل. وهنا يسجل لمناع تبكيره في إطلاق صرخته ضد العسكرة عام 2011 بالقول "العنف يؤجج العنف والحقد يزيد العمى"، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا هيثم؟
ويعد "أطلس اللاعنف" كتاباً عكس التيار في هذه اللحظة التاريخية، وهذا ما يمنحه قيمة مضافة. حاول فيه مؤلفه تحقيق الهدف من وضعه، وقد سبقت الإشارة إليه أعلاه، فنجح إلى حد كبير، مما يجعل الكتابة عنه لا تغني عن قراءته.