لقد كانت أسرع كلمة "نعم" تلفظ بها توم كروز على الإطلاق. في أواخر 1995، سافر أكبر نجم سينمائي في العالم على متن طائرة مروحية إلى قصر "تشايلدويكبري" في مقاطعة هارتفوردشير في جنوب إنكلترا. وفي الحديقة الفسيحة، انتظره المخرج ستانلي كوبريك الذي يعيش في شبه عزلة في ذلك القصر العائد إلى القرن الثامن عشر، منذ أن اشتراه في 1978. وهكذا بدأت مغامرتهما العظيمة لصنع فيلم "عيون مغمضة على اتساعها" Eyes Wide Shut الذي جسّد تأملاً أبدياً وخلافياً عن موضوعات النفس والجنس، وأُطلِقَ في المملكة المتحدة في مثل ذلك الأسبوع قبل عشرين عاماً.
لا يزال هناك غموض كثيف يكتنف فيلم "عيون مغمضة على اتساعها". يعود ذلك جزئياً إلى الموضوع الذي يعالجه. وعندما تعترف سيّدة فاتنة (نيكول كيدمان) متزوجة من طبيب ناجح (توم كروز) بالرغبة التي شعرت بها تجاه شخص غريب قبل أشهر عدّة، يغرق زوجها في دوامة الغيرة.
على مدار أمسية واحدة يطغى عليها الهذيان، ينطلق الدكتور بيل هارفورد في جولة داخل أحلك تجاويف القلب البشري. ويصدّ إبنة مريض توفي والدها للتو وتعترف له بحبها، وكان قاب قوسين أو أدنى من استئجار فتاة ليل في حالة حلم مخبول وغريب، ثم يجد نفسه متورطاً في حفل تنكري ماجن. إنه أشبه بكابوس. ولا يستطيع المشاهدون أن يتيقنوا تماماً إذا كانت الأحداث حقيقية أم غوصاً في حياة وأحلام هارفورد كما يراها بعينيه الخضراوين.
سيكون كل ذلك كافياً لضمان شهرة الفيلم. ومع ذلك، فإن جاذبية "عيون مغمضة على اتساعها" تنبع بالتأكيد أيضاً من الدرجة التي اقتحم بها الموت فيلماً يدور حول الجنس. قضى كوبريك بأثر من انسداد قاتل في الشريان التاجي قبل إصدار الفيلم. وقبل ذلك بستة أيام، عرض النسخة النهائية للعمل أمام كروز وكيدمان.
وإضافة إلى كل ما ورد، يبدو أن "عيون مغمضة على اتساعها" تنبأ بنهاية علاقة الزواج التي كانت تبدو براقة في ظاهرها بين كروز ورفيقته في النجومية كيدمان. إذ انفصلا في أغسطس (آب) 2001، بعد قرابة عامين من إطلاق ذلك الفيلم. بدا الأمر مشؤوماً وأكثر من أن يكون مجرد صدفة. هل بث هذا الفيلم- الظاهرة الذي صنعه كوبريك، ذلك الخطر في صميم علاقتهما؟
وبنظرة استرجاعية، يبدو كأن المستقبل كان يخبئ تلك الأسئلة عندما جلس كروز، راسماً ابتسامة عريضة تتناسب مع نجوميته التي كان يحظى بها حينها، لتناول غداء مطوّل عند الظهيرة مع كوبريك في "تشايلدويكبري" في عام 1995. بدت المحادثة بسيطة في معظمها. إذ ناقشا شغفهما المشترك بالكاميرات القديمة والطائرات وفريق نيويورك يانكيز للبيسبول. أخبره كروز كيف أذهلته مشاهدة فيلم "2001: ملحمة الفضاء" لكوبريك، عندما كان في سن السادسة من عمره. "لم أستطع التوقف عن التفكير في الأمر. ما هي الحياة؟ ما هو الفضاء؟ ما هو الوجود؟ " وفق كلماته. (ولا بد أن بعضنا قد خبر الأمر نفسه عند مشاهدة فيلم "توب غـان").
يتذكر كروز لقاءه مع كوبريك، "لقد كان ينتظر وحيداً في الحديقة ... لقد أخذني في جولة في الأرض المحيطة بالقصر، وأتذكر أنني كنت أفكر أن "ذلك الرجل أشبه برجل ساحر ورائع".
ومع ذلك، وصلا في النهاية إلى لب الموضوع. أراد كوبريك أن يؤدي نجم فيلمي "توب غـان" و"كوكتيل" الدور الرئيسي في شريط يعالج في صبغة جنسية واضحة، رواية نمساوية تجريبية كُتِبَتْ في عشرينيات القرن العشرين. أراد الفيلم أن يضع على المحك السينمائي زواجاً يبدو أنه متماسك. وتماماً مثل طبيب شرعي يقوم بإزالة طبقات الجلد الشمعية، سيعمل كوبريك ببرود على فحص التقيّح الكامن تحتها.
انغمس كروز في العمل قلباً وقالباً. وتبلوّر لديه اقتراح خاص به. إذ ساءل عن تفكير كوبريك في اختيار شريكة حياته الحقيقية، نيكول كيدمان، للعب دور الزوجة "آلِس". وبعد مرور عقدين من الزمن، يمكن اعتبار تلك التركيبة التي لم تكن متوقعة من مخرج متنسّك، وممثل واثق، وجميلة من جميلات الشاشة، إحدى أكثر الحالات الشاذة الساحرة في هوليود. بحق الجحيم، كيف أمكن لذلك الفيلم أن يصبح حقيقة فعلاً؟
سيتمكن "عيون مغمضة على اتساعها" من إلقاء ظلال ستستمر طويلاً. لقد زاد في صنع خلفية الضجيج التي رافقت تعرّض صورة كروز العامة للانهيار بعد انفصاله عن كيدمان. في 2005، ظهر في برنامج المقدمة التلفزيونية أوبرا وينفري مُعلِناً عن حبه لـكيتي هولمز. لقد فعل ذلك بأسلوبه التقليدي وهو يتقافز على الأريكة ويتحدث بصوت مرتفع جداً مثل نباح كلب لابرادور. لقد تطوّر ذلك الجانب المهووس الذي ألمح إليه للمرة الأولى خلال تلك التجربة القاسية مع كوبريك، إلى شيء يثير الرهبة والخوف.
واستطراداً، من المستحيل مشاهدة "عيون مغمضة على اتساعها" حاضراً، من دون أن تكون كل تلك المؤثرات حاضرة في تفكيركم... الانسداد التاجي لكوبريك، الطلاق الهوليودي، التفافز على الأريكة. ويتمثّل أثر كل ذلك في تضخيم تلك الغرابة المتقدة بالفعل. إنه فيلم متنافر للغاية. حتى بالنسبة لكوبريك، وبالتأكيد لكيدمان وكروز. لكنه شجاع أيضاً في رؤيته للجنس، إضافة إلى فظاظته فيما يتعلق بشؤون القلب، وأجزاء أخرى من الجسم، إلى حد لا يمكن تصوّره في الترفيه السائد اليوم. حتى في عام 1999 ، بدا الفيلم وكأنه شيء من عصر آخر. إذ أعادنا فيلم "عيون مغمضة على اتساعها" إلى الوراء، إلى عدم الاكتراث والعدمية المنمقة لسينما مرحلة السبعينيات من القرن العشرين.
علاوة على ذلك، يستحق الفيلم وسام الأولوية كأشهر حفل للعربدة ظهر على الشاشة في تاريخ هوليود. إذا جرى نسيان كوبريك ونجومه، وذلط أمر غير مرجح، سيبقى العمل خالداً إلى الأبد كرقصة جنس جماعية تقودهم جميعاً. بمجرد أن تقولوا "مجون على الشاشة"، سيكون كل ما سيخطر على بال غالبية الناس هو كروز الذي يحدق في حالة من الارتياب الشديد بينما يتلذذ بذلك المحتفلون الذين يرتدون أقنعة احتفالية (وببعضهم البعض).
اعتُبر الفيلم متجاوزاً للحدود قبل وقت طويل من صدوره. وسجل رقماً قياسياً في مؤشّر "غينيس" بوصفه الفيلم الذي استغرق أطول مدة تصوير. إن مدة 400 يوم التي طلب كوبريك من طاقمه أن يكدح خلالها في استوديوهات باينوود، كانت شاقة حتى ضمن معاييره المُضنية. وخلّفت وزراً ثقيلاً على كروز، الذي أجبر على تأجيل تصوير الجزء الثاني من فيلم "مهمة مستحيلة" مرة تلو الأخرى. وبينما كان فريق الإنتاج بأكمله ينتظر كروز في أميركا على أحر من الجمر، كان كوبريك يفرك ذقنه ويتسلى.
ضمن ذلك السياق، شكّل "عيون مغمضة على اتساعها" هاجساً رافق المخرج طوال حياته. تعود جذوره إلى السنوات الأولى من حياته المهنية. وعندما كان كوبريك يعمل مصوراً فوتوغرافياً بارعاً في نيويورك، افتُتن برواية قصيرة تحمل عنوان "قصة حلم" كتبها المؤلف النمساوي آرثر شنايتزلر في 1926. شعر (كوبريك) أن الرواية واجهت أحد آخر المحرمات في المجتمع عبر سؤالها عن كيفية التعامل مع الرغبة "المحرمة" ضمن إطار الزواج. وعلّق كوبريك على ذلك، "ينبري الكتاب للمغامرات الحقيقية لزوج والمغامرات الخيالية لزوجته ... إنه يطرح ذلك السؤال... هل هناك فارق خطير بين الحلم بمغامرة جنسية وبين الانخراط في واحدة فعلاً؟"
أجرى كوبريك محاولات سابقة عدة لتقديم نسخة سينمائية من "قصة حلم". في 1973، كانت لديه فكرة تغيير مكان الأحداث من فيينا في مطلع القرن العشرين إلى دبلن المعاصرة. تمثّلت خطته في إسناد الدور الذي لعبه كروز إلى وودي آلن ليكون ذلك الرجل السعيد بزواجه ويصاب بالحيرة عندما تعترف له زوجته برغباتها السرية. علاوة على ذلك، في مرحلة ما خلال تلك الرحلة، خلص كوبريك إلى أنه ينبغي تغيير الإطار الزمني من كرنفال "ماردي غرا" المبهرج في قصة شنايتزلر، إلى عيد الميلاد، فقدّم لنا فيلم المواسم الأقل احتفالية على الإطلاق.
على نحو مُشابِه، ورد الممثل ستيف مارتن في خيارات كوبريك بعد أن قرّر أن المعالجة السينمائية يجب أن تحدث في نيويورك. ومع حلول أوائل التسعينيات من القرن العشرين، كان يتطلع إلى نجمي الدرجة الأولى السيد أليك بالدوين والسيدة كيم بازنجر كي يؤديّا دور الثنائي المؤثر المريض عاطفياً، في ذلك المشروع السينمائي. ثم ظهر اسم كروز.
لم يقترحه كوبريك، وطرحه منتجه تيري سيميل الذي يعمل في استوديو "وورنر براذرز". أراد المخرج من شركة "وورنر" أن توافق على ميزانية قدرها 65 مليون دولار لصالح "عيون مغمضة على اتساعها". ورفض كوبريك أن يصوّر خارج المملكة المتحدة، وسيُنفق معظم تكاليف الإنتاج على إعادة بناء مانهاتن في قلب إنكلترا. بدا سيميل مطواعاً، شريطة أن يؤدي دور الدكتور هارفورد، نجم له شهرة ساحقة. ومَنْ كان ذائع الصيت أكثر من النجم الجذاب بطل أفلام ’توب غـان" و"مهمة مستحيلة"؟
في المقابل، لم يكن لكن كوبريك متأكداً. وتذكيراً، مثّل جاك نيكلسون آخر اسم كبير عمل كوبريك معه، في فيلم "الإشعاع" (= "ذي شايننغ" The Shining) 1980. وآنذاك، احتُفِيَ بذلط الفيلم بوصفه تحفة فنية. في المقابل، لم يكن تصويره سوى الجحيم بعينه. لم يكن كوبريك راضياً بشكل خاص عن ميل نيكلسون للتعبير عن رأيه بدلاً من الانصياع إلى التعليمات. وعلّق سيميل على ذلك بالإشارة إلى "إن النجوم لديهم آراء كثيرة للغاية".
بالعودة إلى "عيون مغلقة على اتساعها"، ثابر سيميل في سعيه. ثن لفظ كروز كلمة "نعم" من دون تردد. وبمجرد تسوية ذلك، صار كوبريك قادراً على اختيار كيدمان في دور السيدة هارفورد. كان "توم ونيكول" أحد أكثر الثنائيات شهرة في العالم. وتعرض زواجهما للضغط التقليدي من القيل والقال. ولا شك أن أداء شخصين متزوجين فعلياً دور ثنائي في زواج متفكك، قد أضفى بعداً جديداً من الخفايا النفسية الجنسية.
إضافة إلى ذلك، بدا أن كوبريك انطلق في استكشاف شروخ في زواج كروز وكيدمان الحقيقي. إذ جعل كيدمان تكشف عن مشاعرها الداخلية في جلسات علاجية مكثفة، لم يجرِ إطلاع كروز على نتائجها. ومَنَعَ المخرج الممثلَ من حضور جلسات تصوير أدّت فيها كيدمان مغامراتها الخيالية مع الضابط البحري الذي تمكّن من إيقاظ شيء ما في دواخل آلِس.
احتفظ كوبريك بحماسته خلال التصوير القاسي. في المقابل، بدا احتفاظ كروز وكيدمان بروح إيجابية، أمراً أشد صعوبة. لم يرجع ذلك إلى كثافة مادة الفيلم، ولا شبه العري المطلوب من كيدمان التي كانت صارمة منذ البداية بخصوص ما تفعله وما تمتنع عن أدائه). يعود السبب في ذلك إلى أن التصوير كان يبدو أنه سيستمر إلى الأبد. في إحدى المرات، أصر كوبريك على أن يمر كروز من الباب نفسه 95 مرة. ونُمي أنه أخبر كروز ممازحاً: "هيه .. يا توم، التزم بكلامي وسأجعلك نجماً". وحاول الأخير أن يضحك لكنه لم يكن قادراً على ذلك تماماً.
ولاحقاً، علّقت كيدمان على ذلك، وذكرت إن "التصوير استغرق عشرة أشهر ونصف، لكننا كنا هناك طيلة عام ونصف... في بعض الأحيان، كان الوضع محبطاً للغاية لأننا رحنا نفكر إذا كان ذلك سينتهي على الإطلاق؟".
في ذلك الوقت نفسه، تعرض كروز إلى ضغوط من استوديوهات شركة "بارامونت" بسبب الجزء الثاني من فيلم "مهمة مستحيلة" الذي تأجّل مرتين آنذاك بسبب "عيون مغمضة على اتساعها". ووقف بكل أدب بجانب كوبريك أكثر من مرّة وتساءل عن احتمال أن يكون لدى المخرج فكرة عن موعد الانتهاء من العمل. لم يكن لدى كوبريك إجابة مباشرة. وسرعان ما أصيب كروز بالقرحة، الأمر الذي أخفاه عن كوبريك. ولم يرد أن يزيد الأمور تعقيداً.
وفي وقت لاحق، أخبر كروز مجلة "تايم" أنّه "لم أرد أن أخبر ستانلي... لقد شعر بالذعر. أردت أن ينجح الأمر، لكنك عندما تمثل، تكون كمن يلعب بالمتفجرات. تتصاعد المشاعر. أنت تحاول ألا تصعّد الأمور، لكنك تمر بأشياء لا يمكنك التحكم بها".
من المذهل أن مسألة ترتيب المواعيد كانت أكبر مشاكل كروز. فقد استغل كوبريك الفرصة بالكامل لتجريد الممثل من هالة النجم السينمائي. مراراً وتكراراً خلال مدة الفيلم البالغة 159 دقيقة، فعل كوبريك المستحيل ليصوّره بطريقه غير جذابة.
لقد سخر المخرج علانية من صورة الفتى المُغوي صاحب الكلام المعسول، الذي كان جزءً أساسياً من شخصية الممثل. في أحد المشاهد الأولى، يغازل هارفورد عارضتي أزياء في حفل. جعل كوبريك كروز ينطلق بالصبيانيّة المعروفة عنه. لكنه قدمها ضمن إطار يجعل كروز يبدو غراً وعديم الجاذبية. من خلال حديث توم كروز، فإن الفيلم يقول بصراحة أو من دونها، إنه أقل الأشخاص سحراً على وجه الأرض.
في جانب آخر، حدث غمز ولمز أيضاً بشأن شائعات لا أساس لها من الصحة تتناول ميول كروز الجنسية. أثناء التنقل في نيويورك ليلاً، يواجه هارفورد مجموعة من الصبيان المهمشين الذين يعيّرونه بميوله إلى المثلية الجنسية. استخدم كوبريك المشهد نفسه للسخرية من بينة كروز "الضئيلة" البالغة 5 أقدام و7 إنشات. إذ يستهزئ به أحد مهاجميه فيدفعه جانباً، قائلاً: " لدي سلاّت مهملات أضخم منك".
"يبدو أن كوبريك يبتهج كثيراً بتخريب الصورة الذكورية لرجل الموقف، التي يتمتع بها كروز. إذ تجسّد شخصية بيل هارفورد شخصاً يكاد أن يكون سبلياً بشكل مرضي، وغير قادر على الاعتراف بميوله الجنسية، ولا حتى استكشافها"، وفقاً لمقال صدر عن "المؤسسة البريطانية للأفلام" في ذكرى صدور فيلم "عيون مغمضة على اتساعها". ووفق كلمات المقال نفسه، "إنه (هارفورد) أيضاً رجل برجوازي بطريقة تحض على الإذلال، إذ إنه يعرّف عن نفسه كطبيب لكل من يقابله، كما لو أن ذلك الأمر يمنحه بشكل تلقائي سلطة أخلاقية في كل الموقف".
على الرغم من كل ما سلف، أعلن كروز وكيدمان كلاهما عن سعادتهما بالفيلم في صورته النهائية. إذ قلِقَ كوبريك للغاية من تسرّب التفاصيل، إلى درجة أنه عندما رتب موعداً لهما لعرض الفيلم أمامها في "لوس أنجلوس"، أمر عامل العرض بأن يحيد بنظره عن الشاشة.
وفي مرحلة تالية، تجاوز كروز وكيدما جنون العظمة لدى مخرجهما، وكانا فخورين بنتيجة عملهما الشاق. إذ ظهر أمامها فيلم رائع يحمل رسالة يستطيع أن يفهمها الجميع ومفادها أنه لا يمكنك أبداً أن تعرف تماماً الشخص الذي يشاطرك السرير نفسه. إذ أعربت كيدمان عن قناعتها بأن الشريط ليس "قصة أخلاقية... إذ يتفاوت الأمر لدى الأشخاص الذين يشاهدونه".
ويوافقها كروز ذلك الرأي. لقد صنع كوبريك تحفة من الغموض. ووفق كلمات كروز، "ليس الفيلم سوى كل الأمور التي يفهمها الجمهور منه... إذاً، بحسب اختلاف مكانك في الحياة، سوف تستمد منه شيئاً مختلفاً".
وضمن إطار واسع، بعد مرور عشرين عاماً، أصبح "عيون مغمضة على اتساعها" عملاً كلاسيكياً معترفاً به. ولا ينفي ذلك أنه سيء السمعة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى حفلة العربدة التنكرية. إنها محور الفيلم بكل معنى الكلمة، وواجه كوبريك الصعوبة الأكبر أثناء تصديه لمسألة التسلسل في ذلك الحدث الرئيس. وغني عن الإشارة إلى أنه لم يكن مخرجاً محتشماً أبداً.
وفي المقابل، لم يعمد كوبريك إلى فرض الخلاعة عنوة على الجمهور. مع حلول الوقت للبدء بتصوير احتفال الأجساد العارية في"عيون مغمضة على اتساعها"، قال مساعد المخرج برايان كوك مازحاً إنه كان يتعين عليهم الاستعانة بـتوني سكوت، مخرج فيلم "توب غان"، كي يساعدهم. وتحمل الكلمات إشارة إلى أن الموضوع الذي تتناوله تلك الحفلة يتناسب أكثر بكثير مع أسلوب سكوت البراق.
في ذلك الصدد، تمثّلت طريقة كوبريك لاقتحام حفلة العربدة في اللوحات الصوتية التي وضعتها المؤلفة الموسيقية جوسلين بوك. ولقد عرّفه أحد المنتجين العاملين معه على مقطوعة من تأليفها تحمل اسم "الكهنة المعكوسون" التي تتضمّن قدّاساً إلهياً أرثوذكسياً رومانياً معزوفاً بالعكس. صدم كوبريك من نوعية العمل المظلمة والمملؤة بالنشاز.
"نظر (كوبريك) إلى عيني مباشرة قائلاً "لنصنع موسيقى جنسية!". قلت لنفسي، ما هي موسيقى الجنس بحق الجحيم؟ هل هي باري وايت؟". قد تستعمل بوك ووفق كلمات من فيلم "مذهول ومرتبك" الكوميدي، في وصف ذلك الأمر. ووفق كلماتها، "ستانلي لم يكن مهتماً بالتفاصيل، وقد كان واثقاً من أنني سأجيب على السؤال".
وبصورة فعلية، ألَّفَتْ بوك 24 دقيقة من الترنيمات والإيقاعات الصاخبة، مستخدمة نفس الأسلوب المعكوس الذي استخدمته للمرة الأولى في "الكهنة المعكوسون". وعندما تُعزَفْ بطريقة صحيحة، تنص كلمات الأغنية على أن "الله قال لتلاميذه... أعطيتكم أمراً... أن تصلّوا إلى الرب من أجل الرحمة والحياة والسلام والصحة والخلاص والبحث والبراءة ومغفرة خطايا أبناء الله".
في تلك الآونة، انغمس كوبريك وطاقمه في أعمال إباحية لطيفة، خصوصاً المسلسل المثير جنسياً "يوميات حذاء أحمر" لديفيد داتشوفني. أرادوا أن يعرفوا مدى جاهزيتهم لدفع ما يعملون عليه إلى حدود قصوى، وكذلك قدرتهم على رسم حد معين فلا يتجاوزوه.
وعلى نحو ما بات معروفاً، صُوّر الحفل الماجن في أبراج "مينتمور" التي تشكّل عقاراً ريفياً في مقاطعة باكينغهامشير شيّدته عائلة روثستشايلد (اشتُهِرَ عنها تنظيم حفلات تنكرية). في البداية، أراد كوبريك من العارضات المشاركات في ذلك الجزء من الفيلم، أن يؤدين محاكاة للجنس إلى أبعد مدى يستطعنه. وطُلب منهن الاطلاع على كتاب "كاما سوترا" الهندي الذي يوضّح السلوك الجنسي البشري ووضيعاته. وفي المقابلن جاء جوابهن بأنهن لم يوقّعن على مشاركة في ذلك المستوى الفاضح.
واستناداً إلى ذلك، أعيد تصوير مشهدية الحفلة كقطعة راقصة تشير إلى عيد الإله باخوس الروماني الماجن. ونظراً لأن كروز يسلب الأنظار بالكامل، لا يمكنكم التركيز تماماً على ما يجري. إنها في الغالب إيحاءات مظلمة ومطموسة. وترك الباقي إلى مخيلة المشاهدين.
ربما عشق كروز وكيدمان "عيون مغمضة على اتساعها"، لكن النقاد كانوا أبطأ في استيعابه، حتى بعد أن جعلت وفاة كوبريك المفاجئة عن عمر 70 عاماً ذلك العمل أغنية وداعه. لم يكن ذلك مستغرباً بالنسبة إلى ذلك المخرج. إذ قوبل فيلماه "2001: ملحمة الفضاء" و"إشعاع"، بحَيْرة من النقاد. وأثار فيلمه "البرتقالة الآلية" حالة ذعر أخلاقي كاملة. وفي المقابل، جاء رد الفعل على "عيون مغمضة على اتساعها" في مكان ما بين هذين القطبين. وببساطة، وجده كثيرون عملاً معزولاً وباهتاً بعض الشيء، (لقد استعاد الفيلم ثلاثة أضعاف ميزانيته تقريباً وكان أكثر فيلم مربح لكوبريك).
وتذكيراً، وصفت صحيفة "واشنطن بوست" الفيلم بـ"إنه خال من الأفكار، وذلك أمر لابأس به .. لكنه خال كذلك من الحرارة. إنه فيلم غير مثير عن الجنس". ووافقت مجلة "توتال فيلم" الفنية على ذلك، مشيرة إلى "إنه فيلم عن الحب مصنوع بقلب بارد".
وعلى الرغم من ذلك، لطالما آمن كوبريك بتحضير الأمور على نار هادئة. وبنفس الطريقة، وبمجرد مرور عقود من الزمن، تكشّفت العبقرية الحقيقية لـ"عيون مغمضة على اتساعها". ويعترف كريستوفر نولان الذي يصف نفسه كمؤيّد لكوبريك، بأنه من بين أشخاص كثيرين أقرّوا أنهم أساؤوا فهم الفيلم عندما شاهدوه للمرة الأولى. وفي وقت لاحق، عندما بات أكبر سناً وأكثر حكمة بقليل، بدأ يفهم ما كان يتطلع إليه كوبريك.
وبحسب نولان، "إن مشاهدة الفيلم من منظور جديد، تؤثر بشكل مختلف تماماً في رجل في منتصف العمر بالمقارنة مع رجل شاب... هناك شعور حقيقي للغاية بأنه فيلم العلاقات العاطفية للعام 2001".
يؤيد المخرج ستيفن سودربرغ ذلك الكلام. ووفق كلماته، "كنت سعيداً لأنه اختار أن يطارد أمراً شديد الصعوبة، بمعنى معالجته فكرة ما الذي يجب أو لا يجب أن يكون معلناً عنه في الزواج... كان يحاول الحصول على شيء طموح من الناحية العاطفية، بطريقة لم تكن عليها معظم أفلامه".
© The Independent