بحلول تاريخ السابع عشر من أغسطس (آب) أي سابع يوم على بدء عملية تنقيب مدّتها تسعة أيام، وضع الحفّارون آخر هيكل عظمي من أصل ستة عشر هيكلا عثروا عليها داخل الكيس تمهيداً لتسليم اكتشافاتهم الكئيبة إلى المحقق الحكومي المحلّي وهو رجل معتاد بلا شكّ على معاينة إثباتات تعود لجرائم قتل أحدث من هذه.
وارتفعت فوق الحفر المستطيلة العشر التي أحدوثها أشجار الصنوبر الجميلة الشاهقة الارتفاع التي تُعرف بها غابة كاريليان المحلّية. وفي الأسفل، على بعد أمتار قليلة فقط من الأرض المحروثة حديثاً، وُضعت الصلبان الخشبية والزهور والأوتاد الحديدية المفرغة التي غالباً ما تعتبر إشارات على وجود مقبرة جماعية.
يعتقد بأنّ 6241 ضحية أعدموا رمياً بالرصاص ودُفنوا هنا بين العامين 1937 و1938 أي في ذروة ما يعرف بفترة التطهير الأعظم في عهد ستالين. لكن الموقع والضحايا الراقدين فيه ظلوا سراً أخفته الدولة طوال عقود من الزمن. ولم تخرج الحقيقة كاملةً إلى العلن سوى في تسعينيات القرن الماضي بفضل إتاحة الاطلاع على الأرشيف السري لشرطة مفوضية الشعب للشؤون الداخلية في الاتحاد السوفييتي لفترة وجيزة وبفضل الجهود الجبارة التي بذلها الباحثون الناشطون.
عندها فقط مُنحت المقبرة الجماعية اسماً وكان ساندرموخ، ووضع على مدخلها شاهداً تذكارياً خُطت عليه رسالة بسيطة تقول "أيها الناس! لا تتقاتلوا!". منذ فتح أبوابه أمام العامّة في العام 1997 تحوّل المكان إلى موقع للذكرى حيث يبكي الأقارب موتاهم.
أقلّه حتّى لحظة وصول الحفارين الوطنيّين.
أتى فريق التنقيب الذي تقوده منظمة يموّلها الكرملين اسمها الجمعية الروسية العسكرية التاريخية من أجل إثبات نقطة بعينها وهي أنّ الرفات لا يعود إلى ضحايا القمع السوفييتي أو أقلّه ليس لهم فقط، بل للجنود السوفييت الذين اعتقلتهم القوات العسكرية الفنلندية وقتلتهم بينما كانت المنطقة ما تزال تحت الاحتلال بين العامين 1942 و1944.
لا تتوافر أدلّة كثيرة تربط الفنلنديين بالإعدامات في ساندرموخ بينما العكس صحيح بالنسبة لتوثيق ضحايا جوزيف ستالين. ويستند عمل الحفارين في المقابل إلى نظريات ضعيفة وضعها مؤرخان محليان مثيران للجدل هما سيرغي فيريجين ويوري كيلين. ويقول منطق فيريجين وكيلين بشكل عام : إن استخدم الفنلنديون المخيمات ذاتها من أجل احتجاز سجناء الحرب السوفييت ماذا كان سيمنعهم من إعدامهم في الموقع ذاته الذي استخدمه السوفييت للإعدامات؟
أثناء مؤتمر صحافي عقد في ساندرموخ، رفض سيرغي بارينوف، رئيس مجموعة التنقيب التابعة للجمعية الروسية العسكرية التاريخية الاتهامات التي وجّهت لفريقه بأنه أتى بهدف طمس الوقائع التاريخية. وقال إن العكس صحيح لأن رجاله تلقّوا دعوة من وزارة الثقافة المحلية "من أجل اختبار نظرية تاريخية". وإثباتاً على كلامه، أبرز رسالة كتبها نائب الوزير سيرغي سولوفييف.
لكن نص الرسالة التي صوّرتها بسرعة يلينا كوندراخينا المراقبة التابعة لمنظمة ميموريال لحقوق الانسان، كشف أكثر من المطلوب.
وورد في الرسالة أنّ "القوى الأجنبية تستغلّ" القمع الستاليني لأغراض دعائية مناهضة لروسيا. "كثرة التساؤلات حول الأحداث التي وقعت في موقع ساندرموخ...تشوّه صورة روسيا في العالم...وتتحوّل إلى عامل داعم للقوى المناهضة للحكومة".
لكن الكشف عن موقف الحكومة لم يشكّل مفاجأة بالنسبة للناشطين والمؤرخين الذي يقولون إن السلطات تختبر ساندرموخ باعتباره ساحة معركة ضمن حرب الذاكرة الروسية.
ومن جهتها، أشارت إيرينا فليج وهي واحدة من ثلاثة باحثين شقوا طريقهم نحو موقع المقبرة الجماعية في تسعينيات القرن الماضي للاندبندنت إنها عاصرت التطبيع التدريجي للنظريات "المجنونة والهامشية والبدائية" حول ساندرموخ.
واعتبرت أنّ "ما يحصل الآن هو تخريب إجرامي للمقبرة. فهؤلاء الأغبياء لا يدمّرون المعلومات التاريخية فحسب بل ينبشون جثثاً لديها أولاد وأحفاد".
ولا شكّ أنّ الفوضى التي خلّفها الحفارون وراءهم تتناقض وبراعة التحقيق الدقيق الذي أوصل فليج وزملاءها من الباحثين في نهاية المطاف إلى موقع المقبرة قرب الشاطئ الشمالي لبحيرة أونيغا.
ظهرت أول قطعة من الأحجية خلال تطبيق برنامج الإصلاح السياسي "البيريسترويكا" في العام 1989 حين نشرت صحيفة محلية في مدينة لينينغراد قوائم الإعدامات التي رفع عنها غطاء السرية حديثاً وقتها. خلال تدقيقهم في القوائم، لفت انتباه فليج وزملاؤها ارتفاعاً بنسبة 1000 وفاة قرابة بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1937. وافترضوا أنّ هذه الزيادة جاءت نتيجة لعملية موجّهة.
وأكّدت هذه النظرية وثيقةٌ منفصلة صادرة عن مفوضية الشعب للشؤون الداخلية في العام 1937 تضمّنت أمراً بإعدام 1825 سجينٍ في معسكر سولوفيتسكي الإصلاحي سيء السمعة في أقصى الشمال الروسي. وقعت إعدامات سولوفيتسكي على ثلاث دفعات، وكان مصير أول 1.111 ضحية الدفن في مقبرة ساندرموخ.
ثمّ تحوّل "الموقع القريب من جبل الدبّ" وهي العبارة التي استخدمتها الوثائق السرية للدلالة على ساندرموخ بين عامي 1937 و1938 إلى وجهة اعتيادية لآخرين ممّن وقعوا ضحية الرعب الستاليني.
وكما جرت العادة، انقلب جلّادو ستالين لاحقاً على بعضهم البعض. فاعتُقل النقيب في مفوضية الشعب للشؤون الداخلية ميخائيل ماتفييف المسؤول عن عمليات ساندرموخ المظلمة في العام 1939 بتهمة استغلال النفوذ. وأُعدم اثنان من مرؤوسيه.
لكن شهادة ماتفييف خلال استجوابه كشفت عن القطعة الأساسية الثانية من الأحجية.
وظهر من خلالها عددٌ من الحقائق المهمّة حول ساندرموخ وطرق الإعدام فيها. إذ وصفت طريقة اقتياد الضحايا إلى الحفر كي يلقوا حتفهم واحداً تلو الآخر، وكيف أُمرت كل ضحيّة بالتمدّد على بطنها داخل الحفرة قبل أن يُطلق النار عليها من مسافة قريبة للغاية، وكيف نفّذ النقيب ماتفييف عدداً كبيراً من هذه الإعدامات بنفسه، وصل أحياناً إلى 400 في اليوم الواحد.
كما وجد الباحثون في شهادة ماتفييف الأدلة الرئيسية حول موقع المقابر إذ أشارت إلى المسافة التقريبية التي تفصلها عن مدينة ميدفيزيغورسك، وهي 17 كيلومتراً (ما يعادل 11 ميلاً)، والوجهة التقريبية (وهي الطريق غربي مدينة بوفينيتز).
وكانت فليج ضمن الفريق الذي بدأ بتمشيط غابات منطقة كاريليان ولكن زميلها يوري دميترييف هو أول من عثر على الأوتاد المستطيلة الرمزية المجوّفة في العام 1997. ومن المحاولة الأولى في التنقيب تقريباً، اكتشف دميترييف وجود جمجمة فيها ثقب من جراء تلقّيها رصاصة. ولاحقاً ذاك العام، وافق مدّعٍ عام على استنتاجه بأنّ موقع ساندرموخ يخفي مقبرة جماعية.
لكن سياسة الدولة تجاه ساندرموخ تبدّلت مع الوقت. لعبت الدولة في البداية دوراً رئيسياً في افتتاح الموقع التذكاري. وأرسلت وفوداً رفيعة المستوى لتمثيلها خلال الذكرى السنوية لبداية فترة التطهير الأعظم الستالينية. كما غطّت تكاليف تنظيم الفعاليات ونشرت كتباً للذكرى، وغطت تكاليف سفر الوفود الدولية.
لكن بعد الاستيلاء على أراضي شبه جزيرة القرم في العام 2014، ظهر واقعٌ جديد في كاريليا.
أولاً، لم تعد الوفود الأوكرانية التي كانت أعضاء فعالة في احتفالية احياء الذكرى في أغسطس (آب) تتلقى الدعوة لحضور الحدث. وفي العام التالي، قطع المسؤولون خطاب دميترييف. ومنذ العام 2016، بدأت الدولة بتجاهل الأحداث كلياً.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2016، اعتقل يوري دميترييف بتهم جنونية ومشكوك بها تتعلّق بإنتاج صور إباحية لأطفال. كانت التهم الموجّهة إليه جديّة ولكن أصدقاءه وزملاءه اعتبروها ملفّقة ولفتوا إلى ارتباطها بعمله كناشط. وفي أبريل (نيسان) 2018، وافق القاضي هذا الرأي وبرّأه خلافاً لكافة التوقعات. لكن السلطات استأنفت القرار ونجحت ولم تدُم حرية دميترييف أكثر من أسبوع واحد. وهو ينتظر حالياً بدء المحاكمة الثانية.
بدأت نظريات سيرغي فيريجين ويوري كيلين حول الفنلنديين بالبروز بقوة بالتزامن مع توقيف دميترييف للمرة الأولى.
وتذكر إيرينا غالكوفا ممثلة فرع موسكو التابع لمنظمة ميموريال لحقوق الإنسان مؤتمراً نظّمه فيريجين في العام 2017 في مدينة بيتروزافودسك. وتقول إن ما صعقها آنذاك هو التواجد الكثيف لرجال يرتدون بذلات رسمية وسط غرفة من الباحثين. وكان هؤلاء المؤرخون الرسميون التابعون لجهاز الأمن الفدرالي الروسي والكليات العسكرية. وأثناء هذا المؤتمر،إستمعت للمرة الأولى إلى نظرية فيريجين حول الجيش الأحمر.
وتقول "غضب الأكاديميون المحليون كثيراً من جراء ما سمعوه ولكننا بكل ببساطة لم نفهم الموضوع وقتها. ظننّا أنّ هذا الشخص غبي لا يفقه شيئاً لكن ربما الحقيقة المحزنة أنه عرف أكثر مما يجب".
خلال مقابلة أجريت معه في مكتبه في جامعة بيتروزافودسك، نفى سيرغي فيريجين أية صلة مشبوهة له مع أجهزة الأمن أو السلطات. وقال إنه "يعتمد" بالطبع على قدرة الاطلاع على أرشيف الدولة شأنه في ذلك شأن أي مؤرخ جيّد ولكن هذه هي حدود تفاعله مع الأجهزة الأمنية. ودافع عن عمله الذي "غالباً" ما يلامس مواضيع "حساسة" بالنسبة للدولة الروسية.
وشاب الحذر دفاع الباحث عن نظريته الجدليّة حول ساندرموخ فقال إنه غير معني بنفي حصول قمع سياسي في ساندرموخ حيث تتضمن القبور "على الأغلب" ضحايا من فترة الرعب الستالينية. ثم حملت جملته التالية نفياً واضحاً لحجم ذاك الرعب. فأكثر من نصف الحفر "فارغة" وفقاً له، و"من المستحيل" أن تُدفن 6500 جثة في هذه الرقعة. لكن الوقائع خضعت "للتسييس" وحجم الوفيات "للمبالغة".
وقال فيريجين إن الإعلام الغربي "يشنّ حرباً إعلامية" ضد روسيا وأضاف "يجب ألا يحمل التاريخ ثغرات. أخطأ الناشطون باحتكارهم ساندرموخ دون أن يفسحوا المجال أمام أي رأي آخر".
أمّا في ساندرموخ، وبعد مرور أيام قليلة على جمع الحفارين أدواتهم وتعبئة الحفر، عاد الزوار إلى المكان. بعضهم سيّاح يحملون معهم الكاميرات والكتب والهواتف الذكية.
فيما أتى غيرهم إلى المكان محمّلين بالزهور وبعبءٍ أثقل.
وقال بيتر نازاروف البالغ من العمر 65 عاماً "أزور جدّي. تعرّض للاعتقال في منتصف الليل إسوة بالباقين واقتاده أفراد من مفوضية الشعب للشؤون الداخلية في سيارة سوداء في نوفمبر 1937".
اتُّهم ميخائيل نازاروف، مدير التعاونية الزراعية المحلية وجدّ بيتر، بالمساهمة في انقلاب منظّم ضد الدولة السوفييتية. ثم حكمت لجنة من ثلاثة أشخاص بذنبه وأطلق عليه النار في ساندرموخ في مارس (آذار) 1938.
ويعلّق بيتر نازاروف على الموضوع بقوله "لا أفهم وجود أية خلافات أو حروب إعلامية. فالتوبة جلّ ما علينا التفكير فيه".
© The Independent