Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم اعتبر الإمبراطور ماكسيميليان نفسه شريكا للفنان في إنجاز "قوس النصر"

هل كان الأمر تقتيراً من سيد البلاط على آلبريخت دورر أم تصرفاً يهدف إلى مكافأة الذات؟

"قوس النصر" لدورر (ويكيميديا)

ملخص

نسي الناس الجذور التي انبنى عليها "قوس النصر" الاستثنائي ليعتبروا أنفسهم فقط أمام عمل فني حققه فنان كبير في زمن قياسي

في خريف عام 1513 وجه الأمين العام لبلدية نورمبورغ الألمانية، رسالة كانت الإعلان الحقيقي عن ولادة واحد من أهم الأعمال التي سينتجها الفنان الألماني آلبريخت دورر،ليس في مجال اللوحات الكنسية أو الدنيوية التي ستخلده في عالم التشكيل، بل في مجال فن المحفورات التي كان ينجزها لتطبع بعد ذلك وتصبح لكل الفنانين الذين سيأتون من بعده مثالاً يحتذى. وكانت إنجازات دورر في هذا السياق مساوية في القيمة للوحاته التشكيلية إن لم تفقها أهمية بالنسبة إلى البعد الدرامي، وربما أيضاً التأمل الفلسفي الذي كان من سماتها الأساسية. أما العمل الذي جاء الإعلان المبهم بعض الشيء عنه في تلك الرسالة، فسيكون "قوس النصر" الذي سينجز في عام 1515 تمهيداً لتحويله إلى ذلك "الديكور" الغريب من نوعه الذي ربما يعتبر اليوم أشهر أعمال دورر على الإطلاق، إن نحن استثنيا البورتريهات التي خلد فيها ملامحه وحالاته النفسية والمزاجية خلال مراحل متفرقة من حياته، فكانت فاتحة لذلك النوع الفني الذي سيشغل جزءاً من حيوات ومسارات فنانين كثر من بعده، من رمبراندت إلى فان غوغ وصولاً إلى بيكمان ومونخ وبيكاسو. ومع ذلك ليس ثمة أية إشارة واضحة إلى "قوس النصر" في رسالة أمين عام البلدية.

إعجاب الإمبراطور

كل ما في الأمر أن الرسالة تشير إلى "إعجاب الإمبراطور ماكسيميليان الأول باللوحتين اللتين كان دورر قد رسمهما في عام 1512 للإمبراطورين الجرمانيين السابقين له، شارلماني وسيغسموند"، ولا سيما باللوحة التي تمثل الأول المعتبر عادة مؤسس "الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة". ومن ثم تشير إلى نية الإمبراطور في أن يطلب من الفنان إنجاز عدد من الأعمال لصالح الإمبراطور. ولما كان معروفاً في ذلك الحين أن ماكسيميليان الأول كان من أوائل الحكام الكبار الذين آمنوا بدور فن المحفورات بخاصة في الترويج لعظمة الحاكم وإنجازاته بالنظر إلى أن المحفورات كان مآلها أن تطبع في نسخ عدة تعرض في أماكن متفرقة تزار من قبل الشعب وفي أماكن مهمة، بل حتى تشترى من قبل بيوتات الموسرين فتنتشر في كل مكان خارج الإطار الكنسي، كان من الواضح أن ما سيطلبه الإمبراطور إنما هو أعمال من ذلك النوع تستغل الإمكانات التقنية الجديدة التي باتت توفرها الطباعة التي كانت قد تطورت تطوراً كبيراً خلال العقود السابقة.

الفن في خدمة أهداف سياسية

وكان كثر ممن اطلعوا على الرسالة يتوقعون مع ذلك أن ينحصر طلب الإمبراطور في لوحات ضخمة له، لكنه هو كان يفكر في شيء آخر، بل سيبدو لاحقاً أن تفكيره الأول سيتجه ناحية تلك الدعوة المرتدية طابعاً سياسياً لا شك فيه.
ومن هنا لم يتوقف الأمر عند إعلان النوايا، بل إن الإمبراطور الذي كان قد أشار بنفسه في واحد من أقواله المأثورة إلى أن "أي رجل لا يبقى منه حين يموت سوى عمله. فإذا لم يقم أحد بتخليد ذلك العمل، من المؤكد أن مصيره سيكون النسيان التام مع آخر قرع للأجراس يتلو دفنه"، راح من فوره يشتغل على مشروع أول سيعهد بإدارته الفنية والعملية إلى ذلك الفنان الشاب الذي وصفه بأنه واحد من أكثر الفنانين قدرة على خدمة القصر الإمبراطوري ولا سيما في حقبة كان سيد ذلك القصر قد حقق مآثر عسكرية عدة ولا سيما في مواجهة البرابرة الشماليين الذين هاجموا إمبراطوريته فتمكن من إلحاق الهزائم بهم. وهو إذ فعل ذلك لن يكون مستعداً لأن يغيب في غياهب النسيان بعد موته. ومن هنا سيشكل لجنة من كبار فناني زمنه وتحديداً برئاسة دورر، تتولى تخليد ذلك الإنجاز الكبير، بين أعمال أخرى بالطبع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الإمبراطور يخلف وعده

ومن ثم لئن كان دورر هو الذي سيشرف على العمل ككل باعتبار أن الإمبراطور أبدى كل ذلك الإعجاب به، فإنه سيكون موجهاً لكبار الفنانين المعاصرين له ومنهم بالطبع آلبريخت آخر، هو سيد لوحات المعارك، آلبريخت آلتدورفر، ناهيك بفنانين أكثر ارتباطاً بالقصر الإمبراطوري إضافة إلى كونهما أصلاً من مريدي دورر وتلامذته هانز شاوفلن وهانز بورغماير. وكان على أولئك الفنانين الكبار أن يتعاونوا معاً تحت إشراف دورر بالطبع، لإنجاز عمل فريد من نوعه يعبر عن انتصار الإمبراطور. والطريف أن الأخير كان منذ اتخاذه القرار بالبدء فوراً بالمشروع قد وعد دورر بأنه سيجزل له العطاء إن هو تمكن من تحقيق عمل يعتبر مأثرة فنية. ومهما يكن من أمر هنا فإن الفنان لن يتوقف لاحقاً عن الشكوى من أن الإمبراطور لم يف بوعده في هذا المجال على رغم إعجابه الكبير بالقوس الفريد من نوعه، بل "إن جلالته لم يرسل إلى أي دفعة طوال ثلاث سنوات انكببت فيها على العمل على المشروع"، كما سيقول بأسى للمسؤول في البلاط الإمبراطوري كريستوف كريس حين بعث به ماكسيميليان إلى نورمبورغ ليطلع على أحوال الفنان وأحوال المشروع.
والطريف أن الشكوى وصلت إلى الإمبراطور فاتخذ قراره بأن يخص دورر بمرتب لا يقل عن 100 فلورين يصله آخر كل سنة. ومع هذا فإن شكوى دورر لم تتوقف وذلك لأن ما كان يصله من ماكسيميليان كان أقل مما يستحقه في رأيه، وفي رأي الآخرين أيضاً، وذلك لأن دورر لم يشتغل خلال تلك الفترة على "مشروع قوس النصر" فقط بل على عديد من المشاريع الكبيرة الأخرى التي يكفي هنا إحصاؤها لتبين الظلم الفادح الذي لحق بالفنان في عمله عليها. فإلى جانب "القوس" كان هناك مشروع ضخم مشابه عن "الموكب المظفر" محوره العربات الإمبراطورية في مسيرتها ويتألف من رسوم لثماني عربات، وإلى ذلك أنجز خلال تلك السنوات الخمس نفسها لوحات زيتية للإمبراطور ورسوماً لن يقل عددها عن 58 رسماً لكتاب صلوات خاص بهذا الأخير، ناهيك برسوم محفورة طبعت على الفور لتنتشر منسوخاتها في البيوت انتشاراً لافتاً تعبر كل واحدة منها إما عن مشهد ديني أو تاريخي أو عن حالة مزاجية معينة (وإلى هذه المجموعة تنتمي على أية حال، محفورة "الكآبة" التي تعتبر عادة من أشهر محفورات الفنان). صحيح أن بعض هذه الأعمال لم ينجز بناءً على طلب الإمبراطور، لكنها نسبت إليه من دون أن يبدو أنه دفع لدورر مكافآت معينة في مقابلها حتى وإن كان قد تلقى أصولها كنوع من تكريم له.


تعويض ونسيان

ونعود هنا إلى العمل الأساس بين كل تلك الإنجازات، إلى "قوس النصر" الذي خلد ماكسيميليان بأكثر مما خلد دورر بكثير. ولا ننسين هنا على أي حال أن الإمبراطور كان هو صاحب فكرته الأساسية بل إنه هو الذي إلى جانب جمعه كبار فناني العصر الألمان لإنجازه تحت إشراف دورر، تولى بنفسه وقبل إطلاع دورر ورفاقه الفنانين على المشروع، رسم الخيوط الفكرية والتاريخية له، وكان قد شكل لجنة من كبار مؤرخي ومفكري المرحلة لتتولى وضع الأساس الفكري للمشروع. لقد كانت تلك اللجنة من اقترح العودة إلى ما كان يعمل عليه الرومان في مثل تلك الأعمال وكان لا يزال رائجاً على شكل زينة لأبواب الخزائن الضخمة في دارات الطبقات العليا في المجتمع كجزء من ارتباط الإمبراطورية الجرمانية بالتراث الروماني الذي كانت تعتبره من أسس تكوينها - يشهد على ذلك اسم الإمبراطورية كما أقره مؤسسها شارلماني، "الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة". وربما من هنا أتى "تقتير الإمبراطور تجاه فنانه الأثير"، إذ اعتبر نفسه صاحب المشروع معتبراً آلبريخت دورر مجرد منفذ له. ومهما يكن من أمر هنا، لا شك أن الأجيال التالية عوضت للفنان ما يعتبره خسارته الكبرى، إذ أمام روعة البعد الفني الذي ميز ذلك العمل جاعلاً منه مأثرة فنية فريدة من نوعها، نسي الناس الجذور التي انبنى عليها ذلك "القوس الاستثنائي" ليعتبروا أنفسهم فقط أمام عمل فني حققه فنان كبير في زمن قياسي. صحيح أن هذا الاعتبار كان ظالماً لرفاق دورر في إنجاز "قوس النصر" لكن "البادي أظلم" كما يؤكد القول المأثور، أليس كذلك؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة