ملخص
حكايات المجموعة القصصية مليئة بحالات النظر إلى الحياة بشكل عبثي من خلال أكثر من شخصية.
يطغى عالم الفقر بمفرداته ومآلاته على المجموعة القصصية "مكياج" (سلسلة الجوائز، الهيئة المصرية العامة للكتاب) للكاتبة وي وي (1970) والمترجمة إلى العربية بتوقيع ميرا أحمد. المجموعة تضم أربع قصص، تقع كل قصة فيها في نحو 50 صفحة من القطع المتوسط.
تتموضع قصة "مكياج" التي سميت بها المجموعة ككل، في آخر الكتاب. قصة تعج بصور الفقر في المجتمع الصيني، ويتجلى ذلك منذ بدايتها التي تعرف بطلتها بأنها من أسرة متواضعة مادياً، ولا تستعمل مساحيق التجميل لفقرها، ذلك الفقر الذي لم تستطع أن تمحوه "كاري" من ذاكرتها، "لأنه يسكن في طيات فؤادها". فقر واضح لم ترغب "كاري" في أن تضع أي مساحيق كي تجمله أو تظهره بغير صورته الحقيقية. وعلى رغم تجاوزها لهذه المرحلة الصعبة من حياتها وانضمامها إلى طبقة الأثرياء، إلا أن آثار الفقر ما زالت تعتمل في داخلها، تستعيده بكل تفاصيله حين يطلب منها حبيبها القديم رؤيتها. يرتجف جسدها وتنهمر دموعها وهي تتذكر "عتمة ماضيها الغارق في الفقر، والظلم والكراهية التي تعرضت لهما، وخيبة الأمل التي طالما شعرت بها" (ص177).
يتحول الفقر داخل القصة إلى نظارة ترى من خلالها "كاري" العالم، فترتدي زي الفقراء الذي خلعته منذ مدة، لتتدفق ذكرياتها القديمة المؤلمة. تركب باصاً عاماً وتتهرب من دفع الأجرة للمحصل، "فعلى رغم أن يواناً واحداً لم يعد يعني لها شيئاً الآن، إلا أنه يعني الكثير إلى شخص فقير، يعني صحناً صغيراً من اللحم الطازج أو ثلاث قطع من البسكويت، أو الذهاب مرة إلى صالون الحلاقة، وإن تهرب الراكب من الدفع مرتين أو ثلاثاً يستطيع أن يشتري حذاءً رياضياً وقميصاً وسروالاً ملوناً" (ص181: 182).
جعلتها الملابس القديمة تنظر إلى العالم بشكل مختلف. كان الناس يمضون من حولها من دون أن تكترث لهيئاتهم وملابسهم، لكن الآن تنظر إليهم من بعيد على جانب الطريق وتقول إنهم يحتقرونها لفقرها وإنها لا تملك إلا أن تكرههم وتتخيل أنها تبصق عليهم قائلة: "يوماً ما ربما أصبح رئيستكم في العمل وتحاولون التودد إلي" (ص 180).
حفلة تنكرية
هذا الزي القديم الذي ارتدته كأنها في حفلة تنكرية بعد أن ودعت عالم الفقر من عشر سنوات، يرسم لها المصير الذي هربت منه بانتقالها إلى طبقة أعلى اجتماعياً. لا يستطيع الشخص الذي سعى إلى مواعدتها التعرف إليها ويعتقد أنها شخصية أخرى ويعتذر لها عن الخطأ الذي حدث. حارس الفندق يستوقفها ويسألها عن وجهتها، بينما لا يوجه أي سؤال للآخرين الذين تبدو ملابسهم أنيقة على العكس منها. وفي مواجهة النظرات التي تحط من شأنها، تقرر أن تنهي هذا الكابوس: "في الصباح الباكر يتعين عليها أن تذهب إلى عملها بملابس رسمية، وعليها أن تضع حداً لكل هذا الآن" (ص196). وتظهر في هذه القصة مفارقة ما بين حال فقر "كاري" وغناها حين تحول عدم وضعها للمكياج إلى مكياج في حد ذاته يخفي الثراء المادي الذي تعيشه لتوهم حبيبها السابق أنها ما زالت فقيرة منذ أن تركها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتكرر هذا الوضع في قصة "العائلة" التي تتناول مصير أسرة مكونة من أب وأم وابنة وجدة، يتبدل حالها من الفقر إلى الثراء عندما يصبح الأب مسؤولاً في الحزب الشيوعي الصيني داخل المقاطعة ويترقى إلى منصب المدير المالي ثم سكرتير الحزب بعد أن كان مجرد مدرس في مدرسة إعدادية. ومع مرور السنوات تجري التضحية بالأب بتهم رشى وفساد ويحكم عليه بالسجن وتصادر كل أموال وممتلكات عائلته، فتموت أمه بعد فترة قصيرة من سجنه، فيما تحيا زوجته وابنته حياة فقر شديد. وتتغير معاملة طبقة الأثرياء التي كانوا منها فيرفضون استقبالهم ويتوقفون عن التودد إليهم.
تقول بطلة القصة: "عدنا إلى الفقر مرة أخرى في خريف العام الذي دخل فيه أبي السجن، وانتقلنا من البيت الكبير حيث عشنا سنوات طوالاً إلى بيت أحد أقاربنا لا تزيد مساحته على 20 متراً". كان مخزناً للأغراض الزائدة على الحاجة، فيما كانت الأم تسعى لتوفير النفقات للطعام والشراب. تتغير نظرة الأم وابنتها إلى الفقراء بعد أن عاشوا بينهم فتقول: "كان لدينا مفهوم خاطئ عن الفقراء... اختلطنا بهم وصرنا منهم، وعاش بجوارنا التجار والبسطاء ممن يعانون عسر الحال، أدركت أن الفقراء الحقيقيين ليسوا حمقى مجانين، بل هم أشخاص يتحلون بالأخلاق" (ص136).
تبعات الانفتاح
وترسم قصة "امرأة السيد تشنغ" شكلاً آخر من أشكال الفقر. وتقع أحداثها في مدينة ذات طابع قروي، يفد إليها بعض التجار لإنشاء مشاريع تتسق مع الانفتاح الذي بدأت تشهده البلاد منذ 1987. في هذه الفترة سكنت امرأة غريبة مع السيد تشنغ في غرفة استأجرها داخل أحد البيوت، كانت تخدمه وتقوم بمهام الزوجة كاملة، إلى أن اكتشفت الأسرة التي تعيش في البيت نفسه أن هذه المرأة متزوجة من شخص آخر. عرفوا عندما جاء الزوج لزيارتها. رجل أربعيني رث الهيئة تحدث مع هذه الأسرة عن الضرائب التي تخصم منه، وأن النقود التي تحصل عليها من عمله في الزراعة لم يتبق منها شيء، فقد توزعت على الأسمدة والمبيدات، وتعليم ابنه وعلاج أمه. حالة من الفقر المدقع تدفع هذا الزوج إلى السماح لزوجته بأن تعمل في هذه المدينة بعيداً منه لتسهم في نفقات تعليم الابن وسداد الديون المتراكمة. هي كانت تخبره بأنها تعمل في مصنع.
تناقش هذه القصة الفقر الذي يدفع إلى انتشار البغاء وتشكيل فئتين من بائعات الهوى، الفئة الأولى تمارسه بشكل واضح وصريح، والثانية مثل امرأة تشنغ تمارسه في الخفاء، وإن كان الدافع في الحالتين هو الرغبة في تحسين أحوال المعيشة والخروج من شرنقة الفقر.
عبثية الحياة
ويمكن رصد حالة من حالات النظر إلى الحياة بشكل عبثي مع أكثر من شخصية داخل حكايات المجموعة القصصية، مثلما هي الحال مع "العم سان" في قصة "الغريمتان" والذي يخبر زوجته وهو يحتضر بأنه بات على يقين من أنه لا جدوى من الحياة. ويتكرر السؤال عن جدوى الحياة بأكثر من صيغة في قصة "العائلة". فالأب يشعر بعثية الحياة بعد سجنه فتقول الابنة واصفة حاله: "خرب عقل أبي، فقد جعلته سنوات السجن الثماني كأنه لا يعيش معنا على أرض الواقع، فأحس بعبث الحياة حين تحول فجأة من مجرد مدرس في إحدى المدارس الإعدادية إلى سكرتير حزب" (ص105)، هذا الشعور نفسه عبرت عنه الجدة في القصة ذاتها: "أن العالم مجرد سراب وخداع ووهم". حتى الجدة تفقد الرغبة في الحياة وتفضل الموت بعد حبس ابنها وتفقد إيمانها ببوذا. تتوقف عن المداومة في أخذ علاجها لتموت بعد ثلاثة أشهر فقط من حبسه.
الوحيدة التي لم تتملكها هذه الروح الانهزامية والعبثية في قصة "العائلة" هي الأم على رغم كل ما مرت به من تقلبات في حياتها، فتحكي عنها ابنتها "تتحدث (أمي) عن عائلة شو التي انفرط عقد رجالها، لكن نساءها لا يمكن أن يسقطن مهما حدث، يحيا الإنسان ليتنفس وعليه أن يمتلئ بالطاقة والحيوية، ويشد عوده مهما حدث، نفثت داخلي من قوتها الطاغية" (ص147)، لكن بعد أن تحقق الابنة نجاحات باهرة في الحياة تعود لتتساءل عن الجدوى قائلة "لماذا صارت العلاقة بيننا وبين العالم عبثية وغامضة إلى هذا الحد؟" (ص151).
فحتى "كاري"، بطلة قصة "مكياج" راودها الشعور بعبثية الحياة ودفعها إلى التفكير في الانتحار على رغم تحقيقها لذاتها، فتنتهي القصة بهذا المقطع الموحي بهذا المصير "وقفت وقد تشبثت بسور الجسر الحديدي، بينما كانت السيارات تروح وتغدو أسفل الجسر، أخذت تنظر إليها منتشية، ثم مالت بجسدها نحو السور لتتطلع إلى السيارات المارقة على الطريق، تتطلع إليها فقط" (ص198).