Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تسليح المدنيين في السودان ينذر بالخراب

المآل الفوضوي الخطر الذي يمكن أن يختفي معه اسم البلد من خريطة العالم هو ما يسمى "المقاومة الشعبية"

الدعوة إلى المقاومة الشعبية في السودان تنذر بشرّ مستطير (أ ف ب)

ملخص

إصرار أحد طرفي الحرب على خوض الصراع إلى نهاياته، وإن كان خاسراً، هو بمثابة انتحار من ناحية، وضياع للهوية الكيانية للسودان من ناحية ثانية

يوماً بعد يوم تتطور مسارات الحرب السودانية وتنحو إلى طريق غامض ينذر في كل مرحلة من مراحلها بما هو أسوأ منها.

فما إن حانت لحظة تفاؤل للسودانيين مع إعلان منظمة "إيغاد" في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي قرب لقاء جنرالي الحرب السودانية في جيبوتي في الـ28 من الشهر ذاته، بعد مضي تسعة أشهر من الحرب، حتى كان في محتوى خطابي الرجلين، لمناسبة عيد الاستقلال السوداني بعد يومين، ما بدا مؤشراً إلى التباعد بينهما.

ومع توقيع تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بقيادة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك إعلان أديس أبابا مع قائد "الدعم السريع" في الثاني من يناير (كانون ثاني) الجاري، كان ثمة وعد من قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بلقاء وفد التنسيقية، لكن اللقاء لم يحدث، وجاء خطاب البرهان في حامية مدينة جبيت (شرق السودان) قبل أيام مخيباً لآمال السودانيين، بعكس ما أعلنه قائد "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) من رغبة في السلام.

في ديمومة الحرب

ولا يزال موعد جيبوتي بين الجنرالين معلقاً، فالمنظمة الإقليمية (إيغاد) لم تعلن حتى الآن عن موعد جديد للقاء بين الجنرالين، فيما توسعت رقعة المعارك بين الطرفين خلال الأيام الماضية في الخرطوم وغرب كردفان، وهو مؤشر دال على تعقيد في مسارات الحرب السودانية ربما يحول دون جميع محاولات وقف الحرب، من منبر جدة، إلى الاتحاد الأفريقي، إلى منظمة "إيغاد".

وفي ما يدل ظاهر مؤشرات الصراع بين الطرفين على رجحان ميزان القوى لمصلحة "الدعم السريع"، سيبدو إصرار الجيش على خوض الحرب حتى بعد الهزائم التي مني بها والمواقع المهمة التي خسرها في ولايات استراتيجية مثل الخرطوم ومدني وجميع ولايات دارفور، ما عدا الفاشر، كما لو أنه لا يقدر موقفاً للحرب ولا يعكس رؤية عسكرية، فهذه الحرب في النهاية شكل أخير من أشكال الحرب الأهلية، مما يعني أن إصرار أحد طرفيها على خوض الصراع إلى نهاياته، وإن كان خاسراً، هو بمثابة انتحار من ناحية، وضياع للهوية الكيانية للسودان من ناحية ثانية، وذلك هو أخطر احتمالات ديمومة هذه الحرب العبثية.

يضاف إلى ذلك، أن ظاهر ما يسمى "المقاومة الشعبية" التي يدعو إليها الجيش على لسان البرهان في الولايات التي يسيطر عليها (بعد أن كان أعلن الاستنفار منذ عيد الأضحى الماضي) إنما هي بالفعل دعاوى تنطوي على ما ينذر بشرّ مستطير لا نخشى معه القول إن ما يسمى "المقاومة الشعبية" (وهي دعاوى يحشد إليها عناصر النظام القديم) تستهدف إرادة مبيتة لحرب أهلية طويلة وشاملة، لا سيما في ظل غرابة الدعوة ذاتها وتهافت منطقها، فـ"المقاومة الشعبية" وفق هذا المنطق يفترض أن تكون في المناطق التي تحتلها قوات "الدعم السريع"، أي في كل من ولايات دارفور، ما عدا الفاشر، وأجزاء كبيرة من ولاية الخرطوم وولاية الجزيرة.

لكن المراقب لمجريات الحرب في هذه الولايات التي تسيطر عليها "الدعم السريع"، لا يلاحظ أية مؤشرات إلى مقاومة شعبية يقوم بها الأهالي ضد هذه القوات، فيما تحتشد جماعات المستنفرين و"المقاومة الشعبية" في الولايات التي يسيطر عليها الجيش ولم تصل إليها الحرب مثل ولايات شرق السودان (البحر الأحمر وكسلا والقضارف) ونهر النيل والشمالية وسنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق، وهو ما يخشى معه مراقبون تكرار سيناريو انسحاب الجيش الذي ظل يتكرر في أكثر من مواجهة عسكرية مع "الدعم السريع" في أكثر من ولاية، كان آخرها انسحاب الفرقة الأولى مشاة من مدني عاصمة ولاية الجزيرة التي سقطت في الـ 20 من ديسمبر الماضي، فيما كان البرهان أعلن فيها قبل أسبوعين من سقوطها، أن تعداد المستنفرين بمدني 40 ألفاً.

نحو تفكك الدولة

لقد صاحبت ما سمي "دعاوى المقاومة الشعبية" قرارات سياسية صادرة عن والي نهر النيل حظر فيها نشاط قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة، إلى جانب حل لجان التغيير والخدمات وتكوين لجان للاستنفار في الولاية، مما يؤكد صلة النظام المعزول ودوره في الحرب التي نشبت بين الجيش و"الدعم السريع" في أبريل (نيسان) عام 2023، وهي دعاوى واضح جداً أنها تعكس أساليب نظام "المؤتمر الوطني" وممارساته في إرهاب وتخويف المعارضين السياسيين.

وبحسب صحيفة "سودان تريبيون"، فقد "أمهل والي ولاية نهر النيل في الـ29 من ديسمبر الماضي عناصر قوى الحرية والتغيير ومن أسماهم المتعاونين مع قوات الدعم السريع، ثلاثة أيام لمغادرة المدينة، ووجدت الخطوة رفضاً واسعاً وانتقادات حادة طاولت الوالي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وذكر المتحدث باسم تحالف القوى المدنية لشرق السودان ووالي كسلا في عهد حكومة الثورة صالح عمار على "فيسبوك" أنه حدثت "بعض الانتهاكات ضد المدنيين وتوزيع السلاح بشرق السودان، ففي مدينة القضارف أعلن أمين عام السلطة عن تكوين لجان المقاومة الشعبية، وتم إغلاق عدد من الأسواق وأماكن التجمعات ومصادرة الدراجات النارية بكل أنواعها وفرض حظر التجول من الساعة السادسة مساء وحتى السادسة صباحاً واعتقال مجموعة كبيرة من المواطنين داخل مقر الغرفة المشتركة. وفي مدينة كسلا انتشر ملثمون يحملون الأسلحة من كتائب النظام البائد في مواقع التجمعات يرهبون المواطنين من دون مسوغ، ويتم حظر التجول من الساعة الثامنة مساء، والأخطر من ذلك الزيادة الكبيرة في معدلات توزيع السلاح على المجموعات الشعبية الموالية للسلطة".

ولا يحتاج المراقب لما يجري اليوم في الولايات التي يسيطر عليها الجيش إلى التحذير من أن سيناريو ما يسمى "المقاومة الشعبية" وتسليح المدنيين هو ذاته السيناريو الذي سلح به نظام الإخوان المسلمين السابق بقيادة المعزول عمر البشير القبائل العربية في دارفور لمواجهة القبائل الأخرى في الإقليم كالزغاوة والفور والمساليت، مما أدى بعد ذلك إلى اندلاع حرب أهلية استمرت 15 عاماً وراح ضحيتها أكثر من 300 ألف مواطن، إلى جانب نزوح الملايين من دارفور، وكانت الحرب الأهلية في الإقليم هي التي أسفرت عن بروز قوات "الدعم السريع" التي استخدمها نظام البشير، فأصبحت مع مرور الزمن جيشاً موازياً للجيش السوداني الذي يخوض الحرب اليوم ضدها.

بيد أن تسليح المواطنين في مجموع الولايات التي يسيطر عليها الجيش ينذر بتداعيات خطرة على السودانيين أكبر حتى مما حدث في دارفور، على رغم فظاعته، فإذا كانت ظاهرة قوات "الدعم السريع" التي هي موضوع الحرب اليوم، إحدى تداعيات الحرب الأهلية في إقليم دارفور، فكيف ستكون عواقب تسليح المدنيين في ما يسمى"المقاومة الشعبية" أثناء الحرب وبعدها، ناهيك عن مصير كتائب الإسلاميين المنظمة التي تقاتل إلى جانب الجيش مثل "كتائب البراء" وغيرها.

إن أخطر ما تنطوي عليه ظاهرة تسليح المدنيين في ما يسمى "المقاومة الشعبية" هو أنها في الحقيقة تعبير عن تفكك الدولة التي من وظائفها احتكار العنف بيد القوات النظامية كالشرطة والجيش، لا أن تتسبب تلك القوات ذاتها في إطلاق موجات محتملة للعنف عبر المصائر الغامضة التي يمكن أن تسفر عنها العمليات الواسعة لتسليح المدنيين.

هذه اللحظة الحرجة

وفي ظل واقع عارٍ وقاسٍ كشفت فيه الحرب عن هشاشة الاجتماع السياسي للسودانيين، تكشف لنا، أيضاً، عن أن المعطيات الوطنية الشكلانية لمفاهيم كثيرة باتت مزيفة ولا تعكس محتوى للمعاني السياسية الحديثة التي توهم السودانيون فيها معاني حقيقية كالدولة والشعب لأن ما يفيض به واقع الحرب اليوم من حقائق صادمة أثبت عجز الوعي الجمعي السياسي للسودانيين عن استدراك ما يجب استدراكه من حد أدنى لسوية وطنية حافزة لكل من الجيش و"الدعم السريع" والقوى السياسية على حد سواء، وذلك للقيام بأدنى ما يتطلبه التحقق العياني بمقومات ذمة المسؤولية الوطنية والأخلاقية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الحرب السودانية.

 وللأسف فإن هذه الكارثة هي في تقديرنا جزء أصيل من ميراث خراب الدولة السودانية الذي أنتجته ممارسات نظام الإسلام السياسي لمدة 30 عاماً منذ انقلاب البشير - الترابي عام 1989.

وإذا لم يكترث قائد الجيش عبدالفتاح البرهان اليوم بأدنى التزام حيال ما ظل يوافق عليه ثم ينقضه، مثل موافقته أمام قادة دول منظمة "إيغاد" في قمتها الأخيرة بجيبوتي على لقاء قائد "الدعم السريع" من دون قيد أو شرط، ثم إصراره على مواصلة الحرب حتى آخر رجل، كما قال خلال خطابه الأخير أمام الجنود في معهد المشاة بمدينة جبيت، فإن ما وراء تصرفات البرهان في تقديرنا هو ذلك الإرث الخرب لنظام الدولة السودانية على يد نظام "المؤتمر الوطني"، ونخشى القول إن الوقت أقل بكثير اليوم أمام البرهان لممارسة ألعاب الوقت التي ظل يدمنها عبر مثل هذه المواقف بهدف كسب الحرب.

فأخطر مراحل الحرب هي حين تصل إلى محطة الحرب الأهلية الشاملة، لا سمح الله، إذ سيكون من أهم علاماتها المرئية اختفاء كل من الجيش و"الدعم السريع" كقوات نظامية وشبه نظامية تمارس عنفاً سياسياً داخل حدود الوطن، لتبرز وجوه جديدة للوردات حرب يتغذون من خطاب أبدي للكراهية، عندئذ سيخلع كل جندي بزته العسكرية ويصطف وراء قبيلته وطائفته ومنطقته.

إن المآل الفوضوي الخطر الذي يمكن أن يختفي معه اسم السودان من خريطة العالم جراء عمليات تسليح المدنيين هو في تقديرنا ما يسمى "المقاومة الشعبية" التي قال عنها البرهان في خطابه الأخير، "سنسلح الناس رضوا ذلك أو أبوا، وإذا جلب الناس سلاحاً للقتال من أي مكان فليأتوا به ولن نمنعهم"، وما يعكس خطورة هذا الكلام أن قائله (الجنرال عبدالفتاح البرهان) هو الذي كان يتولى تنسيق عمليات الجيش أثناء الحرب الأهلية في دارفور بأمر من رئيس النظام السابق عمر البشير منذ عام 2003.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل