Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان... ما بعد سقوط ود مدني

وصول الحرب إلى بورتسودان سيكون بالغ الخطورة وقد يشعل قتالاً أهلياً طاحناً في إقليم جيوسياسي بالغ الهشاشة

أدى الصراع الذي اندلع قبل أشهر عدة إلى مقتل الآلاف وتشريد ملايين السودانيين (أ ف ب)

ملخص

إن قراءة مستقبل الحرب في ضوء تداعيات الأحداث العسكرية التي ستنجم عن سقوط مدينة ود مدني لا يبشر بخير.

تتسارع الأحداث العسكرية في السودان بين "الدعم السريع" والجيش على نحو دراماتيكي، لا سيما بعد تعثر المفاوضات في جدة أولاً، ثم التعثر الثاني في جيبوتي إثر القمة الطارئة لمنظمة "إيغاد" (الهيئة الحكومية للتنمية) التي انعقدت قبل أكثر من أسبوع، وخرج بيانها الختامي باختراقات واعدة في جدار الأزمة السودانية، بما جاء فيه من إعلان عن لقاء مباشر سيتم بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد "الدعم السريع" محمد حمدان حميدتي من دون أية شروط مسبقة خلال أسبوعين من نهاية القمة.

لكن التداعيات التي نجمت عن بيان وزارة الخارجية السودانية بعد عودة البرهان من القمة، الذي نفت فيه الوزارة موافقته على لقاء حميدتي من دون قيد أو شرط، في تكذيب واضح لبيان قمة "إيغاد" الطارئة، مع ترويج زعم مفاده بأن اللقاء المفترض كان سيعقد بين قائد ثاني "الدعم السريع" عبدالرحيم دقلو والبرهان وليس مع حميدتي (مما اضطر حميدتي إلى تصريح نقلته قناة "العربية" بأنه هو الذي سيلتقي البرهان حال موافقة الأخير على لقائه وفق بيان "الإيغاد"). كل تلك التداعيات هي التي سرعت من إيقاع الأحداث العسكرية التي كشفت عن أن ثمة انسداد يمنع وصول الحرب إلى نهاية سلمية.

من يعرقل السلام؟

وإذا تتبعنا طبيعة ذلك الانسداد نجده واضحاً في جانب الجيش الذي تنصل من بعض الالتزامات التي اتفق عليها مع قوات "الدعم السريع" في إعلان منبر جدة، كبند القبض على رموز النظام القديم الذين كانوا في السجن قبل الـ15 من أبريل (نيسان)، فأصبح ذلك إشارة واضحة (لاسيما بعد بيان الخارجية السودانية الذي صدر تعليقاً على قمة "إيغاد" الطارئة) على أن هناك داخل الجيش والحكومة من يعطل المساعي الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب.

الأمر المثير للحيرة هو أنه في ما نرى تبدلاً شكلياً واضحاً في مواقف قائد الجيش عبدالفتاح البرهان (الذي رفض في الـ15 من يونيو / حزيران الماضي مقترحاً للجنة الرباعية لـ"إيغاد" بقيادة الرئيس الكيني وليم روتو دعت فيه إلى لقاء مباشر بينه وحميدتي) نجده بعد أكثر من خمسة أشهر من ذلك الرفض يوافق على لقاء حميدتي، بحسب ما جاء في بيان قمة "إيغاد" الأخيرة، ليتفاجأ المراقبون بعد ذلك ببيان آخر من وزارة الخارجية ينفي فحوى بيان قمة "إيغاد" الطارئة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الموقف الذي أعلنته وزارة الخارجية، ولم ينفه البرهان، سيدلنا بوضوح على أن داخل الجيش وأروقة الحكومة السودانية من لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي.

لذلك نتصور أن الموعد الذي حددته قمة "إيغاد" بأسبوعين للقاء بين البرهان وحميدتي كان يعكس نية واضحة للمجتمع الاقليمي والدولي لمعرفة موقف الطرفين من الحرب.

وبانتفاء اللقاء بين البرهان وحميدتي، وهو ما بات في حكم المؤكد، ستنفتح تطورات الحرب على فصول أكثر دموية بين الطرفين باتجاه تصعيد قد يغض المجتمع الدولي الطرف عنه حال إدراكه أن أحد طرفي الحرب لا يرغب في إنهائها، (وهو هنا طرف الجيش والمتحالفون معه من الإسلاميين بحسب مواقفه الظاهرة).

لهذا يمكننا قراءة تطورات الوضع العسكري عبر تصعيد قوات "الدعم السريع" لاتجاه الحرب إلى ولاية الجزيرة وعاصمتها مدينة ود مدني بعد توالي الأنباء بسقوطها واحتلال قوات "الدعم" لمقر الفرقة الأولى مشاة بالمدينة، وتسارع الأحداث العسكرية بين الطرفين يعكس إدراكاً واضحاً لقوات "الدعم السريع" بأنه ليس للبرهان أية نية في لقاء حميدتي.

وبإعلان قوات "الدعم" قبل يومين سيطرتها الكاملة على مدينة ود مدني الاستراتيجية (عاصمة ولاية الجزيرة بوسط البلاد) فإن ذلك مؤشر خطر على أن هذه الحرب لن تضع أوزارها، بل هي مرشحة لشوط طويل مرة أخرى، وهذا المؤشر يمثل أحد محاذير الانزلاق في الحرب الأهلية، لا سيما وسط أنباء عن تصفيات متبادلة ارتكبتها كل من قوات "الدعم السريع" والجيش السوداني إثر سيطرة قوات "الدعم" على ولاية الجزيرة.

وإذا كانت الأحداث الجارية في ود مدني بولاية الجزيرة لاقت إدانة من قوى سياسية مثل البيان الذي أصدره المجلس المركزي للحرية والتغيير، مندداً باتساع رقعة الحرب بوصولها إلى الجزيرة، فخطورة ذلك تتمثل في أن السيطرة على ود مدني ستكون بمثابة نقطة مفصلية لصالح "الدعم السريع" في ميزان الصراع بينها والجيش، مما سيعني أنه ما لم يصر، بعد السيطرة على مدني، إلى احتواء تداعيات الوضع بتدابير وضغوط أميركية ودولية لإجبار البرهان على اتفاق سياسي في غضون الأيام المقبلة، فإن استثمار "الدعم السريع" للموقع الاستراتيجي والاقتصادي لمدينة ود مدني وولاية الجزيرة سيكون حاسماً في ميزان الحرب.

لحظة الحرب الفارقة

إن قراءة مستقبل الحرب في ضوء تداعيات الأحداث العسكرية التي ستنجم عن سقوط مدينة ود مدني لا يبشر بخير، ويعكس إلى أي مدى أصبحت توجهات المجتمع الدولي والإقليمي تتناقض مع الاتجاه الذي يقود الحرب داخل الجيش والحكومة السودانية في السودان، وربما سيفرز هذا التناقض توجهات محددة للمجتمع الإقليمي والدولي باتخاذ قرار وقف الحرب، لاسيما بعد تحذير المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي مايك هامر للبرهان في قمة "إيغاد" الأخيرة بأن الولايات المتحدة ستستخدم الأدوات كافة التي تمكنها من وقف هذه الحرب.

ليس في السودان اليوم من لا يدرك الفرق الواضح بين من يريد استمرار الحرب ومن لا يريد، لاسيما بعد المواقف المتوالية والواضحة من طرف الجيش في التنصل المكشوف من الالتزام ببعض بنود منبر جدة أولاً، وما رشح أخيراً من موقف بيان وزارة الخارجية الذي أجهض الأمل شبه الأخير والتفاؤل الذي جاء به بيان قمة "إيغاد" في إنهاء محتمل للحرب باللقاء الذي كان موعوداً بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو.

وبسيطرة قوات "الدعم السريع" على مدينة ود مدني، دخلت الحرب لحظة فارقة سيكون لها ما بعدها، وما لم تحدث تداعيات دراماتيكية داخل الجيش باتجاه وقف الحرب واستدراك الوضع (ولن يكون ذلك إلا بفك الجيش ارتباطه بالإسلامين بما قد ينجم عنه من تداعيات عنيفة)، فإن تطورات خطرة ستنجم عن ذلك.

 فمن خلال الأنباء التي تفيد بأن ما حدث في ود مدني كان انسحاباً للجيش بأوامر عليا بعد معركتي اليومين الأولين، ووسط اتهام بعض المنتسبين إلى الجيش لمواطني ولاية الجزيرة بالتواطؤ مع قوات "الدعم السريع" وخذلان الجيش، يمكننا أن نرى إلى أي مدى إمكان تكرار هذا السيناريو في المعارك المقبلة. وتكمن الخشية اليوم في أن أي تقدم عسكري محتمل لـ"الدعم السريع" باتجاه العاصمة الإدارية الموقتة (بورتسودان) وولايات الشرق الثلاث (القضارف – كسلا – البحر الأحمر) سيكون بمثابة تفجير للأوضاع في هذه الولايات الثلاث التي شهدت حروباً أهلية صغيرة وموجهة من المركز (الخرطوم آنذاك) ضمن عمليات شد الأطراف التي أراد بها الجنرال البرهان - قبل انقلابه عام 2021 - إجهاض التجربة الانتقالية وإفشال جهود حكومة الثورة بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في ممارسة الحكم.

فالتداعيات التي خلفتها سنوات شد الأطراف في شرق السودان لا تزال آثارها باقية، لا سيما بعد تصريح حميدتي في خطابه الأخير عبر الفيديو، بأن الجنرال قائد الجيش عبدالفتاح البرهان هو الذي كان يدبر أحداث الفتنة الأهلية بين مكونات شرق السودان في إطار محاولته لإفشال حكومة المدنيين، هذا إلى جانب وجود كبار قادة النظام القديم الذين فروا من السجن بعد الحرب في ولايات شرق السودان كالبشير وعلي عثمان وأحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين.

وفي تقديرنا أنه على رغم مطالبة الولايات المتحدة لـ"الدعم السريع" بعدم توسيع رقعة الحرب بالاتجاه شرقاً وشمالاً فإن تلك المطالبة قد تكون أقرب إلى رفع العتب منها إلى الجدية، الأمر الذي قد لا يمتنع معه تقدم قوات "الدعم السريع" باتجاه ولايات الشرق، لاسيما أن حميدتي خلال خطابه الأخير كان توعد بملاحقة عناصر النظام القديم وقادة "الإخوان المسلمين" لأنهم كما قال هم الذين تسببوا في إشعال الحرب.

في الأيام المقبلة وعلى ضوء سيناريوهات الحرب المتكررة من تقدم لـ"الدعم السريع" في المعارك وانسحاب للجيش، كما شهدنا في المعارك السابقة، قد لا يكون هذا النمط من سيناريو الحرب هو المتوقع، حال تقدم "الدعم" نحو ولايات الشرق، لا سيما في مدينة بورتسودان، لأن إمكان الصدام بين الجيش وكتائب الإسلاميين على خلفية هذه الاستراتيجية المتوقعة من تكرار عمليات الانسحاب ستكون محتملة، وهذا سيعني بلوغ التناقضات بين مؤيدي وقف الحرب من طرف الجيش، وإن كانوا قلة، وبين مؤيدي الحرب، حداً أعلى لا يمكن تحمله، ناهيك عن احتمالات انفجار آثار الفتنة البينية التي خلقتها سنوات عمليات شد الأطراف للوقيعة بين القبائل البجاوية في الشرق.

لكل ذلك فإن نذر تداعيات وصول الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" إلى مدينة بورتسودان ستكون بالغة الخطورة، وقد تخلف حرباً أهلية طاحنة في إقليم جيوسياسي بالغ الهشاشة في الوقت نفسه كإقليم شرق السودان.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل