Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ستالينيون مكسيكيون يغزون أميركا بجداريات يمولها رأسماليوها

دييغو ريفيرا ورفاقه يحاولون تمرير الأيديولوجيا من خلال لوحات تناسب ذوق اليانكي

لوحة "الإنسان والآلة" لريفيرا (موقع الفنان)

ملخص

دييغو ريفيرا ورفاقه يحاولون تمرير الأيديولوجيا من خلال لوحات تناسب ذوق اليانكي

قد يكون من الصعب أن يتذكر أحد اليوم اسم رالف ستاكبول. ففي نهاية الأمر لم يكن هذا النحات الذي كان يعيش ويعمل في كالفورنيا قبل قرن من الزمان، من كبار المبدعين حتى وإن كانت مأثرته الكبرى في حياته كونه الرجل الذي وقف منذ البداية خلف ذلك الحراك المدهش، والغريب في التاريخ الأميركي، وهو حراك تمثل في ظاهرة تبدو اليوم غريبة تماماً: ظاهرة "الغزو" الفني الذي قام به فن الجداريات المكسيكي للولايات المتحدة الأميركية ليصل إلى ذروته خلال السنوات الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين وكانت علاماته الأساسية جداريات حققها دييغو ريفيرا، كما فعل رفاقه، في مدن العم سام، متنقلاً طوال سنوات قليلة بين مدن ميتشيغن وإلينوي وكاليفورنيا وغيرها.

والحقيقة أن ذلك الحراك قد يبدو لنا اليوم أمراً طبيعياً لكنه لم يكن كذلك قبل 100 عام، ومن هنا غرابته المطلقة. فالعادة جرت أن يلجأ مبدعون تقدميون من إمبراطورية الشمال القاسية عليهم إلى الجنوب كما يفعل المهربون والهاربون من عدالة اليانكي مقابل العمال المكسيكيين المتوجهين شمالاً بحثاً عن العمل والرزق، بيد أن الحراك الذي نتحدث عنه هنا ونعزو انطلاقته إلى ذلك النحات الكاليفورني المتحمس، جعل الأمور تبدو مقلوبة رأساً على عقب. فهذه المرة كان هناك بالفعل مكسيكيون يبحثون عن العمل والرزق، لكنهم لم يقصدوا فردوس الرأسمال الأميركي خفية، بل استجابة لدعوات رسمية وشبه رسمية. وكانت لهم أسماء براقة في عالم الفن العالمي. ومنهم على وجه الخصوص الثلاثي الأكثر شهرة: دييغو ريفيرا، ديفيد سيكييروس وخوسيه أوروزكو. وكان ما يجمع الثلاثة أمران أساسيان. فهم كانوا من كبار رسامي الجداريات في المكسيك الوطن الأكبر لهذا الفن الثوري، وكذلك كانوا شيوعيين بل حتى ستالينيين سيتهم سيكييروس من بينهم لاحقاً بضلوعه في اغتيال تروتسكي، لحساب ستالين.

السياسة... ولكن

غير أن ذلك سيأتي لاحقاً. أما بالنسبة إلى الحراك الذي نتحدث عنه فكانوا شيئاً آخر. كانوا مبدعين مكنتهم صداقة ستاكبول وحماسه لهم في زمن الأزمة الاقتصادية المالية الكبرى التي عصفت بالولايات المتحدة منذ بدايات ذلك العقد، وعلى الرغم من تلك الأزمة، من العثور على إمكانية عمل فني يقومون به هناك. وكان نفوذ صديقهم الأميركي ذاك عاملاً مساعداً جعلهم يتلقون العقود والمشاريع بعد أن بارحوا بلادهم المجاورة تحت ضغط الرئيس الرجعي كاليس الذي حكم المكسيك بين 1924 و1928 واضعاً نهاية لذلك التيار الفني المكسيكي الذي كان وصل إلى ذروة ازدهاره منذ مطلع العقد العشريني لكنه راح يتدهور مع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في المكسيك، مما حرك ستاكبول مع رهط من فنانين ومسؤولين من كاليفورنيا لدعمهم والاستفادة من مواهبهم وإمكاناتهم الفنية الهائلة. ومن هنا، ما إن لوَّح لهم رفاقهم الشماليون بأنهم يرحبون بهم، حتى راحوا يتدافعون حاملين إبداعاتهم الفنية وريشهم وألوانهم ناقلين أفكارهم معهم. وكان في مقدمتهم طبعاً ريفيرا الذي كان أشهرهم لكنه استفاد أكثر من كون سيكييروس معتقلاً في سجون كاليس إثر حظر هذا الأخير للحزب الشيوعي المكسيكي الذي كان سيكييروس من وجوهه البارزة والمعروفة فيما كان ريفيرا قد أتقن بهلوانية اللعب على أكثر من حبل. ومن هنا لم يكن غريباً أن يكتشف كبار الرأسماليين الصناعيين الأميركيين بعد أن استقبلوه بالترحاب أنه حمل معه في ركابه أفكاره الستالية ليزرعها في لوحات طلب منه تحقيقها لحسابهم فبوغتوا حين سمح لهم... أخيراً بمشاهدتها ليكتشفوا في زوايا الجداريات وجوهاً "مألوفة" لهم لكنها كريهة، ومنها مثلاً وجوه لينين وماركس وحتى تشارلي شابلن، أي وجوه أولئك الذين قامت رأسمالية الأميركيين على مناهضتهم!

"تعاون ما..."

ومن هنا كان تدمير بعض اللوحات وتهريب بعضها الآخر إلى المكسيك، مثلاً، مآل ذلك "التعاون" بين الرأسمال الأميركي والفن الستاليني الآتي من الجنوب لاجئاً متبعاً قولة لينين: "سوف نجعل الرأسماليين يدفعون ثمن الحبال التي سنشنقهم بها". ومع ذلك ثمة جداريات لم تمس بل بقيت على حالها وفي الأماكن التي رسمت فيها حيث لا تزال موجودة حتى اليوم. ولعل من أبرز تلك الأعمال الجدارية الضخمة المعروفة اليوم باسم "الإنسان والآلة" أو "الصناعة في ديترويت" التي كانت واحدة من آخر الجداريات الكبرى التي حققها ريفيرا في الولايات المتحدة بين 1932 و1932، والتي ربما تدين ببقائها لكونها رسمت لحساب ورثة هنري فورد وفي قاعة كبيرة ملحقة بمصانع سياراته باتت تعرف بـ"معهد دترويت للفنون" بل حتى بـ"قاعة ريفيرا" في منأى عن أي اهتمام عام، على عكس ما حدث لجدارية كبيرة أخرى حققت لحساب روكفلر الذي أمر بتحطيمها فأعاد الفنان تكوينها في عاصمة المكسيك!

"أكثر أعمالي كمالاً"

منذ حصول ريفيرا على العقد المتعلق بهذه الجدارية أعلن أنه يأمل لهذا العمل أن يكون "أكثر أعمالي كمالاً" وذلك ببساطة لأن تلك الجدارية التي ستصبح منذ إنجازها في حماية عمال فورد في دترويت، لا تحاول تمرير رسالتها الأيديولوجية بشكل خفي بل بكل وضوح باعتبارها نوعاً من التكريم لعمال المصنع في دترويت الذين تعامل الفنان مع انكبابهم على عملهم "كما تعاملت في لوحات سابقة لي مع تفاصيل الطبيعة في المكسيك". فهؤلاء العمال كانوا الجزء الأساسي بالنسبة إليه من المشهد الذي أراد تصويره، كما كانت تفاصيل الطبيعة في بلاده جزءاً أساسياً من جدارياته، مع فارق في الضخامة – وفرته الإمكانات المالية التي مكنه ورثة هنري فورد من التمتع بها وقد سرهم عدم وجود أي وجه كريه يطالعهم في ثنايا الجدارية. بالنسبة إليهم كان يكفيهم أن يرسم الفنان عمالهم يعملون بجد في مصانعهم من دون أن يحاول، في هذه اللوحة على الأقل، أن يمرر رسائل سياسية – أيديولوجية مباشرة. فهم في نهاية الأمر لم يدركوا أن ريفيرا كان يعتبر أن ليس ثمة حاجة هنا للناطقين باسم العمال كي يحملوا رسالتهم طالما أن "الأصل" موجود في صدارة المشهد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفنان يخسر 30 كيلو

لكن المشهد لم يكن هيناً على أي حال. فجدارية "الإنسان والآلة" – التي اشتغل عليها ريفيرا ومساعدوه ثمانية أشهر بمعدل 15 ساعة يومياً ما أفقد الفنان في النهاية 30 كيلوغراماً من وزنه - تعتبر واحدة من أضخم الجداريات التي حققها هذا الفنان في بلاد العم سام تصل في مساحتها إلى ما لا يقل عن 434 متراً مربعاً وتتألف من 27 لوحة مقسومة بين الجدار الشمالي وذاك الجنوبي للقاعة. ولعل ما أغرى آل فورد بقبول الجدارية كما هي أن الفنان استوحاها بعد أشهر من الإقامة في الجوار يزور خلالها المصنع بشكل يومي، مما رصده من انكباب العمال الذي اتخذ معظمهم موديلاً له، في القسم من مصانع فورد يتم فيه إنجاز واحد من أشهر موديلات فورد وكان قد نزل إلى الأسواق في ذلك الحين وحقق نجاحاً كبيراً جعل أصحاب المصانع شديدي الفخر به، وهو المعروف باسمه "في – 8". وكان نجاح تسويق الموديل كبيراً إلى درجة أن آل فورد أحبوا الجدارية بخاصة أن الرسام قد صور في جزئها الأوسط تلك الأجنحة من المصانع التي أتت بتجديدات لافتة في مجال التصنيع إلى جانب أجنحة تصور عمليات التصميم والجمع والتزيين وما إلى ذلك.

سان سيمون لا ماركس

والحقيقة أن ريفيرا الذي بدا هذه المرة وإلى حد كبير، نزيهاً في تعبيره عن الصناعة في هذا العمل الضخم، حرص على أن يوزع اهتمامه بالعدل على تفاصيل الصناعة في أحدث تطوراتها ولكن أيضاً على إبراز دور العامل الإنساني في تكامله مع الآلة والعقول المفكرة في العملية التصنيعية. وهو ما جعل تلك الجدارية تعتبر، ولا تزال تعتبر حتى اليوم، من أهم التعبيرات الفنية الإبداعية عن الصناعة ومن يقومون بها بدأب ولكن بقدر قليل جداً من الأيديولوجيا بحيث بدت اللوحة، هذه المرة على الأقل، ترجمة لمفاهيم سان – سيمون حول الصناعة ودورها في حياة المجتمع المتطور، أكثر بكثير من كونها تعبيراً عن استلاب العمال، كما عبَّر عنه كارل ماركس في كتابه "رأس المال"!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة