تحت عنوان " فنٌّ من أجل القضية" تقيم غاليري صالح بركات في بيروت معرضاً عاماً وشاملاً لحصيلة 35 سنة من الاشتغال في الفن التشكيلي، الذي يرتبط بثيمة رئيسة هي فلسطين. فبعد تأجيل معرض ضياء العزاوي نتيجة الأحداث قرّرت إدارة الغاليري البحث في أرشيفها عن أعمال ومقتنيات ترتبط بالقضية الفلسطينية وتحتلّ فيها مكانةً كبرى في مسيرة التشكيل العربي المعاصر. يستخدم الفنّانون وسائل مختلفة في ميدان المقاوَمة، موظّفين قوّة الصورة واللون والخط، لتسليط الضوء وتعميق الوعي الوجودي. ولعل الأعمال والرؤى الفنية هي عبارة عن سرديات غير مباشرة يمكن أن تُحرّك القلوب والعقول. في هذه الشاكلة يوفر الفن الطّرق القوية للرؤية ويقدّم السرديّة التي لا تقلّ أهمّية عن سرديات فكرية وسياسية واجتماعية وأدبية.
انطلقت فكرة المعرض، الذي يستمرّ إلى منتصف الشهر الجاري، من فكرة أساسية لدى إدارة الغاليري بضرورة الالتفات إلى ما يجري ويحصل في فلسطين وجنوب لبنان، وأيضاً من عدم جواز قيام أي نشاط فني أو ثقافي في ظل ما يحصل اليوم من مآسي ويراق من دماء. من هنا بدأت إدارة الغاليري تصنيف المقتنيات وأرشفة نتاجها، كما يقول صاحبها صالح بركات لـ "اندبندنت عربيّة": "كنّا بصدد الأرشفة وإعادة فتح المخازن واستذكار حصيلة الأعمال المتوفّرة منذ 35 سنة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغزة وفلسطين وما يدور في فلكهما. والهاجس أمامنا أننا يجب أن نقوم بتقديم تحيّة للشعب الذي يقاوم".
يضمّ المعرض ما يقارب ال 100 عمل فنّي بين لوحة ومنحوتة منتقاة من أرشيف الغاليري على مدى ثلاثة عقود، بمعدّل أربعة معارض سنوياً، وهي تعود إلى عدد كبير من الفنانين اللبنانيين والعرب، بعضُها من التجارب الأولى التي أسهمت الغاليري في إطلاقها وتسليط الضوء عليها. ويضمّ المعرض عدداً وافياً من أعمال فنّانين مكرّسين، أحياء وراحلين، من فلسطين وسورية ولبنان والجزائر والعراق ومصر والمغرب. تأتي هذه اللفتة بمثابة تحيّة لأرواح من رحل من الفنانين وتركوا بصمتهم ولوحاتهم في هذا الحيّز، وأيضاً لأرواح الضحايا الذين يسقطون يومياً في غزة، من أطفال وشيوخ ونساء. هي أشبه بتحية إنسانية تقديراً وتضامناً مع ما يجري مع الشعب الفلسطيني ودعماً له في هذا الوقت الذي يعيش فيه أزمة إنسانية غير مسبوقة.
أجيال وتجارب متعدّدة
تتوزّع اللوحات في قاعات الغاليري السّفلى والعلويّة على جدران ضخمة، وتحتشد لتشكّل مشهداً متكاملاً. تبدأ الرحلة مع أيمن بعلبكي ولوحة الملثّم المتصدّرة مدخل المعرض، وأصرّ بركات أن تكون في الصّدارة خاصة بعدما مُنعت لوحة أُخرى شبيهة بها للفنّان، من العرض في أحد المزادات الفنّية في بريطانيا في نوفمبر(تشرين الثاني) الماضي. تعكس الكوفيّة المعروضة الرمز الفلسطيني الذي يوحي للزائر بأنّ كلّ شيء مدمّم، لكن المفترج لا يلبث أن يكتشف أن ما وراء الأحمر القاني ورود موزّعة على كليّة العمل. كوفيّة وعيون شابة وكأنّما كتبت على الفلسطيني هذه الخطوط الحمراء التي تحيل إلى دم ولطخ.
تبرز أيضاً أعمال العراقي ضياء العزاوي التي يسيطر عليها الطابع المظلم. وكأنّ كلّ شيء مرسوم لينقل حالات البيوت بعد دمارها وزوالها. الحيطان المدبّجة وغرف التعذيب تُحيل إلى ما يشبه المقابر الجماعيّة والمخلوقات الغريبة التي تطلق صرخات. هذه السيناريوهات هي قوام لوحات العزاوي التي توزعت على مجموعتين، مجسّدة درب الجلجلة الفلسطينية.
أما تغريد درغوث فبرزت مشاركتها بفكرة وأعمال واحدة لا تتحوّل أو تبتعد. الناظر إلى لوحة الطيارة الحربية لا يمكن أن يحيد عن معناها من دون اللجوء إلى عنوانها "لا يمكنك الاختباء في أي مكان". في هذا السياق تبتعد اللوحات عن الدموية وتنقلها العناوين التي تشرح وتفسر وتجسد الحالات. مثلاً شجرة الزيتون الفلسطينية في إحدى اللوحات هي شجرة الأصل والجذور التي تأخذ كل ألوانها من هناك، من حياة الخفاء والدهاليز والأوكار المظلمة.
ذاكرة صوريّة
من جهة أخرى تبرز أعمال منفردة لكاتيا طرابلسي ومنها منحوتتان على شكل صاروخ، تروما الحرب. الأول يحمل العلم الفلسطيني والثاني مكوّن من سلسلة مفاتيح معلقة بعضاً فوق بعض لتشكّل صاروخاً. أما العمل الأقدم في السلسلة المعروضة فيعود للفنان السوري فاتح المدرّس، لوحة خلاصيّة بامتياز تظهر في أعلاها صلبان فلسطينية ومن تحتها الجحيم الأحمر. عمل يتأرجح بين حياتين: لذة الحياة والرغبة الدائمة في مغادرة الأنقاض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما تحفة عبد الرحمن قطناني فتبرز وكأنّها قوة تبتلع الحبل الشائك الذي يفصل بين مناطق فلسطين. أشواك متراصفة تُحيلُ إلى ابتلاع شعب يقضي ما تبقى من عمره في عزلته كونية. يأتي هذا على غرار جومانا الحسيني التي يحلو لها أن تتخيل فلسطين بالألوان المسالمة، القدس كما هي مدينة للرحمة والسلام.
المعرض ضمّ أيضاً أعمالاً أخرى لكل من مصطفى الحلّاج، أسامة بعلبكي، إميل منعم، يوسف عبدلكي، عارف الريّس، محمد الروّاس، نذير إسماعيل، فوزي بعلبكي، محمد مليحي، حلمي التوني، رفيق شرف، ورشيد قريشي، ويختتم بذاكرة برهان كركتلي الصوريّة لفلسطين التي تلوح من خلال الرجل المحمول والنساء بزيّهن التقليدي. صبيّة عائدة كأنّها من الآلهة، تجسد حياة ما قبل النكبة التي يحاول كركتلي استعادتها في ألبوم صور ورسوم متباينة.