Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من يتحمل فوضى أسعار المحاصيل الزراعية في مصر؟

قيمة واردات البلاد من القمح ارتفعت 5.3 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي

مزارعون مصريون يحصدون القمح في قرية بمها بالقرب من بلدة العياط في محافظة الجيزة (أ ف ب)

ملخص

يشكو المزارع المصري ارتفاع أسعار السماد والدواء والسولار وغيرها من المستلزمات التي يحتاج إليها وتعد من المعوقات التي دفعت نحو زيادة أسعار الخضراوات وغيرها من المنتجات الزراعية

"محصول القمح لا يوفر لنا عائداً مجزياً" بتلك العبارة بدأ سعفان عبدالكريم، الذي يعمل في الفلاحة منذ نحو 30 عاماً حديثه إلى "اندبندنت عربية"، مشيراً إلى أن زراعته تتطلب الانتظار ستة أشهر كاملة قبل جمعه من الأرض، مطالباً الجهات المعنية بأن تتعامل مع المزارعين بالسعر العالمي، ورفع الأسعار التعاقدية لدفع الفلاح نحو الاهتمام بالمحاصيل الاستراتيجية.

وقبل أيام، اجتمعت لجنة الزراعة والري بمجلس النواب المصري لمناقشة طلبات إحاطة تستهدف وضع خطة واضحة لزراعة المحاصيل الاستراتيجية. وحذر النائب محمد عبدالله زين الدين في طلبه من تراجع المساحات المخصصة لمحصول القمح في الموسم الجديد، وتوقع أن يتأثر حجم إنتاج المحصول سلباً، وأن تضطر الدولة إلى الاعتماد على استيراده بالعملة الصعبة.

وتشير البيانات الرسمية إلى أن قيمة واردات مصر من القمح ارتفعت 5.3 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، بعد أن وصلت إلى نحو 2.854 مليار دولار مقابل 2.709 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عام 2022، بحسب ما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء خلال نشرته الصادرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

القمح وانتظار الحصاد

ويبرر جمال أمين، وهو مزارع مصري خمسيني يعمل في مجال الفلاحة منذ 25 سنة، إهمال بعض الفلاحين زراعة المحاصيل الاستراتيجية بالقول إنه "من الطبيعي أن نبحث عن البدائل، والتركيز على الزراعات التي يمكن أن نستفيد منها بهوامش ربحية في ظل ما نعانيه من زيادة أسعار كل شيء من حولنا، بخاصة أننا نتلقى في كثير من الأحيان خسائر نتيجة تلف المحاصيل وتغيرات المناخ".

واعتبر أمين أن "المشكلة تكمن في بقاء محصول القمح في الأرض قرابة ستة أشهر قبل إتمام عملية الحصاد، إذ تستمر عملية زراعته من نوفمبر (تشرين الثاني) وحتى يونيو (حزيران)، لذا نتجه لزراعة أكثر من محصول خلال المدة ذاتها".

أضاف "من الصعب أن ينتظر الفلاح نصف عام من دون أن يحقق دخلاً لتوفير نفقات وحاجات أسرته". شارحاً "عندما قدمت الدولة الدعم للمزارع واشترت منه القمح بسعر مضاعف خلال السنوات الأخيرة، ذهب معظمنا إلى الزراعات التي لا تأخذ فترات طويلة في جني المحصول".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفق الباحث في مركز البحوث الزراعية محمد إبراهيم، فإن "الدولة يجب أن تساعد الفلاح بصورة أكبر لزراعة المحاصيل الاستراتيجية من خلال ربط محاصيلهم بأسعار مرتفعة تقترب من تلك التي تدفعها الحكومة عند الاستيراد كنوع من التحفيز للمزارعين المحليين"، معتبراً أن "مثل هذه الإجراءات يمكنها أن تدفع الفلاح إلى زراعة محصول استراتيجي مثل القمح بدلاً من أن تضطر الدولة إلى استيراده بالدولار".

وفي نوفمبر الماضي، وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بزيادة إنتاجية المحاصيل الاستراتيجية، ورفع إنتاجية الرقعة الزراعية، بخاصة في ما يتعلق بالمحاصيل الاستراتيجية، مثل القمح والذرة. مشدداً على أن الهدف الأساس من المشروعات القومية يتمثل في الاستجابة لحاجات المواطنين، من خلال ضمان الأمن الغذائي، وتعزيز الفوائد الاقتصادية وتوفير فرص عمل إضافية. وسبق للسيسي أن طالب بمراجعة أسعار المحاصيل الاستراتيجية، مع وضع سعر محفز، يساعد على تشجيع الفلاحين والمزارعين على التوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية بخاصة القمح.

وفي نوفمبر أيضاً، أعلن وزير الزراعة المصري مرزوق القصير أن بلاده تستهدف زيادة المساحة المزروعة بالقمح ضمن خطة هادفة إلى زيادة الاكتفاء الذاتي من المحصول وتقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج. مشيراً إلى أهمية إحياء تجربة الدورة الزراعية وتطبيقها بشكل تجريبي على محصول القمح، كما سبق أن أعلن الوزير المصري عزم بلاده على تطبيق الدورة الزراعية في القمح اعتباراً من عام 2024.

دعم الزراعات الاستراتيجية

وتشير الباحثة منى لطفي في تقرير لها على صفحة المرصد المصري إلى أن "مصر لا تزال تعتمد على استيراد الحبوب بصورة كبيرة، أبرزها القمح والذرة"، مسلطة الضوء على أن "القاهرة من أكبر الدول المستوردة للغذاء، وتستورد أكثر من 50 في المئة من حاجاتها الغذائية، مما يعني أن أكثر من 50 مليوناً يعتمدون في غذائهم على الخارج".

ونبه الباحث بمركز البحوث الزراعية محمد إبراهيم إلى أن "تقديم الدعم للمزارعين المصريين سينتج منه تقليل عمليات الاستيراد بالعملة الصعبة"، متسائلاً "هل توجه الدولة لدعم المزارع من أجل زراعة السلع الاستراتيجية أم الضغط عليه بتحديد أسعار توريد منخفضة ودفعه إلى عدم الاهتمام بالمحاصيل الاستراتيجية".

وأوضح إبراهيم أن "المزارع يتجه إلى البدائل التي تحقق له هامش ربح مرتفعاً حتى لا يلتزام بأسعار تعاقدية يمكن أن تسبب له خسائر"، موضحاً أن "الزراعات الاستراتيجية في حاجة إلى دعم من الدولة بصورة أكبر، ومثلاً من المهم تحديد سعر القمح وإخطار الفلاح قبل أن يبدأ عملية الزراعة ولا يتفاجأ بالأسعار المحددة من الدولة بعد جني المحصول".

ويشكو المزارع المصري جمال أمين من ارتفاع أسعار السماد والدواء والسولار وغيرها من المستلزمات التي يحتاج إليها، وتعد من المعوقات التي دفعت نحو زيادة أسعار الخضراوات وغيرها من المنتجات الزراعية، ضارباً بعض الأمثلة مثل "زيادة سعر شيكارة السماد من 150 (خمسة دولارات أميركية) إلى 600 جنيه (20 دولاراً أميركياً) في وقت قياسي، وارتفاع أسعار الأدوية التي تستخدم للحشائش بمقدار أربعة أضعاف قيمتها، وكلفة البذور التي تحركت بمعدلات جنونية".

وشرح أمين "كنا نجهز الأرض للزراعة بكلفة 10 جنيهات (32 سنتاً أميركياً) نظير حرث القيراط الواحد، قبل أن تزيد وتصل إلى 35 جنيهاً (1.13 دولار أميركي)، كما ارتفع إيجار قطعة الأرض تدريجاً حتى وصل إلى 15 ألف جنيه (485 دولاراً أميركياً) للفدان (0.404685 هكتار)، وكذلك اليد العاملة أصبحت عملة نادرة بحيث يحصل الفرد على يومية مقدارها 150 جنيهاً (خمسة دولارات أميركية) في المتوسط، بعد أن كانت لا تزيد على 60 جنيهاً (دولاران أميركيان)، لذا ارتفعت الأسعار على المواطن بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية".

أما في شأن بدائل المزارعين والأسباب الأخرى وراء غلاء أسعار المحاصيل الهامشية، فيقول المزارع المصري إنه "من ضمن العوامل التي تسبب الغلاء أن الإنتاجية لا تصل من الفلاح إلى المواطن مباشرة، لكنها تنتقل عبر دائرة واسعة من المزارعين والتجار حتى الوصول إلى السوق مما يرفع أسعار المنتجات الزراعية على المواطنين". وأوضح أن "الفلاح لا يمكنه أن يترك أرضه ويركز على التوزيع".

البحث عن الحاصلات المربحة

ويرى خبير استصلاح الأراضي وأستاذ الموارد المائية بجامعة "القاهرة" نادر نور الدين أن الأسواق المحلية شهدت ارتفاعات قياسية في أسعار الخضراوات وعدد من السلع الهامشية غير الأساسية، مما يؤثر في الحاصلات الاستراتيجية المهمة من القمح والفول والعدس. واعتبر أنها أسباب يمكن أن تدفع المزارعين إلى التحول إلى زراعات الحاصلات المربحة التي تدر عليهم دخلاً تحتاج إليه بيوتهم. وأبدى قلقه من الارتفاع القياسي لبعض هذه السلع متسائلاً "من يزرع القمح الذي لا يتجاوز سعره 12 جنيها (39 سنتاً أميركياً) للكيلوغرام الواحد، أو الفول الذي لا يتجاوز 40 جنيهاً (1.29 دولار أميركي) وكذلك العدس".

وحول المقترحات المطروحة للعبور من تلك الأزمة أشار نور الدين في مقال له، في ديسمبر الماضي، إلى أنها "مشكلة تستلزم دراسات كاشفة سواء من وزارة التخطيط أو مراكز الدراسات المستقبلية"، مشيراً إلى أن "تراجع مساحات زراعات القمح في ظل استمرار أزمة روسيا وأوكرانيا يمكن أن تتسبب في ارتفاعات مقبلة في أسعار القمح في ظل تفضيل غالب المزارعين المصريين التحول إلى زراعات البصل والثوم والبطاطا والحمص واليانسون والفاصوليا ومختلف صنوف الخضراوات".

وبحسب المتخصص الزراعي حسام رضا فإن "بداية المشكلة كانت منذ فترة تولي يوسف والي وزارة الزراعة (1982-2004) واتخاذه سياسة أدت إلى تقليص مساحات الأراضي المخصصة للزراعات الاستراتيجية من قمح وقطن وذرة وفول ورز، وأعطت للمزارع الضوء الأخضر لزراعة ما يريد من دون التزامات". وقال رضا إن "مصر باتت في حاجة إلى استراتيجية زراعية واضحة، تتحدد بواسطتها الأولويات وتضمن الاكتفاء الذاتي". وسلط الضوء على الأزمة المتمثلة في ارتفاع أسعار السلع الزراعية بشكل جنوني، مما يؤدي إلى زيادة العبء على المواطن. وطالب بإعداد خطة شاملة من قبل خبراء في مراكز البحوث لتحديد الأولويات والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية.

وركز رضا على أهمية حل مشكلة نقص المهندسين الزراعيين وعدم الاعتماد على التحول الرقمي في تقديم المعلومات لهم، نظراً إلى أهمية التواصل المباشر مع الفلاحين لتوفير الدعم وتقديم الحلول لتحسين أداء الزراعة المحلية، والاهتمام بحاجات السوق المحلية من السلع الاستراتيجية.

وأشارت دراسة بعنوان الآثار الاقتصادية للتعدي على الأراضي الزراعية لأهم المحاصيل الزراعية بمصر المنشورة بالمجلة المصرية للاقتصاد الزراعي، في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، إلى استمرار ظاهرة التعدي على الأراضي المخصصة للزراعات الاستراتيجية على رغم وجود قوانين وتشريعات تجرم ذلك، مما أدى إلى تحقيق خسائر اقتصادية لمحصولي القمح والرز الصيفي، نتيجة المساحة المفقودة.

وكشفت الدراسة التي أنجزها أربعة باحثين بقسم الاقتصاد الزراعي هم محمد حسين وعلي إبراهيم وسهر خليل وولاء علي، عن أن متوسط المساحة المفقودة من محصول القمح كحد أدنى 505.08 فدان (205 هكتار) تقريباً في عام 2021. وأوصت الدراسة بدعم وتحسين مناخ الاستثمار الزراعي في مجال استصلاح واستزراع الأراضي الصحراوية تعويضاً عما سبق إهداره من أراض زراعية، والتوسع في توفير التقاوي المعتمدة للمحاصيل الزراعية الاستراتيجية.

ويعلق المزارع سعفان عبدالكريم، وهو يعمل في الفلاحة منذ نحو 30 عاماً على تلك الأزمة، ويقول إن "السعر العادل يجب ألا يقل عن 2500 جنيه (90 دولاراً أميركياً) للإردب الواحد لجذب المزارعين بدل هربهم إلى زراعات بديلة ليست أساسية لمجرد تحقيق الربح الجيد". وأضاف أن "استيراد القمح يكلف الدولة مصاريف مرتفعة بالدولار، إضافة إلى كلف النقل ودخول الشحنات، من ثم من المهم أن يقل اعتمادها على الاستيراد بمنح العاملين بالفلاحة دعماً أكبر، والاستفادة بمزايا منها أن الفلاح يرسل القمح إلى الصوامع مباشرة".

أزمات وراء الغلاء

ووفق كبير متخصصي المياه بالأمم المتحدة أحمد فوزي دياب فإن "مصر تعاني محدودية في المساحة المزروعة بسبب أزمة المياه. وفي حال تعرض المورد المائي لمشكلات، فإن هناك صعوبة في تلبية حاجاتنا من القمح". وبحسب تصريحات صحافية للرئيس الأسبق لمركز بحوث الصحراء المصرية رأفت خضر، فإن "الأراضي المصرية تخسر 30 ألف فدان (12140 هكتار) سنوياً"، مضيفاً أنها "فقدت ما يقارب مليوني فدان (809370.9 هكتار) من الفترة الواقعة بين نهاية الثمانينيات حتى عام 2011". وشدد دياب على ضرورة تحديد أولويات الاستصلاح، معتبراً أن "ارتفاع أسعار التقاوي والمبيدات والأسمدة وكلفة العمالة أثرت في كلف المنتج، مما يدفع المزارعين في مصر نحو اختيار المحاصيل التي تعود بعوائد جيدة لهم".

كما أكد المزارع المصري سعفان عبدالكريم أن "زراعة محاصيل الخضراوات تمثل الحل الأنسب لمعظمنا لأننا نحصل على عائد جيد من زراعتها، والعملية في النهاية عرض وطلب، إذ تتوقف التسعيرة على حاجات السوق". ولفت سعفان إلى "ارتفاع مستلزمات الفلاح، مثلاً شيكارة الكيماوي باتت بـ700 جنيه (23 دولاراً أميركياً) بالسوق السوداء". وأوضح أنهم يحصلون من الدولة على ست شكائر مدعومة بسعر 260 جنيهاً (8.41 دولار أميركي) للشيكارة الواحدة لكن الفدان (0.404685 هكتار) يحتاج في العام من ثماني إلى 10 شكائر، ولذلك نلجأ إلى السوق السوداء.

وقال كبير خبراء الأمم المتحدة فوزي دياب إن "توجه الفلاح يتمحور حول الحصول على أكبر قدر من المكاسب المادية وتغطية نفقات الإنتاج وتحقيق هامش ربح. ويمكن تحقيق تغيير إيجابي من خلال توفير موارد مائية جديدة وتعزيز الزراعة التعاقدية مع ربط المنتجين بالأسواق مباشرة، وإغلاق الأبواب أمام الوسطاء الذين يتحكمون بالأسعار بشكل مبالغ فيه".

وحول مقترحاته في هذا الشأن أشار إلى "ضرورة تحقيق توازن بين الحاجات المحلية وحاجات الدولة، مع دعم إرشادي قوي من قبل المراكز البحثية، ولكن هذا يتطلب موارد مالية ضخمة". واقترح دياب "وضع آلية للتعاقد بين الفلاحين وجهات التوزيع لتجنب الوسطاء الذين يؤثرون سلباً في السوق المحلية بالدفع نحو زيادة الأسعار". وأوضح أن "إلزام الفلاحين زراعة السلع الاستراتيجية كان مناسباً في الماضي ولكنه لم يعد كذلك في ظل زيادة السكان وارتفاع أعداد الوافدين"، وأشار إلى ضرورة التركيز على تحسين الإدارة المائية، وتفعيل الزراعة التعاقدية وجعلها أكثر شمولاً، والتوازن بين الحاجات المحلية ومتطلبات الدولة وحاجات التصدير لتوفير العملة الصعبة لتغطية النفقات المتعلقة بالأسمدة والآلات الزراعية، و"حال استيرادها يجب أن يتبعها وجود دعم إرشادي قوي من قبل المراكز البحثية وموارد مالية ضخمة".

اقرأ المزيد