ملخص
مدينة طرابلس اللبنانية، عاصمة الثقافة العربية لعام 2024 تواجه خطر زوال هويتها الحضارية بفعل هدم المباني التراثية
"مشهد متناقض" تعيشه طرابلس اللبنانية، فالمدينة التي سميت "عاصمة الثقافة العربية لعام 2024"، كانت على موعد مع سقوط أو "إسقاط" "مبنى المير" في منطقة الزاهرية الشاهدة على الحقبة الكولونيالية، وهو يعد واحداً من مباني المدينة التراثية المهمة الشاهدة على عراقتها وتاريخها المتنوع. وكاد حساب الخسارة يتسع مع محاولة هدم مبنى آخر في شارع المطران استناداً لقرار صادر عن وزير الثقافة محمد وسام مرتضى، قبل التراجع عنه بناءً على مشورة "علمية"، وهي الحجة نفسها التي بني عليها قرار السماح بالهدم.
فرحة لم تكتمل
في يناير (كانون الثاني) 2023 عاشت مدينة طرابلس بشمال لبنان حالة من التفاؤل مع إدراج "معرض رشيد كرامي الدولي" على اللائحة الأولية للتراث العالمي لدى منظمة الـ"يونيسكو". وشعر الطرابلسيون لوهلة أن حقبة جديدة من التعاطي مع تراث المدينة قد بدأت. وجاءت النداءات لاستدراك أوضاع المباني المتصدعة، والتي أعقبت زلزال السادس من فبراير (شباط)، لتعزز هذا الشعور، لكن سرعان ما تبددت تلك الانطباعات مع بروز العجز الرسمي العام، والتذرع بحالة "إفلاس الدولة" التي أثرت في عمل وزارات الداخلية والثقافة والهيئة العليا للإغاثة، ناهيك بفقدان البلدية بوصفها سلطة محلية عنصر المناورة لناحية "أعمال التدعيم" بفعل فقدان مدخراتها وودائعها لدى المصارف.
وجاء "سقوط" مبنى المير في 18 سبتمبر (أيلول) 2023، في ظل صمت رسمي، ليسلط الضوء مجدداً على المباني التراثية في طرابلس. بدأ الأمر بسقوط جزئي للمبنى، وترافق مع إقفال الطريق التي تعتبر عقدة مواصلات داخل طرابلس القديمة. وقامت البلدية بإحاطة المبنى بعوائق خراسانية. استمر الوضع على حاله لغاية الأسبوع الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول) 2023، حيث بدأ المالك بعملية الإزالة التامة للمبنى بذريعة "الحفاظ على السلامة العامة". وبحلول الـ15 من الشهر نفسه، كان المبنى قد أزيل بالكامل، وتحول إلى ساحة مفتوحة، ومهيأة لإقامة مشروع أو مبنى شاهق جديد في وسط المدينة.
مبنى آخر
فتح "هدم" مبنى المير بقرار وزاري شهية مالكين آخرين، وتحديداً أصحاب البناء القائم على العقار 161 من منطقة التل العقارية، الواقع في شارع المطران، والمؤلف من بلوكين. واستند المالك إلى القرار 96/2023 الصادر عن وزير الثقافة محمد وسام مرتضى، الذي أكد أنه لا مانع في هدم البلوك "أ" من البناء "شرط التقيد بالخرائط المعمارية الموافق عليها من المديرية العامة للآثار".
وصف القرار البناء بأنه "بناء عادي، أسقفه من الباطون المسلح، المواد المستعملة في البناء عادية، ولا يوجد فيه أي تفاصيل معمارية مميزة، أو قناطر أو نتوءات"، وبحسب القرار "لم يرتبط البناء القائم بأي وظيفة لها أهمية، سواء على المستوى التاريخي أو الاقتصادي أو الثقافي"، كما أشار إلى أن "الحالة الإنشائية غير سليمة، وهو متصدع في بعض أجزائه وجدرانه، وفيه شروخ وتشققات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وضع القرار وزارة الثقافة في حالة من الإرباك، وخصوصاً في ظل إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية، ولقي رد فعل رافضاً من قبل بلدية طرابلس، والجهات المهتمة بالحفاظ على تراث وهوية المدينة، كما أنه يناقض الحرص الذي أظهره وزير الثقافة على تاريخ المدينة، واتخاذه قراراً بنقل مكتبه إلى طرابلس في موازاة احتفالية 2024. كما جاء القرار خارج السياق التاريخي العام لتصديع البناء، فقد سبق أن قامت البلدية بوقف أعمال الهدم التي بدأها المالك قبل تسع سنوات، بعد ضغط مارسته لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، والمجتمع المدني المحلي في حينه. كما غفل القرار الأولي عن وجود المبنى ضمن نسيج عمراني واحد ضمن شارع المطران، وتجاوز البلدية بالمطلق، التي التزمت منع هدم الأبنية التراثية، والسعي على قدر إمكاناتها بتدعيم الأبنية عند الحاجة.
دفعت حالة البلبلة وزير الثقافة إلى التراجع عن قرار الموافقة على الهدم وسط تساؤلات عن قيامه بإصدار القرار أساساً من دون الكشف عن المبنى، ومن دون العودة للملف المفصل للمبنى والموجود منذ تسع سنوات لدى المديرية العامة للآثار، ناهيك بتشكيل مرتضى لجنة استشارية خاصة به، موازية للمديرية العامة للآثار المولجة قانوناً بالكشف عن الأبنية الأثرية والتراثية من خلال فريقها الفني المتخصص.
يشير عضو اللجنة المكلفة دراسة ملفات الأبنية التراثية وسيم ناغي إلى تراجع الوزير عن قرار الموافقة بهدم البناء القائم على العقار 161، بعد اكتشاف أربع مباني موازية للمبنى القائم. وطالب ناغي وزارة الثقافة بسلسلة تدابير تشمل "تحديث قوائم الجرد بصورة دورية من أجل الحفاظ على التراث، والتعاون مع البلديات والجمعيات المتخصصة لأن أعداد المباني غير المحمية في طرابلس، وغيرها من المناطق، كثيرة جداً ولا يمكن حصرها بصورة نهائية، ووضع تشريعات لتحفيز المالك على حفظ المبنى التراثي وتوعيته للحفاظ على القطع النفيسة، وتقديم تعويضات مجزية للمالكين إن أمكن ذلك"، متخوفاً من "عودة كثير من التجار إلى وسط المدينة، وشراء المباني القديمة بأسعار بخسة، والسعي إلى هدمها، وهذا يشكل جريمة في حق صناعة السياحة الثقافية التي تشكل عماد الازدهار في مدينة طرابلس".
التدهور السريع
تشهد مدينة طرابلس تدهوراً سريعاً في أوضاع مبانيها الأثرية، وفي نسيجها المعماري التراثي، وجاء الانهيار المالي والاقتصادي، ليعمق حالة العجز المزمنة التي أصابت المؤسسات الرسمية والأفراد، وزادت الأوضاع سوءاً. وبحسب مسح قامت به بلدية طرابلس عام 2016، يقدر عدد المباني الأثرية أي العائدة إلى ما قبل عام 1700، بـ97 مبنى أثرياً، بما فيها مدارس، وأبراج، وقلاع، ومساجد، وزوايا، ومزارات، وحمامات وغيرها. إضافة إلى المئات من المباني التراثية التي أقيمت في الحقبة التي أعقبتها.
اجتمعت جملة من العوامل لـ"تشويه" المشهد الحضاري للمدينة التاريخية، منها ما هو مقصود، ومنها بفعل الجهل، فقلة الوعي إلى أهمية هذه المباني دفعت كثيراً من المالكين إلى إهمالها، لا بل إلى التحايل على القيود الرسمية، وتسريع عمليات السقوط والهدم من خلال "خلخلة القواعد والهياكل". أو حتى قيام بعض القاطنين، أو الجيران باستغلال وضع المباني المهجورة، وتفكيكها من أجل بيع العناصر الجمالية على غرار القناطر، والحجارة الرملية، والفسيفساء الملونة، والتماثيل. ويؤكد أحد تجار التراثيات واسمه حسن، بأن "هناك إقبالاً متزايداً على الأجزاء التراثية القديمة، كالبلاط الرخامي الذي يفكك من البيوت القديمة، أو الحجارة الرملية، حيث يراوح ثمن الحجر الواحد ما بين دولارين و4 دولارات، ويمكن أن يرتفع الثمن بحسب الحجم والجودة. وتستخدم في إعادة بناء القصور، أو تركيبها في أكثر من منطقة لبنانية".
في المقابل، يسهم التزايد السكاني بصورة غير مقصودة في خسارة المدينة أجزاءً من مبانيها التراثية. ويمكن للزائر أن يرصد وبالعين المجردة، إضافة بعض الأجزاء الباطونية فوق المباني التراثية، في مواقع مختلفة، مثل سوق الذهب، وبأعداد كبيرة في منطقة السويقة، أحد الأحياء القديمة.
الخلل في القانون
في سبيل الوصول إلى مخرج، تبرز اقتراحات علمية من قبيل ترميم هذه المباني من قبل مالكيها بطريقة علمية، في موازاة السماح لهم بإضافة بعض الطبقات أو إضافات ضمن القيود والمعايير المفروضة من قبل المديرية العامة للآثار.
وتزداد المخاوف من وجود مخطط مدروس للقضاء على الهوية الحضارية للمدينة، وظهور نمط تحايلي على القيود القانونية والإدارية، يبدأ بإعطاء الأذونات بالهدم، ومن ثم التراجع عنها بعد فوات الأوان، حيث يصبح المبنى متداعياً. بعد ذلك، يلجأ المالك إلى تقديم مراجعة لدى مجلس شورى الدولة للمطالبة برخصة هدم حفاظاً على السلامة العامة، ومن ثم إلزام البلدية بإصدار رخصة لذلك. كما يلعب اختلاف التصنيف بين أثري وتراثي دوراً سلبياً في حفظ المباني، بموجب المادة الأولى من القرار 166 تاريخ 7/11/1933، الذي لا يزال مراعى في لبنان "تعتبر آثاراً قديمة جميع الأشياء التي صنعتها يد الإنسان قبل سنة 1700 ميلادية، 1107 هجرية، مهما كانت المدنية التي تنتمي إليها هذه المصنوعات. أما الأبنية العائدة إلى الفترات اللاحقة، فهي لا تتمتع بنفس الحماية القانونية، من هنا يكمن الخطر الذي يحيط المباني التراثية، ومن ثم الحاجة إلى وجود تشريع واضح وبين، يوسع دائرة الحماية ليشمل تلك العائدة إلى النصف الأول من القرن الـ20 على سبيل المثال".
في موازاة ذلك، وأمام الفجوة التشريعية، يبرز الدور المحدود للبلدية بوصفها سلطة محلية، فمن ناحية، ترميمها للمباني العامة مرهون بتأمين التمويل، وهذا غير ممكن حالياً في ظل الانهيار المالي والاقتصادي. كما أنها غير ملزمة ترميم المباني الخاصة، وكل ما يمكنها القيام به التدعيم والإصلاحات الضرورية، وتسجيلها دين ممتاز على الصحيفة العينية العقارية. وبحسب المادة 18 من قانون البناء، "على المالك أن يسهر دوماً على صيانة أملاكه المبنية، وتأمين الاتزان والمتانة اللازمين لها للمحافظة على سلامة الساكنين والجوار"، وفي حال امتنع المالكون لسبب ما عن ترميم وصيانة واجهات أبنيتهم وأجزائها الأخرى، يحق للبلدية بعد إخطارهم أن تقوم بذلك، على نفقتهم، والأمر نفسه في حالة الهدم بسبب الخطر على السلامة العامة".