إذا حاولت تشغيل ألبوم أغاني البؤساء في الصين ستكتشف اختفاء أغنيتين منه. إذ تغيب أغنية "هل تسمع غناء الشعب" بنسختها الأولى والثانية عن عددٍ من الألبومات على موقع تشغيل الأغاني "كيو كيو ميوزيك" وهو من أكبر المواقع الموسيقية على شبكة الانترنت في البلاد. وأُزيلت الأغنية التي تدور حول تمرّد الباريسيين على حكّامهم الفاسدين من التسجيل الأصلي لطاقم ممثلي العرض المسرحي في لندن. كما اختفت من ألبوميّ الذكرى العاشرة والخامسة والعشرين للعرض الأصلي ومن الموسيقى التصويرية للفيلم المقتبس عن القصة الذي ظهر في عام 2012.
لا تحول لجان الرقابة في بكين بصرها عن هونغ كونغ حيث بدأت مسيرات المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في يونيو (حزيران) الماضي. نزلت الحشود إلى الشارع بدايةً تعبيراً عن غضبها إزاء مشروع قانون ترحيل المطلوبين للعدالة كان ليسمح للسلطات، في حال الموافقة عليه، باحتجاز الأفراد المطلوبين من جانب برّ الصين الرئيسي وترحيلهم من هونغ كونغ إلى هناك. يُشار إلى أن الاتفاق الذي أبرمته المملكة المتحدة مع الصين عام 1997 حول نقل السلطة على المستعمرة البريطانية السابقة إلى الصين، يُّلزم الحكومة الشيوعية بتطبيق سياسة "دولة واحدة ونظامين" تحتفظ هونغ كونغ بموجبها بدرجة عالية من الاستقلالية. وتتمتّع هذه المنطقة بنظامها القضائي الخاص كما أن لديها قوات شرطة خاصة بها أيضاً. لكن رئيستها التنفيذية كاري لام مؤيّدة لبيكين. لذلك، وخوفاً على حقوقهم، يطالب المتظاهرون برحيلها.
تواصلت طوال فصل الصيف مسيراتهم، التي كان بعضها سلميّاً لكن بعضها الآخر أخذ منحى عنيفاً وسط مزاعم بلجوء الشرطة إلى العنف والقمع. وجمعت الموسيقى بين كافة المسيرات، إذ رفعت الحشود صوتها بالغناء والانشاد فيما حملت المظلات التي تعتبر رمزاً للاحتجاج. ووصلت الأصوات التي تنشد "هل تسمع..." إلى شوارع المدينة وعمّت منطقة تسيم شا تسوي السياحية. وعندما استولى المتظاهرون على مطار هونغ كونغ في أغسطس (آب) تربّعوا على الأرض وأنشدوا هذه الأغنية أيضاً.
قد يستغرب محبّو المسرحية الغنائية اختيار هذه الأغنية تحديداً للتعبير عن الاحتجاج. فعلى خشبة المسرح، يعبّر نشيد "هل تسمع..." عن الغضب والأمل. ولكنّه أيضاً صرخة الخاسرين.
يستند العرض المسرحي إلى رواية فيكتور هوغو المستوحاة بدورها من انتفاضة العام 1832 في باريس، والمعروفة أيضاً بتمرّد يونيو، حين حاول 3000 متظاهراً إطاحة حكومة الملك لويس فيليب. واستولى المحتجون في البدء على موكب جنائزي لجنرال ذي شعبية واسعة. وفي هذا المشهد من المسرحية الغنائية تتصاعد أصوات الممثلين من كافة زوايا الخشبة وتصدح بنشيد "هل تسمع...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بسط الثوار سيطرتهم لليلةٍ واحدة على عددٍ من المناطق الباريسية حيث شيّدوا المتاريس وتعالت صيحاتهم مؤكّدة عزمهم على تناول العشاء في قصر التويلري الملكي. لكنّ لم تلبث قبضتهم أن تراخت في أقل من 48 ساعة إذ تدخّلت قوات الحرس الوطني لتضع حداً للانتفاضة. ولو لم يسلط الكتاب والعرض المسرحي الضوء على هؤلاء المحتجين لما تذكرهم أحد ربما باستثناء المؤرخين.
يقف كتاب هوغو إلى جانب الشعب العادي في باريس العصر التاسع عشر. وهو يعاين الفقر والبؤس الاجتماعي تمهيداً للانطلاق التمرّد الذي يعدّ ذروة القصة. ثمة نقاط ضعف في الكتاب، إذ يضطر القرّاء مثلاً إلى تحمّل استطرادات كثيرة من بينها وصف مسهب لنظام التصريف الصحي في باريس يمتدّ على عدد من الصفحات، قبل الوصول إلى مشهد المتاريس. نُشرت الرواية في عام 1862 وقوبلت بهجومٌ من النقّاد، لكنها أحرزت مبيعات كبيرة وكانت بالتالي ناجحة تجارياً لأنّها أثارت مشاعر الرأي العام.
كانت الرواية مصدر الإلهام بالنسبة للمغناة التي عُرضت بداية باللغة الفرنسية على خشبة قصر الرياضة في باريس في العام 1980. ثم ظهرت بعد خمس سنوات بنسخة إنجليزية أنتجها كاميرون ماكينتوش الذي دعا هربرت كريتزمر لتعديل كلمات الأغاني كي تتناسب والنسخة الجديدة.
كتب كريتزمر عن مهمّته في صحيفة "دايلي ميل" قائلاً "حملت الكلمات الأصلية للأغنية الفرنسية الأساسية تحذيراً من ‘إرادة الشعب‘. لكنني شعرت بأنه ضربٌ من الإثارة السياسية ولذا أعدت كتابة الكلمات كي أربط فكرة الحرية والديمقراطية بعنوان الأغنية نفسه.. ولكنني لم أتوقّع يوماً أن تتحول أغنية "هل تسمع غناء الشعب؟" إلى نشيد للمتظاهرين في كلّ مكان".
لو أخرجنا الكلمات التي كتبها كريتزمر من سياق المسرحية الموسيقية، لصارت الأغنية دعوة إلى الحرب، لأنها تقول "هل تسمع غناء الشعب؟ / يُنشد غضب الرجال/ هي موسيقى شعب/ لن يُستعبد ثانية، أبداً". وأُنشدت أول مرة كأغنية احتجاجية في عام 2013 بعد وقت قصير على إطلاق الفيلم المقتبس عن رواية البؤساء عالمياً. إذ أنشدها المحتجون الأتراك في يونيو من ذاك العام خلال مظاهرات منتزه غيزي. وغناها المحتجون في تايوان الذين نظموا مسيرات غاضبة إثر مقتل أحد الجنود في فصل الصيف ذاته. وقبيل نهاية العام ذاته، بدأت مظاهرات "ميدان" المناهضة للحكومة في أوكرانيا، حيث استولى قادة الحراك على الميدان الرئيسي في وسط العاصمة كييف فشيّدوا المتاريس هناك وارتفعت أصواتهم بالأغنية ذاتها.
لم يمرّ وقت طويل حتّى اندلعت المظاهرات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ أثناء سلسلة من الاعتصامات التي يُشار إليها أحياناً بـ"ثورة المظلّات". وانتشرت في ذلك الوقت مقاطع فيديو للمتظاهرين على وسائل التواصل الاجتماعي وهم ينشدون أغاني البؤساء. وكان المشهد مثالياً لإذكاء نقاشات مواطني الغرب على تويتر. فالأغنية معروفة ولحنها بسيط، ما يتيح لأيّ مغنٍّ متمكّن بشكل لا بأس به أن ينشدها. وتعبّر كلمات كريتزمر التي تتسم بشيء من العالمية عن الغضب حيال أولئك الذين يحتلون مواقع السلطة.
ترتبط الموسيقى الاحتجاجية عادةً بفترة ستينيات القرن الماضي ولا سيما بأغاني بوب ديلون والأغاني الشعبية المناهضة لحرب فييتنام. لكن ما زال موسيقيون معاصرون ممن ينتمون غالباً إلى فئتي "هيب هوب" و"ريثم أند بلوز" يقدمون أغاني الاحتجاج. وتجاوب فنانون مثل جاي كول ولورين هيل من خلال موسيقاهم مع مواضيع معاملة الأفريقيين الأميركيين وقمع الشرطة وانتخاب دونالد ترمب. لكن من النادر أن تتصدّر أية أغنية تحمل مواقف سياسية واضحة قوائم الأغاني عالمياً، ولذا ينأى الكثير من الموسيقيين بأنفسهم عن هذه الأغاني، فعليهم الحفاظ على مصدر رزقهم والتفكير بمعجبيهم ومموّليهم ومبيعات تذاكر جولاتهم الغنائية.
برز المسرح الموسيقي حيث عجزت موسيقى البوب. فمغناة "البؤساء" تدور حول آثار الفقر المدمّرة في وقت غريب عنا لدرجة أننا ما عدنا نرى السياسة في أغانيها. وما يجذب المشاهدين هو الحب والفكاهة ولكن تدور القصة في الرواية والمسرحية الغنائية حول الشباب المحكوم عليه بالموت والذي يقاتل رغم كل هذه الظروف من أجل عالمٍ أفضل. تموت العديد من شخصيات البؤساء في نهاية القصة ولكنها تعود لتجتمع في المشهد الأخير من أجل إنشاد "هل تسمع...". وهي أغنية ستتردد أصداؤها مرة تلو الأخرى كلّما يخذل الحكّام شعوبهم.
من جانبه، قال كريتزمر في هذا الإطار "عندما يسألني الناس عن سبب شعبية الأغنية المستمرّة، أجيبهم دائماً بأنني حاولت قول الحقيقة عن أحد المواضيع الرئيسية في كل زمان ومكان: وهو الظلم الذي يستطيع تحويل البشرية برجالها ونسائها إلى عبيد ويُشعل مشاعر الغضب والذلّ ويحطّم الإنسان من الداخل.. ولكنها تنتهي بعبارة ‘عندما يبزغ فجر الغد لأنني أؤمن حقّاً بأن الأمل عصيّ على الموت".
وأضاف "هل تسمعون صوت الشعب في هونغ كونغ؟ هم يقفون دفاعاً عن حقوقهم. الآن وقد بلغت الثالثة والتسعين من العمر، لا أقوى إلا أن أكون معهم في الروح. ولكن شفاههم تصدح بكلماتي وأنا أشاركهم الغناء أيضاً".
© The Independent