في روايته الأخيرة "أصدقائي" التي انتظرها القراء لمدة 13 عاماً، يفتح هشام مطر سلسلة من الأبواب الأدبية في عمل كامن في قلب روح ليبية تائهة بين الأوطان، يأخذنا في رحلة فريدة من نوعها عبر الزمان والمكان، ويقدم صورة متأملة ومؤثرة لمعنى اللجوء والصداقة في ظل الهجرة والتحولات السياسية والثقافية.
يبدع مطر في تقديم تجربة مليئة بالعواطف والتشويق والتفاصيل التاريخية، تربط بين لحظات مصيرية في حياة شخصيات روايته ومنعطفات فارقة في السياسة الليبية، وينقلنا إلى أرض جديدة تماماً، إلى عالم مشبع بالعواطف والتفاصيل التاريخية، حيث يمتزج الخيال بالواقع بسلاسة نادرة.
خالد وصديقاه... حكاية اللجوء والصداقة
تجسد الرواية الصراع الليبي من خلال شخصية خالد، الشاب الذي يترك وطنه في عام 1983 للدراسة في اسكتلندا، لكنه يجد نفسه في العام التالي أمام السفارة الليبية في سانت جيمس سكوير في لندن، مشاركاً في احتجاج ضد نظام القذافي مع صديقه مصطفى.
كان الشابان من بين المتظاهرين الذين أصيبوا بإطلاق نار من قبل مسؤولي السفارة، ومن هذه اللحظة المأسوية يبدأ التحول في حياته، ويبرع مطر في تصوير التأثير العميق لهذا الحدث الكارثي على مسار حياة شخصياته، إذ يصبح اللجوء مصيرها المحتوم، ويعلم خالد على الفور أنه لن يستطيع العودة لليبيا ما دام القذافي في السلطة.
بعد تلقيهما العلاج لأسابيع عدة في المستشفى في غرفة تراقبها الشرطة، يتعافى الشابان، لكن عدم تأكد خالد مما إذا كانت التقطت له صور أثناء الاحتجاج أو ما إذا كانت هناك مصادر في المستشفى متعاونة مع قوات الأمن الليبية، يولد لديه شكوكاً بأنه قد يكون مستهدفاً.
يظهر خالد كشخص يواجه صراعات الهجرة، حين يحصل على اللجوء السياسي ويجد نفسه يشق طريقه في بناء حياة جديدة في لندن تستمر لمدة 32 عاماً، لعدم معرفته ما إذا كان بإمكانه العودة لوطنه. تزداد مخاوف خالد إذ لا يعرف ما إذا كانت عائلته على دراية بما حدث، وليقينه أن رسائله ومكالماته الهاتفية تخضع للمراقبة، مما يعني أنه لا يستطيع حتى شرح سبب عدم عودته.
تتناول الرواية بصورة كبيرة علاقة خالد العميقة والمتوترة أحياناً مع مصطفى وحسام، كاتب يظهر في افتتاحية الرواية تتناول قصصه النظام الليبي بشكل رمزي، وقد تعرف إليه خالد في الطفولة عندما تتم قراءة إحدى قصصه بدلاً من نشرة الأخبار على راديو "بي بي سي" عربي.
وعلى رغم أن قائمة الأصدقاء تشمل أيضاً رنا وسعد، فإن التركيز يكون على الثلاثي خالد وحسام ومصطفى، ويعد استعراض مطر العلاقة والبعد بين هؤلاء الثلاثة دراسة دقيقة للصداقة بين المنفيين، والطرق المتداخلة بدقة التي تتشابك فيها نفوس الأصدقاء والألم الناتج من فشلها.
على رغم عذاباته بسبب ابتعاده عن عائلته يعتمد خالد على أصدقائه للاستمرار. يقول "أصدقاء، يا لها من كلمة رائعة، يستخدمها معظم الناس بشكل عشوائي لوصف أشخاص بالكاد يعرفونهم، في حين أنها توصيف لشيء رائع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتجلى قوة القرارات والتحولات الشخصية في وجه التحديات، وتفتح الرواية نوافذ لاستكشاف تأثير الهجرة في الهوية الفردية والانتماء.
يتألق مطر في سرد تفاصيل الحادثة التي تقلب حياة أبطالها رأساً على عقب، وتضعهم على مفترق طرق مصيري، وفي وصف الحقيقة القاسية للهجرة والخوف من العودة، التي تترسخ في حياة خالد، إذ يظهر خيار اللجوء والبعد من الوطن بألوانهما الزاهية في روح الرواية، مع التركيز على تأثير هذا القرار في الهوية والانتماء.
تفتح "أصدقائي" آفاقاً جديدة لفهم التأثير الهائل للهجرة في الهوية الفردية، وكيف يمكن لحادثة واحدة أن تجبر المرء على تغيير مجرى حياته بشكل لا رجعة فيه، وكيف يدرك الشبان الثلاثة بمرور الوقت أنهم غير قادرين على تكوين عائلات سعيدة، لأن كل شيء في حياتهم موقت، فالارتباط بالحب سيعني الارتباط بالهجرة.
صحيح أن "أصدقائي" هو كتاب حول الهجرة والعنف والحزن، ولكنه قبل كل شيء، وكما يتضح من العنوان، دراسة في الصداقة. يحب خالد صديقيه الاثنين، لكنهما لا يروقان له دائماً، يرصد منافساتهما ويتألم عندما يستبعدانه. في كثير من الأحيان يظهر كشخصية مغرورة، لكن صراحته في التفكير عندما يتذكر ما يعنيه له هذان الصديقان تمنح هذا الكتاب الهادئ قوة مؤثرة وملحوظة.
أسلوب سردي متفرد وتلاعب بالزمان والمكان
تبدأ الرواية من نهايتها عندما يتفرق حسام وخالد اللذان أصبحا في منتصف العمر، فيتوجه الأول للعيش في كاليفورنيا، بينما يكون مصطفى في ليبيا مع الميليشيات. يرافق خالد، الذي يقوم بمهمة الراوي، حسام إلى القطار ويودعه في محطة سانت بانكراس.
يتلاعب مطر ببراعة بالزمان والمكان، فيروي القصة بشكل غير تسلسلي، فينتقل بين الحاضر والماضي مضيفاً عمقاً غير مألوف للقصة ومانحاً القارئ تجربة فريدة. يظهر الكاتب تأثير التكنولوجيا في الاتصالات في حياة الشخصيات، التي تجد نفسها غارقة في شبكة الرصد والمراقبة الليبية. يجسد مطر هذا الجانب ببراعة، مظهراً الأثر الطويل الأمد والمقلق للظروف السياسية على الحياة الشخصية وكيف تتشابك تحولات الهجرة والثورة.
تكمن قوة لغة الرواية في بساطتها، إذ تتحدث مثلاً عن فكرة بناء منزل جديد في مكان يعني لك كثيراً، لكنك لا تستطيع مغادرته أبداً. لا يتعمق السرد كثيراً في الأماكن والأحداث التاريخية الحقيقية. وعلى رغم أن مسقط رأس خالد، بنغازي، مرتبطة في أذهان الغربيين بالأحداث السياسية الحديثة، فإن مطر يبدو وكأنه يحاول إعادة الحياة لهذه المدينة والرجوع بها زمنياً لتكون وطناً ينتمي إليه بطله.
يتجلى طموح "أصدقائي" في فصولها الافتتاحية التي تنتقل بين الماضي والحاضر وتعريف القارئ على شخصية لا تظهر مجدداً إلا بعد منتصف الرواية تقريباً. يبدأ سرد الأحداث من عام 2016 في لندن على لسان خالد الذي نشأ تحت حكم معمر القذافي، حيث كانت النيران تطلق على الصحافيين في الشوارع أو يتعرضون للتعذيب. فر كثر منهم إلى لندن التي كانت "على نحو ما المكان الذي يأتي إليه الكتاب العرب ليموتوا".
إبقاء شخصية محورية خلف الستار لفترة طويلة يتطلب جرأة كبيرة من الكاتب، لكن اللقاء الدراماتيكي غير المتوقع الذي يجمع بين حسام وخالد في منتصف الكتاب في باريس عام 1995 كان يستحق الانتظار.
كان تقسيم الرواية إلى 108 فصول شديدة القصر تقنية ذكية، تتجلى في إثارة فضول القارئ وتحفيزه على الاستمرار في قراءة القصة. يخلق هذا التقسيم الدقيق إيقاعاً فريداً يجعل القارئ يشعر بسهولة في متابعة الأحداث، وفي الوقت نفسه يبقيه في حالة توتر وتشوق لمعرفة ما سيحدث في الفصل التالي.
وتمكن الفصول القصيرة القارئ من تجربة تقدم القصة بصورة سريعة ومثيرة، مما يحافظ على اهتمامه ويشد انتباهه، كما أن الاستخدام الفعال لهذا التقسيم يسهم في إضفاء طابع درامي ومثير على الرواية، ويبرز براعة الكاتب في التحكم بإيقاع الأحداث وتوجيه انتباه القارئ بصورة فعالة، مما يخلق تجربة قراءة ممتعة ومثيرة.
يتباين إيقاع الأحداث على امتداد صفحات الرواية الـ456 ويتباطأ لدرجة التوقف أحياناً ليبرز لحظات التجربة المكثفة، ثم يتسارع ليسمح بمرور الزمن ليظهر أحداث الزواج والولادات والوفيات في ومضات قصيرة. هناك تفاصيل كثيرة شديدة الواقعية لمكالمات هاتفية ورسائل وأحاديث تجرى أثناء المشي في الشوارع أو تناول الوجبات، لكن النسيج السردي يتلون ليشمل الأحلام والرؤى وكتابات حسام الخيالية.
التوازن بين الخيال والدقة التاريخية
تحقق رواية "أصدقائي" توازناً مثالياً بين الأحداث الخيالية والتفاصيل التاريخية. يقدم مطر رؤية فريدة للثورات العربية، ويستكشف تأثيراتها في حياة الشخصيات الرئيسة، ويدمج بحرفية الأحداث التاريخية، بخاصة خلال انطلاق الربيع العربي، إذ يتعين على خالد وأصدقائه اتخاذ قرارات حاسمة تعكس رهانات الثورة والتأثير العميق للتحولات السياسية في مسارات الحياة الشخصية.
تضفي الأماكن والأحداث الواقعية في رواية "أصدقائي" بعداً جديداً على تفاصيل حياة الرجال الثلاثة الذين يعيشون في لندن بعيدين من وطنهم. الثالث في هذه المجموعة وأكبرهم سناً هو الكاتب حسام.
وتقرأ إحدى قصصه التي تروج بشكل رمزي لتحدي نظام القذافي والتمرد عليه، عبر أثير إذاعة "بي بي سي" العربية بصوت المذيع الليبي محمد مصطفى رمضان. بعد وقت قصير يتعرض المذيع للاغتيال بعد خروجه من صلاة الجمعة في مسجد ريجينتس بارك في لندن، هذا الاغتيال، كما كان إطلاق النار على السفارة، حدثاً في الواقع. يدخل مطر شخصياته الخيالية إلى لوحات تاريخية، مما يمنح تلك الأحداث العامة واقعية تجربة شخصية.
إعادة القارئ إلى حادثة الاحتجاج الحقيقية في لندن واغتيال محمد مصطفى رمضان تضفيان طابعاً واقعياً قوياً على الرواية يدفع القارئ إلى التأمل في عواقب مثل هذه الأحداث من خلال رحلة خالد الذي يواجه تداعياتها لعقود من الزمن.
الصداقة على المحك... دراسة عميقة في العلاقات الإنسانية
يقدم مطر دراسة دقيقة ومتعمقة في ديناميات علاقات الصداقة، ويظهر كيف تتأثر الصداقات بالبعد والتغييرات السياسية، وكيف يتشابك الانتماء بالهوية في سياق الهجرة، ويرسم بشفافية العلاقات الإنسانية وتداخل العواطف والتحديات التي يواجهها الأصدقاء في ظل ظروف الحياة في المهجر، ويتأمل في تأثير البعد الجغرافي ومرور الزمن على هذه العلاقات.
لا بد من الإشارة إلى أن حياة الكاتب، الحائز جائزة بوليتزر عام 2017 عن كتابه "العودة" نفسها قد تعرضت لاضطراب قاس على يد هذا التيار، إذ غادرت عائلته ليبيا في عام 1979، وتعرض والده الذي كان مناهضاً بارزاً لنظام القذافي للاختطاف وتسليمه إلى قوات النظام واختفاء أثره في النهاية. انتقل مطر إلى لندن في فترة قريبة من انتقال خالد بطل الرواية إليها. وصفت أعماله السابقة المشهود لها زج والده في السجون الديكتاتورية للعقيد معمر القذافي، والبحث لعقود عن مصيره.
كانت محتويات تلك الكتب صادمة، ولكن أسلوبها كان هادئاً، مما جعلها أكثر فاعلية في مواجهة القسوة ليس بلغة غاضبة بل مؤثرة. تتمتع "أصدقائي" بنفس الحس الرقيق والعاطفي ولكن العقلاني والجريء.
تستعرض الرواية تشكل صداقة هؤلاء الشبان الثلاثة وابتعادهم، واجتماعهم مرة أخرى ثم تفرقهم إلى الأبد، ونتعرف حتى إلى طفولتهم، لكن السرد الرئيس يبدأ من حادثة عام 1984 أمام السفارة الليبية.
بعد اندلاع ما سمي "الربيع العربي"، يتعين على خالد أن يقرر - كما كان على هشام مطر نفسه - ما إذا كان سيعود إلى ليبيا. يواجه مصطفى وحسام الحيرة نفسها. يحسب للرواية قدرتها على جعل قراراتهم المتباينة معقولة، على رغم أثرها المؤلم. عندما تختبر اللحظة الثورية هؤلاء الأصدقاء، كانت استجاباتهم غير متوقعة.
يصبح مصطفى، وكيل العقارات الأنيق والساخر، محارباً بينما يغرم حسام مرة أخرى بالوطن والشعر العربي، أما خالد، المعلم المتواضع، فيتخذ القرار الذي قد يكون الأشجع، فيقدم على قبول الحياة المتواضعة التي خلقها لنفسه في لندن.
"أصدقائي" ليست مجرد رواية، بل تحفة أدبية تتناول القضايا الإنسانية بعمق، وتترك القارئ مغموراً في عوالم متشابكة من الصداقة والهجرة والثورات. يعتبر هذا الإصدار إضافة مميزة إلى رصيد مطر، وتأكيداً لتفوقه في استكشاف التجارب الإنسانية بأسلوبه الرائع والفريد ومهاراته الاستثنائية في تجسيد روح اللجوء والتأرجح بين العواطف والتحولات التاريخية والتغيرات الجذرية. إنها كتاب يسرد بحرفية متقنة قصة الإنسان في مواجهة الاضطرابات والبحث عن الهوية في ظل الثورات والهجرة ورؤية عميقة ومؤثرة في عوالم ليبيا المعاصرة، مانحة القارئ تجربة فريدة وعميقة أشبه بمغامرة أدبية تترك فيه أثراً لا ينسى.
وكما يرد على لسان محمد مصطفى رمضان في الرواية "في بعض الأحيان، يكون العمل الخيالي ذا صلة أكثر من الحقائق".