في معرضها الذي يستضيفه غاليري بيكاسو للفنون في القاهرة، تزرع الرسامة سعاد مردم بك أزهاراً معدنية في برميل عليه ثقوب تشبه أثر الطلقات النارية. يجمع المشهد بين جمال الأزهار وقسوة ملمسها الخشن، وتحيلنا آثار الطلقات النارية المصطنعة على ما يمكن أن تسببه الحرب من خراب. على الحائط ثمة نص مقتضب إلى جوار التجهيز يلخص أسطورة فينوس وأدونيس اللذين يرتبطان في الميثولوجيا الإغريقية بالحزن والبهجة: حزن فينوس على حبيبها أدونيس، وبهجة الأزهار النابتة على أثر دموعها.
يستقبل هذا التجهيز زائر المعرض، ويهيئه للعبور إلى هذا العالم الساحر المليء بالمتناقضات، هذا العالم الذي تشكله الفنانة سعاد مردم بك بمزيج من الشغف والتأمل والوحشة. يقام المعرض تحت عنوان "وردة المنطقة العازلة" وهو عنوان يحمل معاني متعددة، ويتيح لصاحبته بحراً من المفردات والعناصر والأفكار.
تفرد الفنانة سعاد مردم بك في أعمالها دائماً مساحة رحبة للتأمل والبحث حول عديد من السرديات التي شكلت وعينا المعاصر، من الرموز والعلامات إلى الحكايات الخرافية والأحداث والحقائق التاريخية. تأتي الفنانة بعناصر أعمالها تلك من وقائع التاريخ المدونة، أو حتى من وحي الحكايات والأمثال الشعبية، ومن قصائد الشعراء أحياناً، ثم تغزل الفنانة كل ذلك بمهارة في سياق بصري مميز مع شخصيات لوحاتها، هذه الشخصيات التي تستدعيها في الغالب من وحي خيالها الطفولي.
في لوحات الفنانة سعاد مردم بك تتحرك هذه العناصر والشخصيات في محيط لوني محايد، عالقة بين المعالجات الرصينة والميل إلى المبالغة الساخرة. في أعمالها يمتزج عديد من العناصر والعلامات، التي تستدعيها الفنانة من وحي قريحتها المنفتحة على الثقافات البشرية كافة. نجد هنا علامات ورموزاً من الشرق والغرب وأساليب بناء مختلفة، تشكل جميعها هذا النسق المميز لأعمال مردم بك.
إن تأثير الصورة المعاصرة وتنوعها المربك يبدوان واضحين في كل هذا الثراء الذي تتمتع به أعمال الفنانة سعاد مردم بك، وهو ما ينعكس كذلك على سخاء التفاصيل والملامح. تطالعنا هنا مثلاً لمحة من المعالجات الكلاسيكية للعناصر والأجساد، مع استعراض واضح للبراعة في الرسم، ويتجاور ذلك مع رغبة في التجريد والميل نحو الاختزال. تشتبك هذه المعالجات أيضاً مع لمحة طفولية مسيطرة من تأثير رسوم "الأنمي" تجمع بين الخفة والرصانة في الوقت نفسه مع ميل فطري إلى اللعب والتفكيك وإعادة البناء.
لا تخفي سعاد مردم بك الطبيعة الرمزية لأعمالها، بل تؤكدها وتسعى إلى إبرازها، فدائماً ما تحمل تجاربها رسالة ما أو اشتباكاً مع الواقع والأحداث من حولها. غير أن الفنانة لا تستغرق طويلاً في هذا المسار، إذ يظل الرسم هو محور اهتمامها، والبحث عن حلول بصرية جديدة هو شاغلها الأول. سعاد مردم بك فنانة مولعة بالتجريب، ومهمومة باكتشاف أبعاد مختلفة لملمس الأسطح التي ترسم عليها. ولهذا تتخذ الأشكال في أعمالها منعطفاً مغايراً، يتجاوز التأثيرات المحلية ليحلق في فضاء إنساني أرحب وأكثر تنوعاً وشمولاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"وردة المنطقة العازلة"، هو وصف أطلقه الجنود خلال الحرب العالمية الأولى على الممرضات اللاتي غامرن بحياتهن لإنقاذ المصابين في الصفوف الأمامية من القتال. أنقذت شجاعة هؤلاء الممرضات آلاف الأرواح من الموت المحقق خلال الحرب، وجرت التسمية في ما بعد، كرمز للتضحية وإيثار الذات. هذا المعنى هو محور الأعمال التي تقدمها الفنانة سعاد مردم بك تحت العنوان نفسه "وردة المنطقة العازلة"، الذي تجمع فيه بين النقيضين: الحب والكراهية، والقسوة والعذوبة، والجمال والقبح.
سعاد مردم بك فنانة سورية ولدت في دمشق وأقامت سنوات في العاصمة اللبنانية حيث درست الفلسفة، وهي تعيش وتعمل في القاهرة بصورة دائمة منذ عام 2000. أقامت الفنانة عديداً من المعارض الفردية لأعمالها في مدن عدة، من بينها دمشق وبيروت والكويت والقاهرة وباريس وواشنطن ومونتريال، وشاركت كذلك في كثير من المعارض الجماعية حول العالم. تتميز أعمال سعاد مردم بك بنسق لوني خاص يمزج بين درجات اللون الصريحة والمحايدة.