Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأزمة الاقتصادية تعيد الاعتبار لـ"كراكيب" المصريين

مراجعات جديدة لعقيدة التخلص من المهملات في ضوء تدهور الأحوال المعيشية للجميع

الظروف الاقتصادية أعادت للأشياء القديمة المخزنة في البلكونة بريقها (اندبندنت عربية)

ملخص

بعد أن كان يميل المصريون إلى التخلص من الكراكيب أولاً بأول أصبحت أخيراً ذات قيمة في مواجهة الغلاء والفقر وتدني المعيشة... إليكم القصة

يسأل البعض متعجباً عن العلاقة بين "كراكيب" الشرفات والحمولة الزائدة في خزانات الملابس وصناديق أحذية إميلدا ماركوس (سيدة الفيليبين الأولى التي اكتنزت 3 آلاف زوج أحذية) العاجزة عن استيعاب مزيد بالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني آثارها الملايين.

لكن العلاقة وثيقة والصلة أكيدة في مصر، فارتفاع التضخم وعجز الموازنة ونقص الاحتياطي من العملات الأجنبية وتدني قيمة العملة المحلية وضبابية المستقبل وشبح البطالة الذي يلوح في الأفق جميعها يصب في مصلحة تلال الكراكيب المتراكمة على مدار سنوات في الشرفات وتحت السرير وفوق الأسطح وتحت السلم وفي شقة ابنة الخالة التي هاجرت إلى كندا ومخزن ابن العم الذي رحل من دون وريث.

عنصر وراثي

العنصر الوراثي في منظومة الكراكيب لا ينكره أحد، وكون أن القليل فقط هم من يلاحظون أن الاكتناز القهري تتوارثه الأجيال لا يعني أن المسألة ليست وراثية، فدراسة بريطانية أجراها باحثون في "كينغز كولدج" عام 2009 أظهرت أن الأشخاص ممن لديهم رغبة قهرية في جمع الأشياء والاحتفاظ بالمتعلقات التي لا يستخدمونها ربما ورثوا هذا الاكتناز القهري عن الأهل، سواء بسبب الجينات أو اكتسبوها بسبب النشأة في بيت مليء بتلال المتعلقات غير المستخدمة.

حديث "الكراكيب" قديم قدم الكراكيب كلاسيكياً، إذ ينقسم الناس فريقين، الأول يدعو إلى التخلص منها أولاً بأول لأن ما لم يُستخدم على مدار عام أو عامين، لن يُستخدم على الأرجح حتى نهاية العمر، والثاني يرفع دائماً رأيه "ربما"، إذ ربما يرتدي الحذاء الذي اشتراه في فرحه قبل عقدين، أو ربما تفقد 20 كيلوغراماً التي اكتسبتها وترتدي فستان المراهقة، أو ربما تعود موضة البنطلونات الـ"شرلستون" يوماً ما.

في السنوات القليلة الماضية، وهي سنوات عدم اليقين الاقتصادي المصحوبة بسلاسل من المصاعب المادية والمعضلات التمويلية في أغلب البيوت وأماكن العمل وموازنات الدول، تطورت "كراكيب" البيوت كثيراً، وحدث حراك لا تخطئه عين في عقيدة الاكتناز.

فمن كان يتخلص من الكراكيب أولاً بأول صار يفكر مرة ومرتين، ويعيد جرد المحتويات مراراً وتكراراً قبل اتخاذ قرار التخلص الذي بات صعباً، ومن كان يبقي على ملابس السبعينيات انتظاراً لعودة موضتها، وتلك التي حالت بينه وبينها طبقات الشحوم والدهون التي تراكمت على جسده بفعل الزمن، ومن كان يحتفظ بالغسالات المكسورة والمواقد المهشمة والغلايات المهلهلة لتكون قطاع غيار مستقبلية أو أصائص زهور أو شيئاً لا يعلمه إلا الله، أصبح أكثر تمسكاً بكراكيبه وتعلقاً بفرصها المستقبلية بحجة ودافع الأزمة الاقتصادية وضبابية مستقبلها.

مستقبل كراكيب البيوت

مستقبل كراكيب البيوت، لا سيما في الدول المتعثرة اقتصادياً يعاد تشكيله، وما كان يتم تجهيزه وإرساله لجمعيات خيرية أو التبرع به للأقل حظاً والأكثر احتياجاً يتعرض اليوم لنقص حاد في سلاسل الإمداد.

عدد من مسؤولي منظمات خيرية في مصر دأبوا على التحذير من آثار الأوضاع الاقتصادية الصعبة على عمل هذه المؤسسات التي تعتمد على التبرعات المادية والعينية، فإضافة إلى مؤسسات علاجية خيرية كبرى مثل مستشفيات علاج السرطان القائمة على التبرعات، والتي تأثر العمل فيها سلباً بسبب نقص التبرعات، فإن جمعيات أخرى تعتمد على تبرعات الملابس والأجهزة المستعملة انخفضت كذلك.

وعلى رغم عدم وجود إحصاءات توضح الفرق بين تبرعات ما قبل احتدام الأزمة وما بعدها، فإن العاملين في كثير من هذه المؤسسات الخيرية يتحدثون عن انخفاض واضح في التبرعات لا سيما العينية.

خبراء الاقتصاد يؤكدون أن العلاقة بين مؤشرات الاقتصاد في دولة ما ومعدل التبرعات، سواء المادية أو العينية، يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في الولايات المتحدة الأميركية، وبحسب أرقام وإحصاءات صادرة عن مؤسسة "غيفينغ يو أس فاوندايشين" الخيرية وكلية عائلة ليلي للعمل الخيري في جامعة إنديانا 2018، فقد زاد متوسط التبرع والعطاء بنسبة 4.7 في المئة خلال سنوات النمو الاقتصادي، وانخفض بنسبة نصف في المئة خلال فترات الركود الاقتصادي، ومثلت فترة "الركود الكبير" نموذجاً مفرطاً في الأثر، فقد انخفض إجمالي التبرعات بنسبة 7.2 في المئة عام 2008، ثم انخفض بنسبة ثمانية في المئة أخرى سنة 2009.

علاقة الدخل بالتبرع

هناك علاقة قوية ومنطقية بين مقدار المال الذي يتبرع به المتبرعون ودخلهم بعد خصم الضرائب، الناس يميلون إلى زيادة التبرع كلما كان لديهم قدر أكبر من المال الإضافي.

هناك علاقة قوية بين مقدار الأموال التي يقدمها الأميركيون للأعمال الخيرية ودخلهم بعد خصم الضرائب، وهناك علاقة مماثلة بين العطاء وأداء سوق الأوراق المالية، وهذا يعني أن الناس يتبرعون أكثر عندما يشعرون أن لديهم قدراً أكبر من المال المتاح للتوفير.

وهذه ليست سمة أميركية بل بشرية، لكن الثقافة والعادات والتقاليد تؤثر على منظومة التبرعات، وفي مصر على سبيل المثال، وعلى رغم الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة التي أثرت سلباً على قيمة التبرعات بشكل عام، فإن حرب غزة دفعت كثيرين إلى ترشيد إنفاقهم الأساسي من أجل التبرع ولو بالقليل لغزة وأهلها، وذلك لأسباب إنسانية ونفسية عديدة، لكن تظل منظومة التبرعات العينية، التي تعد إحدى أبرز قنوات التخلص من كراكيب البيوت خارج الحسابات الإنسانية للحرب والنفسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

غزة استثناء

تمارا هاشم "طالبة جامعية تبلغ 22 سنة" تقول إنها تتبرع بما يتبقى لديها من مصروف شهري لصالح غزة. وتضيف أنها لا تكتفي بما يتبقى لديها، بل تعمل على ضغط نفقاتها من أجل التبرع بمبالغ أكبر، في المقابل فإنها غيَّرت كثيراً من نمط التبرع بملابسها التي لم تعد ترتديها، وبدلاً من جرد محتويات خزانة الملابس في مطلع كل شتاء وصيف، والتبرع بالملابس التي لم تعد موضتها سارية، أو تلك التي لا تحب ارتداءها، أصبحت تخزنها في حقيبة أو صندوق وتضعه أسفل الفراش أو أعلى الخزانة "إذ ربما تغير موقفها منها مستقبلاً" أو يزداد تدهور الأوضاع الاقتصادية وتضطر إلى ارتداء ما لم تكن ترتديه لتعذر شراء الجديد.

الجديد في مراجعات عقيدة التخلص من الكراكيب الحالية وفي ضوء تدهور الأحوال المعيشية للجميع، وبشكل أكثر وضوحاً وقسوة للطبقة المتوسطة وما تحتها، هو أن محلات إصلاح الأجهزة الكهربائية تشهد انتعاشاً غير مسبوق.

انتعاش في الإصلاح

هذا الانتعاش لا يتمثل فقط في كمية الأجهزة التي ترد إلى المحلات بغرض إصلاحها، ولكن في حجم الإصلاحات المطلوبة وكذلك نوعية الطبقات والفئات التي قلما كانت تلجأ إلى الإصلاح.

في ميدان الجامع التجاري في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة)، يقف رجل ستيني أنيق أمام محل إصلاح الأدوات الكهربائية متناهي الصغر، ينظر خلفه كل أربع دقائق ليتأكد أن سيارته الفارهة لم تتعرض لاحتكاك أو يقفز عليها الأولاد، يحمل بين يديه ماكينة تحضير القهوة بكبسولات، تلك الماكينة التي تسللت إلى كل بيت ينتمي أهله إلى الطبقات المخملية أو شبه المخملية، يسلم الرجل الماكينة لمتخصص الإصلاح وهو يخبره بحسرة شديدة أن الماكينة لم تعد تعمل، وأن سعرها تضاعف أربع مرات في السوق، وعليه أن يصلحها بأي وسيلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدت نبرة الرجل أقرب إلى المناشدة مع عدم الإفصاح عن قائمة الأوجاع، الدولار في السوق السوداء اقترب على كسر حاجز الـ60 جنيهاً مصرياً، الاستيراد شبه متوقف، والحصول على ماكينة جديدة شبه مستحيل، بينما التخلي عن عادة شرب القهوة بكبسولة هو مسمار إضافي في نعش الطبقة فوق المتوسطة التي تقترب بثقة من نصف الهرم الطبقي الأسفل، ينظر إليه المتخصص ويقول بثقة الخبير "مفهوم مفهوم"، وبعد أن يرحل الرجل، يقول الخبير لزميله "آه يا زمن، مثل هذا الرجل كان سيلقي بهذه الماكينة في أقرب سلة قمامة، ويطلب أخرى بدقة زر عبر الإنترنت، اليوم، يتعامل معها وكأنها أعز ما يملك".

قائمة "أعز ما نملك" هواة الكراكيب ومرضى الاكتناز القهري آخذة في التمدد، وكلما خرج وزير أو مسؤول بتصريح مبهم حول طبيعة الأزمة أو تأكيد ضبابي يحدد سنة التعافي بأنها 2025 أو 2030 أو 2035 أو إلقاء تهمة التدهور والتعثر على مقيمين غير مصريين أو فاسدين غير وطنيين أو عوامل خارجية أو أسباب تاريخية، تمددت قوائم "أعز ما نملك".

شرفة بلا معالم

الشرفة التي ضاعت معالمها تماماً تحت وطأة بقايا مكانس ومكاوي وغلايات كهربائية وأبواب برادات، وكذلك حوامل تكييفات وأطلال أشياء فقدت معالمها بسبب عوامل التعرية لم تعد مثار شد وجذب بين الزوجين، حيث كانت الزوجة تطالب بالتخلص من حمولة "البلكونة" فوراً، في حين يطالب الزوج بمهلة تتيح له جرد المحتويات قبل الاتصال بـ"بتاع الروبابيكيا" (التاجر الجوال الذي يحمل الكراكيب في مقابل جنيهات قليلة ثم يعيد تدويرها أو بيعها لمن يهمه أمرها).

مصير الشرفة البقاء على ما هي عليه لحين إشعار آخر يتمثل في انخفاض سعر الصرف أو ارتفاع قيمة الجنيه أو الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الذي تبدو علاقته بكراكيب المصريين هزلية أو مفتعلة، لكنها ليست كذلك، فالقروض التي تزعج قطاعاً عريضاً من المصريين، وتعكس وتعني تدهوراً في أداء الاقتصاد وتعثراً في الحلول البديلة، تصب مباشرة في مصلحة بقاء الكراكيب بأنواعها.

بقاء الكراكيب وتحديداً الملابس في بيت حنان وزوجها لطالما كان سبباً في الخلافات الموسمية والمناقشات الملتهبة، ولأن الزوج طبيب نفسي، فقد ظل يحاول إقناعها بأن تمسكها بملابسها وقت كانت في المرحلة الإعدادية ومفروشات البيت التي كانت ضمن "الجهاز" (مستلزمات بيت الزوجية الجديد) قبل ما يزيد على أربعة عقود هو نوع من الإدمان، وأن عليها أن تعالج نفسها بصدمة التبرع بها.

تعلق وإدمان وأمان

في الأشهر القليلة الماضية، زاد تعلق وتمسك حنان بكراكيبها، لكن تفسير زوجها وتشخيصه للحالة تحول من إدمان علاجه الصدمة إلى هلع علاجه الإبقاء على الأشياء، وأضيف مكون مفاجئ، ألا وهو تعلق الزوج نفسه بالكراكيب "إذ ربما يمكن إعادة استخدام الملابس أو تدويرها، وكذلك أغطية الفراش وشراشف الحمام، فجميعها يظل صالحاً للاستخدام، باستثناء ما أكلته الفئران.

في مقال عنوانه "إدمان الكراكيب". تقول استشارية علم النفس مارغريت بول، إن خلف كل أنواع الإدمان يقبع خوف من الألم، ألم الفراغ أو قلة الحيلة أو الوحدة أو الحسرة، وأن إدمان الكراكيب ليس استثناءً، وتشير إلى أن الأمر يتعلق بحاجة الشخص للشعور بأن الأمان في متناول يده، إدمان اكتناز الكراكيب يمد الشخص بشعور موقت بالراحلة والاطمئنان، وبمرور الوقت، وكما هي الحال في أي إدمان، يحتاج الشخص إلى اكتناز مزيد من الكراكيب حتى يحافظ على معدل الأمان "الكاذب" مرتفعاً.

أزمات اقتصادية وبحث عن الأمان

الشعور بافتقاد الأمان في ظل الأزمات الاقتصادية لا يعبر عن نفسه فقط عبر القلق والتوتر والعصبية، لكن هناك من بات أكثر تعلقاً بأشيائه المكتنزة عبر سنوات تصل إلى عقود، لا لشيء إلا لأنها تعطيه شعوراً بأن لديه ما يرتكن إليه من احتياجات حال زادت الأوضاع تدهوراً.

تدهور حال الأسر المنتمية للطبقة المتوسطة ليس ملحوظاً بالعين المجردة، تحتفظ الأسر بمساكنها ومدارس أبنائها وسياراتها والنوادي الرياضية التي تتردد عليها، لكن بينها من بات أكثر تردداً قبل التخلص من الكراكيب.

وإضافة إلى اتساع مساحة احتمالات عودة موضة قديمة أو فقدان وزن زائد أو الاستعانة بقطعة غيار ناقصة، هناك من حول الكراكيب من خانة التبرع للجمعيات الخيرية إلى صفحات بيع المتعلقات المستعملة في مقابل مبالغ مادية، ولو كانت زهيدة.

انتعاش أسواق "المستعمل"

هناك انتعاشة كبيرة لا في أسواق الملابس والأجهزة المستعملة فقط، ولكن في صفحات عنكبوتية مخصصة لعرض وبيع وشراء الأثاث والأجهزة والملابس المستعملة، كميات المعروضات باتت كبيرة جداً، وكذلك حركة الشراء تظهر انتعاشة يفسرها البعض بأنها نتيجة لانصراف كثيرين عن شراء السلع الجديدة والاستعانة بالمستعمل، في الوقت نفسه، تشهد معدلات التبرع بالملابس والأثاث المستعمل للجمعيات الخيرية لصالح طلاب الجامعات والأسر الأكثر احتياجاً وملاجئ الأيتام ودور كبار السن وغيرها انخفاضاً واضحاً.

وعلى رغم استمرار الحملات الإعلانية التي تناشد أصحاب القلوب الرحيمة والنوايا الكريمة الاستمرار في التبرع بما يزيد على احتياجاتهم لصالح الأسر الأقل حظاً، فإن واقع الحال في دول شهدت أزمات اقتصادية سابقة يشير إلى أن التبرع يبدر رفاهية في الأزمات الاقتصادية والأوقات الصعبة، وهي رفاهية يمكن تأجيلها لحين تحسن الظروف.

الظروف الصعبة الحالية أضعفت القوة الشرائية، لا سيما الملابس والأجهزة والمستلزمات المنزلية لدى البعض، ووأدتها بالكامل لدى البعض الآخر، وهنا تأتي الكراكيب كطوق نجاة،

ولأن ضرورات الأزمات الاقتصادية تبيح محظورات الصحة النفسية، فإن التحذير من الآثار النفسية السلبية لتراكم الكراكيب في البيوت، وتحول الشرفات إلى مخازن، وأعلى الخزانات إلى مستودعات يتقلص أمام التحذيرات الأكثر فداحة من أثر الأزمات الاقتصادية الطاحنة على السلم الاجتماعي والأمن القومي، وبالطبع ما يخلِّفه التهديد بالفقر والعوز من مخاطر نفسية وعصبية.

تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، تسمو الخلافات الأسرية فوق أطنان عبوات المربى والقهوة والصلصلة الفارغة، وبقايا الشماعات البلاستيكية، وتلال الأحذية المتحللة والملابس المكدسة، وكيلوغرامات بقايا لعب الأطفال ودراجاتهم، وكذلك أول جهاز تلفزيون اقتنته الأسرة وآخر إصدارات مجلات "سمير" و"ميكي"، ولم تعد مجالاً للشد والجذب إذ أصبح الشد من نصيب مناقشات تدبير ميزانية البيت، والجذب لصالح الدعاء الأمثل للخروج من هذه الأزمة بأقل أضرار ممكنة.

المزيد من تحقيقات ومطولات