شهدت فرنسا تراجعاً في سياستها الأسرية، إذ سجلت أقل عدد من المواليد منذ الحرب العالمية الثانية، وفقاً للأرقام التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، الثلاثاء الماضي. والآن يتأثر نحو 3.3 مليون فرنسي بصورة مباشرة بمشكلة العقم، وأظهرت الأرقام أن فرنسا شهدت ولادة 678 ألف طفل في عام 2023، مما شكل انخفاضاً بنسبة 6.6 في المئة من عدد المواليد في العام السابق، وهو أدنى عدد من الولادات سنوياً منذ 1946.
وفي هذا السياق أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمره الصحافي المنعقد الثلاثاء الـ16 من يناير (كانون الثاني) عن إجراءات تهدف إلى إحياء معدل المواليد، وبناءً على ذلك سيتم إنشاء "إجازة الولادة" الجديدة، "التي ستدفع بصورة أفضل، وستتيح لكلا الوالدين البقاء مع طفلهما لمدة ستة أشهر"، لتحل محل الإجازة الوالدية. كما أعلن ماكرون عن إطلاق "خطة كبرى" لمكافحة العقم، والتي كان من المتوقع وضعها في التنفيذ وفقاً لقانون أخلاقيات علم الأحياء منذ عام 2021.
أزمة ديموغرافية
لا يبدو الأمر مقلقاً للغاية على رغم خفض معدل الولادات بنسبة قريبة جداً من سبعة في المئة، إذ تظل فرنسا البلد الأكثر خصوبة إلى جانب جمهورية التشيك ورومانيا، ففي وجهة نظر خبراء الديموغرافيا يعتبر الأمر مبكراً للقول ما إذا كان الخفض الأخير يمثل انخفاضاً كبيراً في معدل الولادات.
وترى مديرة الأبحاث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية (INED) لورا سولاز أنه لا يزال مبكراً قياس العواقب المجتمعية لهذا الخفض على المدى الطويل، ومع ذلك يظل لدى فرنسا مكانتها كالدولة الأكثر خصوبة في الاتحاد الأوروبي عام 2021، إذ بلغ معدل الخصوبة 1.84 طفل لكل امرأة، وفقاً لتقارير المكتب الإحصائي الأوروبي "يوروستات".
تفسير الخفض
يمكن تفسير هذا الخفض بتأثير عوامل عدة متشابكة، استمرار قائمة أسباب التخلي عن الإنجاب في التزايد، حيث يلعب كل عامل دوراً يصعب تحديده، شهدت البلاد تعاقباً للصدمات الاقتصادية والصحية والجغرافية السياسية، مما أدى إلى خلق مناخ من عدم اليقين، الذي لا يشجع على الرغبة في إنجاب الأطفال.
العوامل متنوعة، وقد تتراكم في بعض الأحيان، ويجب أخذ عامل الهجرة في الاعتبار، فيما يتعلق بالسياسات العامة، يعني الإنجاب بأقل عدد من الأطفال تقليلاً في عدد الطلاب المستقبلين، وستقاس العواقب على المدى البعيد، لكننا لا نزال بعيدين من معدلات المواليد المنخفضة للغاية كما هو ملحوظ في كوريا الجنوبية، على سبيل المثال.
من دون شك، يفرض إنجاب الطفل تحديات مالية، وهو ما قد يثني أشخاص كثر عن الأبوة، في ظل الظروف الاقتصادية الحالية وارتفاع معدلات التضخم، قد لا يعد هذا الوضع محفزاً إيجابياً، يظهر بوضوح أن الطبقات الوسطى هي التي تسجل أقل نسبة من الأسر ذات الأطفال.
ومن بين أسباب هذا الخفض في معدل الولادات أيضاً الحمل في سن متأخرة، إذ يشير البحث إلى أن النساء يلدن أول أطفالهن وهن في سن الـ31، وهو موعد متقدم مقارنة مع نهاية الستينيات، إذ كانت النساء يلدن أول أطفالهن في سن الـ24، وفقاً لدراسة أجراها المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية.
ويعزى خفض أعداد الولادات في فرنسا بصورة أساسية إلى "الانخفاض الحاد" في معدل الخصوبة، الذي بلغ 1.68 طفل لكل امرأة في العام الماضي مقارنة بـ1.79 سنة 2022. ويضاف معيار آخر، وهو المخاوف المتعلقة بالصراعات العالمية والأزمة البيئية، وهي من بين الأسباب التي قد تثني عن قرار الأزواج بإنجاب الأطفال، وفي سياق العوامل المجتمعية، أسهم الاستخدام الواسع لعمل الإناث وتقنيات منع الحمل في خفض سن الأمومة.
ويحدد علماء الاجتماع أيضاً محددات أخرى، مثل الخفض المحتمل في رغبة الأجيال الشابة في الإنجاب، وسعيهم إلى تحقيق الاستقرار المهني والعاطفي قبل الانخراط في تحقيق مشروع الأبوة.
لا أريد إنجاب طفل آخر
بعض النساء ذكرن سبب عدم رغبتهن في الأطفال، ويتعلق الأمر في المقام الأول بحالتهن الاقتصادية، في حوارنا مع فلورنس، وهي أم لطفل واحد، قالت "لا أريد إنجاب طفل آخر، فالحياة اليوم أصبحت صعبة جداً في فرنسا مع ارتفاع كلفة المعيشة، كل طفل يتطلب الوقت والنقود، خصوصاً مع عدم مراعاة بعض المسؤولين لحاجات الأم العاملة، نواجه صعوبة دائمة أنا وزوجي للحصول على أيام راحة من العمل، والأطفال الصغار يمرضون دائماً، خصوصاً مع انتشار (كوفيد) والفيروسات الجديدة، الأمر ليس بتلك السهولة".
أما كارلا التي تعمل بمحل خاص، فقالت "يجب أن تنظر السلطة الحاكمة في وضع الأمهات العاملات، فمثلاً أنا أم لطفلين أبدأ عملي الرابعة صباحاً، وأضطر إلى ترك أولادي لوحدهم في المنزل، والسبت أيضاً، كيف أفكر في إنجاب طفل آخر؟ خصوصاً أن الأسعار ارتفعت بسبب تداعيات كورونا والحرب الروسية - الأكرانية والأحداث في غزة".
أما جوليا، فقالت "أنا لا أريد إنجاب الأطفال، وأعتقد أن الحياة لا تتلخص في إنجاب الأطفال، فهم يقيدون حريتنا".
إنعاش معدل المواليد
يشير عالم الاجتماع عبدالحميد العبيدي إلى أن "تصريحات الرئيس ماكرون تأتي في سياق ديموغرافي متعلق بتحولات في هرم السكان يهدد تجديد القوة العاملة في فرنسا، فمع تهرم السكان وتقدم الأعمار يصبح هناك انقلاب في هرم السكان، مما يؤدي إلى تقليص نسبة الشباب في المجتمع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف العبيدي في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، "يندرج إعلان ماكرون عن منحة تشجيعية وحوافز للأبوين في حال إنجاب مولود جديد هو تعبير عن أخطار التناقص الديموغرافي في اقتصاد تنافسي يحتاج طاقة عمل شابة". وأشار إلى أن تأثير تصريحات السياسيين على معدلات الولادة يمكن أن يكون مجدياً، لافتاً إلى أن تراجع معدلات الولادة يرتبط بقضايا أعمق تتعلق بالقيم الثقافية والاجتماعية والتصورات المجتمعية،
وأكد أن قرار الإنجاب أو عدمه ليس قراراً فردياً فقط، بل يعكس مواقف اجتماعية يتغير ببطء شديد تبعاً للسياقات الثقافية والاجتماعية، عليه يعتبر أن فهم التحولات في معدلات الولادة يتطلب دراسات ميدانية لتحليل تلك القضايا بصورة أفضل، فالسؤال الذي يفرض نفسه اليوم لماذا اتجه الأزواج في سن الإنجاب إلى عدم الإنجاب؟ وإلى أي شرائح اجتماعية ينتمي هؤلاء؟ وهل العوامل المفسرة لهذه الظاهرة هي ذات طبيعة مادية أي اقتصادية أم هي ثقافية أي هناك تغير في قيم المجتمع الفرنسي؟
ردود الفعل
تفتقر قضية الأطفال إلى أهمية وطنية، وفقاً لتصريحات النائبة ساندرين روسو، إذ قالت "إنه الخطاب الأسوأ الذي شاهدناه في تاريخنا، إذ استخدم أرحام النساء كجزء من نظام السياسة العامة لإعادة بناء السكان وتحفيز إنجاب الأطفال".
انتقدت النائبة بشدة إعلان إيمانويل ماكرون، قالت "أرحام النساء يجب ألا تكون موضوعاً للدولة". أضافت "لكل امرأة حرية الاختيار بين إنجاب الأطفال أو عدم إنجابهم"، كما أشارت إلى أن "كل قرار يحق للمرأة اتخاذه، وهو قرار مبرر".
وعلق المتحدث باسم حزب اليمين المتطرف فيليب بالارد في فرانشينفو بأن "معدل المواليد يشكل إنذاراً أحمر لأعداد المواليد، لكن الدولة التي تتدخل بصورة كبيرة في إدارة حياة الأفراد لن تكون قادرة على حل هذه المشكلة في المستقبل".
المعاشات التقاعدية
وجد حالياً نحو 1.7 مواطن نشط للمتقاعد الواحد، وربما 1.2 فقط في عام 2070، وفقاً لمجلس توجيه المعاشات التقاعدية، بالنسبة إلى اليمين يرتبط هذا الاتجاه ارتباطاً مباشراً بانخفاض معدل المواليد.
ويقول الرئيس الجمهوري إريك سيوتي إن التغيير الديموغرافي هو على المدى الطويل، المصدر الرئيس للاختلال في نظام التقاعد، فيما تقول آني جينيفارد عضوة البرلمان إن هذه الإجراءات "أضرت بمعدل المواليد في بلدنا"، واقترحت خلال المناقشات حول الموازنة الأخيرة رفع حاصل الأسرة واستعادة "عالمية" العلاوات الأسرية.
هذه الرؤية لمعدل المواليد لإنقاذ نظام التقاعد ليست بالإجماع. كانت النائبة عن عصر النهضة بريسكا ثيفينوت، المتحدثة باسم الحكومة الحالية، منزعجة في وقت المناقشات لرؤية النساء يتحولن إلى "رحم"، بهدف "حل مشكلة المجتمع بمعدل المواليد.
أمام هذا السياق وعلى رغم وعود إيمانويل ماكرون، يظل السؤال معلقاً حول ما إذا كان سيقوم بمكافحة البطالة التي تثني الشباب عن فكرة إنجاب الأطفال، وهل ستتخذ تدابير فعالة للتغلب على عدم المساواة في الأجور بين الجنسين؟