ملخص
غياب الدقة التاريخية عن الأحداث والغزوات شوه صورة الإمبراطور وأزعج الفرنسيين
بعد أكثر من شهر على بدء عرضه في الصالات، وفيما تجاوزت إيراداته عالمياً الـ200 مليون دولار، لا يزال لـفيلم "نابليون" جمهور يعج به الصالات، خلافاً للمتوقع، وقياساً بالأفلام الأخرى التي شقت طريقها إلى الشاشات حديثاً، هذا ما تبين لي وأنا أقطع تذكرة لمشاهدة فيلم ريدلي سكوت داخل أحد المجمعات التجارية المعروفة في بيروت التي يرتادها حشد متنوع من المشاهدين. إلا أنه، بسبب نوعية العمل، البعيدة من الكوميديات الخفيفة والأعمال التي تنطوي على بطل خارق ينقذ العالم، فكان الجمهور في معظمه من الباحثين والباحثات عن جرعة سينما "تملأ الرأس"، كما سمعت أحدهم يقول لآخر على باب الصالة. جاء هؤلاء لعلهم يكتشفون ما هو جديد ومغاير في شريط سينمائي عن نابليون بونابارت (1769 - 1821)، الإمبراطور الفرنسي والقائد الأسطوري الذي لا تزال سيرته موضوع خلاف وجدل بين المهتمين به.
المخرج البريطاني ريدلي سكوت البالغ من العمر 86 سنة، جمع كل ما يود قوله عن نابليون (يلعب الدور واكين فينيكس) في ساعتين ونصف الساعة وبضع دقائق، جاعلاً من غزاوته العسكرية والقلبية متن السيناريو ومحور الأحداث. وهذا في ذاته تحد، عندما نتذكر أن معركة واترلو (1815) وحدها احتاجت فيلماً كاملاً من أكثر من ساعتين ("واترلو" لسرغي بوندارتشوك - 1970)، في حين نسخة أبيل غانس الصامتة (1927) عن الإمبراطور تجاوزت الساعات الخمس، لكن يجب التذكير أن هناك نسخة من أربع ساعات ستعرض قريباً، نجهل تفاصيلها بعد، وهي تتضمن معطيات قد تساعد في الإحاطة بنابليون من جوانب عدة، وفي جعل الجدارية أكثر وضوحاً، ما تفتقر إليه النسخة الحالية.
إنجاز فيلم عن نابليون مع ما ينطوي عليه من طموح سينمائي واستعراض ضخم وقراءة مغايرة للتاريخ، كان حلم عديد من السينمائيين عبر الزمن. هناك شيء مغر في تصوير العظمة التي يليها الانهيار، ذاك أن نابليون الذي صعد نجمه غداة الثورة الفرنسية، ثم أصبح ما أصبحه، تم نفيه ليموت وحيداً ومهزوماً، هذا كله لا بد أن يفتح شهية السينما. أشهر المخرجين الذين اهتموا بنابليون ومصيره هو ستانلي كوبريك الذي رحل عن عالمنا من دون أن يتنسى له تحقيق فيلم عنه. وكان جمع لهذا الغرض في منزله ملفات تحتوي على أكثر من 25 ألف بطاقة مأرشفة بحسب التاريخ. فإذا كان يريد أن يعلم ماذا فعل بونابارت في اليوم الفلاني وبرفقة من تناول الطعام، كان يسأل مدير الأرشفة طوني فرويل الذي كان يسحب بدوره البطاقة الموافقة لذلك اليوم من الرف ليبلغه بكامل التفاصيل.
مخرج التاريخ
ريدلي سكوت الذي برز اسمه في العقدين الأخيرين كأحد أسياد نقل التاريخ إلى الشاشة من خلال أفلام مثل "سفر الخروج: آلهة وملوك" و"بروميثيوس" و"مملكة الجنة" و"مصارع"، تسلم مهمات أفلمة فصول من سيرة الإمبراطور الرهيب، مدعوماً بباعه الطويل في مجال تجسيد المعارك الطاحنة، وهي المعارك التي نجد عدداً منها في جديده هذا. في المقابل، لم يكن سكوت مقنعاً وموضوعياً عندما تناول الشؤون السياسة في عديد من أفلامه، وبعضها مثال صارخ للتدليس، كما الحال في "سقوط بلاك هوك" عن معارك مقديشو، إذ صورها من وجهة نظر أميركية سطحية جداً، ويمكن القول إن من يتوقع منه دقة تاريخية أشبه بمن يتوقع أن تغرم به بائعة هوى. فالمخرج الشهير مشغول بالمشهدية والإبهار البصري في المرتبة الأولى، ولا ضرر إذا رافق هذه المشهدية بعض الحقائق التي لا تزعج أحداً، لكن في مجمل الأحوال، لم تكن الحقيقة همه الأول في أي يوم من الأيام.
هذا الغياب للدقة التاريخية في ما يتعلق بالأحداث المرتبطة بنابليون وغزواته، أقله على النحو الذي أجمع عليه المؤرخون، هو ما أزعح الفرنسيين، وهم المعنيون المباشرون بالقائد الذي يحاول سكوت أن ينزع عنه الهالة ليبرزه كرجل بسيط بلا كاريزما لافتة، وبعيداً من صورته المكرسة في المخيال الشعبي. البورتريه الذي يرسمه الفيلم عنه ليس لمصلحته، إذ نراه رجلاً متعطشاً للسلطة، لا يمانع من إطلاق النار على المحتجين، يقوده حدسه، وهذا مفهوم لأن وظيفة الفن في النهاية هي تدمير الأساطير وفتح سجال حولها. مع ذلك، يبقى من الصعب القبول بفيلم يحمل اسم "نابليون" وفيه عدد من المعطيات التي لا تمت إلى الحقيقة التاريخية بصلة، وذلك منذ الافتتاحية عندما نشاهد إعدام ماري أنطوانيت (1793) في حضور نابليون، على رغم أن التاريخ يقول إنه لم يكن بين الحضور في ذلك اليوم.
تفصيل آخر دس في الفيلم وهو غير صحيح تاريخياً: قصف مدفعي للأهرامات خلال الحملة الفرنسية على مصر لإظهار "همجية" قائدها، هذا كله يعطي انطباعاً بإعادة كتابة للتاريخ، ومن المؤسف أن سكوت لم يذيل عنوان الفيلم باسمه ليصبح "نابليون بحسب ريدلي سكوت" كما فعل من قبله سينمائيون كبار، كي يتنصل من التاريخ ويصور ما يريده على هواه وفق رؤيته الخاصة، لكن هذا هو سكوت، متلاعب كبير، وليس من المستغرب أن ذورة الفيلم البصرية، حين يغرق الجنود داخل بقع الجليد (معركة أوسترليتز - 1805)، تقوم على عديد من المبالغات لخدمة عطشه إلى الإبهار.
تفاصيل مخترعة
يتخفى بعض أنصار سكوت خلف حجة مفادها أن الفيلم ليس وثائقياً بل هو روائي، لكن هذه إشكالية أخرى تستحق النقاش: لماذا فيلم خيالي عن شخصية تاريخية، بعض ما فيه ينم عن أبحاث جدية والبعض الآخر تفاصيل مخترعة لخدمة السياق الدرامي، وما الفائدة من نص يعيد كتابة التاريخ على سجية الكاتب والمخرج، ومع ذلك يبقى شديد الكلاسيكية في رؤيته ومعالجته؟
في أي حال، ما يتبدى جلياً من الفيلم هو أن مخرجه يكن بعض العداء لنابليون، ويقاربه من وجهة نظر شخص بريطاني الأصل، وحتى المراجع التي اعتمد عليها لكتابة السيناريو هي بريطانية، كأنه أراد أن يرى نابليون بعيداً من أمجاده، له ما له وعليه ما عليه.
إذا ما استطعنا تجاوز هذه العيوب، فيمكن أن نعيش ساعتين ونصف الساعة من المتعة البصرية والسمعية، توفرها حرفة المخرج التي تتجسد على عدة مستويات، أبرزها سردية وإخراجية. يقيم سكوت توازناً بين التاريخ والقصة الشخصية لبونابارت، أي إنه يمزج بين العام والخاص، من دون أن يغلب هذا على هذا. النتيجة أقرب إلى دراسة لشخصية وسلوكياتها. وإذا كانت المعارك العسكرية التي خاضها نابليون مجيدة، فلا يمكن قول الكلام عينه عن حياته العاطفية. يقدم لنا الفيلم رجلاً عادياً لا يملك أي فلسفة، ولا أي رؤية عظيمة، فقط يملك الإرادة والطموح والإيمان الذي لا يهتز بأن الإرادة والطموح كافيان ليغزو العالم ويحتله، هذا هو باختصار خطاب الفيلم.
تأخذ جوزيفين (فانيسا كربي)، وهي المرأة التي عشقها نابليون إلى حد الهوس والجنون، حصة غير قليلة من الفيلم الذي يشهد تراجعاً كبيراً في وتيرته، ما إن يصبح هو وهي وحدهما داخل الكادر للتفاوض في شؤون هذه العلاقة الصعبة التي ستشوبها مشكلة عدم قدرة الكائن المعشوق على الإنجاب. العلاقة الغرامية تبطئ الإيقاع وتجعله يتنفس، في انتظار معركة جديدة. ويمكن تحريف ما قيل عن أفلام هيتشكوك والقول إن سكوت يصور مشاهد المعارك كقصص حب ومشاهد الحب كمعارك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المشكلة ليست في الحط من شأن الرجل القصير القامة من خلال نظرة المرأة إليه (خصوصاً أن جوزيفين -كما يقال- كانت الوحيدة التي تقول حقيقته في وجهه)، بل تكمن في أن ريدلي سكوت وبسبب ارتباطاته الإنتاجية، غير قادر على إنجاز فيلم أعمق، فيختزل الرجل، إما بأقصى ضعفه أو بأقصى قوته. لحسن الحظ أن الفيلم امتنع عن التلميح إلى أن جبروته في ميدان القتال نتيجة لانعادم الحب في حياته. مشكلة أخرى أكثر بروزاً هي أن الفيلم يصور جوزيفين انطلاقاً من مكانة المرأة في وعينا اليوم.
دور بونابارت في تشييد أوروبا الحديثة وإرساء أسس فرنسا المعاصرة غير مطروح البتة في "نابليون". فتلك قضايا وشؤون لا تجد ترجمات بصرية في سينما سكوت، المشهدية والترفيهية بامتياز، لكن عذراً، لا يمكن الحديث عن نابليون من دون الحديث عن القانون المدني الفرنسي وعن إصلاحاته التي أخرجت فرنسا من "عصر الرعب"! هذا إذا كانت هناك ثمة محاولة جادة للحديث عن شخصية تاريخية بارزة.
المشاهد التي تحمل توقيع سكوت وبراعة يده تغوي المتفرج، وقد يقع تحت سحرها من دون التدقيق في طبيعتها. جمالياً، لا بأس بها، لكنها لا تختلف عن كثير من المشاهد التي حضرت في أفلام من هذا النوع. اللافت أن سكوت لجأ إلى المدرسة التجسيدية القديمة، مفضلاً إياها على "واقعية" السينما المعاصرة.
أما اللغة الإنجليزية فهذه علة العلل. ليس فقط لأنه ينطق بها رمز من رموز فرنسا، بل لأنه يستخدمها العدوان، البريطاني والفرنسي، هذا عائق آخر يضاف إلى العوائق السابقة، على رغم جهود الممثل واكين فينيكس الواضحة لتجسيد بونابارت في صلابته وهشاشته. لم تكن لريدلي سكوت جرأة مل غيبسون، عندما أصرَّ على أن يجعل السيد المسيح يتكلم بالآرامية في فيلمه الشهير عنه. في زمن يعيد النظر في كل شيء، حيث هوليوود تلام لاستخدام ممثل غير يهودي للاضطلاع بدور يهودي، ألم يحن الوقت كي يتحدث كل شخصية بلغتها؟