ملخص
الحرب تنعش النقل النهري في السودان بعد تدمير البنية التحتية من طرق برية وجسور
منذ عهود بعيدة أدرك السودانيون أن نهر النيل أساس حياتهم، فارتبط لديهم بطقوس عدة يرمز بعضها إلى الفرح، وأخرى إلى الموت والعودة إلى الماء، فقُدمت القرابين وأنشدت له الترانيم فنشأت حوله الحضارات وأقيمت الجسور التقليدية، كما كان وسيلة نقل مهمة للناس والبضائع فصنعت القوارب العادية والشراعية.
وفي السودان الحديث، يمثل النقل النهري شريان الحياة وأحد الأصول المهمة للدولة السودانية، نسبة لوجود العديد من الأنهار الصالحة للملاحة. وتعد مجاري الأنهار خصوصاً نهر النيل، الناقل الوطني داخلياً ومع دولتي مصر عن طريق مدينة وادي حلفا عن طريق مشغل نقل نهري بين البلدين (هيئة وادي النيل للملاحة النهرية)، وجنوب السودان عن طريق مدينة كوستي عن طريقة هيئة النقل النهري التي تمتلك مئات القطع النهرية وتسهم في رفد الاقتصاد السوداني بعملات صعبة، حيث استخدم وسيلة لتعزيز النقل العام.
ومع أن السودان شهد عصراً ذهبياً في النقل النهري، إلا أن هذا الإرث الاقتصادي تعرض للتدهور في ظل النظام السابق. ولأن الحرب تسببت في تدمير البنية التحتية من طرق برية وجسور، وبسبب حاجة سكان المناطق التي اجتاحتها الحرب إلى الهرب، فإن الوسيلة الوحيدة من ضمن الوسائل القليلة، كان النقل النهري.
شهدت ضفاف النيلين الأزرق والأبيض حراكاً كبيراً بدأ من الخرطوم بعد تدمير جسر شمبات في سبتمبر (أيلول) الماضي وبعض الجسور الأخرى التي كانت تربط مدن العاصمة المثلثة. وبعد اجتياح قوات "الدعم السريع" مدينة ود مدني تعطل طريق المرور السريع الرئيس الرابط بينها وبين الخرطوم، وكان يستغله النازحون إلى مدن عدة وصولاً إلى بورتسودان في شرق البلاد.
وعلى رغم الأخطار العديدة وغرق كثيرين في هذه الرحلات المحفوفة بالأخطار، فكان الهاربون من جحيم الحرب يسلمون أنفسهم للنهر وسائقي القوارب الذين يُعرفون باسم "المراكبية" في اللهجة المحلية السودانية، ويرمون بأثقالهم على قوارب متهالكة كانت تُستخدم عادة لصيد الأسماك.
معارك الضفاف
لم يكن النيل بعيداً من سيرة الحروب، فعند غزو محمد علي باشا السودان عام 1820 بقواته المكونة من 4 آلاف جندي، حُدد وقت الغزو بفيضان النيل بالتخطيط للإبحار عبر النيل فوق الشلالات لضمان ارتفاع النهر لنسبة معينة. كما استخدمت قوات إسماعيل باشا المتفجرات لنسف ممر مائي في الشلال الثاني لتتمكن السفن من الذهاب إلى الجنوب وجعل النهر صالحاً للملاحة. وإن كانت حركة النيل الرئيسة من الجنوب إلى الشمال مع حركة التيار المائي الطبيعية، فإنها من الشمال إلى الجنوب تكون باستخدام طاقة الرياح لدفع أشرعة الوحدات النهرية أو الطاقة البشرية المستخدمة في التجديف. يُذكر أيضاً أن إسماعيل باشا أرسل أسطولاً من القوارب النهرية باتجاه أعالي النيل في الجنوب مع قوات مرافقة لحمايته.
كما كانت معارك الدولة المهدية مع الحكم التركي- المصري أيضاً على ضفاف النيل، شهدتها العاصمة الوطنية أم درمان في معركة باسمها عام 1898 وبمحاذاة النيل كانت المعارك امتداداً إلى قصر الحاكم العام بالخرطوم. وبقدر ما استغل المستعمر النهر في حربه لمواجهة جنود الثورة المهدية، بقدر ما توسع في ابتكار طرق عدة للاستفادة من مياه النهر بعد ذلك.
وأسهم النيل إلى جانب الأمطار في ازدهار النشاط الزراعي في السودان، فقامت المجتمعات على ضفافه، كما برع السودانيون في صيد الأسماك فاعتمدوا على القوارب التي استغلوها إلى جانب الصيد لأغراض التنقل بين الضفتين. وعمل الحكم الإنجليزي- المصري على تنظيم الري وإقامة المشاريع الزراعية مثل مشروع الجزيرة وغيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قوارب بدائية
في عام 2007 أعلنت الحكومة السودانية بيعها هيئة النقل النهري إلى مجموعة "عارف" الكويتية للاستثمار في صفقة بحوالى 105 ملايين دولار بغرض الاستثمار. وقدمت المجموعة مبلغ 73.5 مليون دولار مقابل حصة تبلغ 70 في المئة بالهيئة، بينما تحتفظ الحكومة السودانية بحصة تبلغ 20 في المئة في الشركة السودانية للنقل النهري الجديدة، وتردد أنها لشركات تخص إسلاميين في النظام السابق، وتمتلك حكومة جنوب السودان التي كانت تتمتع بحكم شبه ذاتي قبل الانفصال حوالى 10 في المئة.
وبعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير أعلنت "لجنة إزالة تمكين النظام السابق" أنها أعادت أصول ملكية النقل النهري لميناء كوستي على النيل الأبيض وبالقرب من الحدود مع دولة جنوب السودان للدولة التي تبلغ حوالى 450 مليون دولار أميركي. ثم اتفقت حكومتا السودان وجنوب السودان على فتح المعابر وتفعيل النقل النهري في منطقة أبيي الحدودية والمتنازع عليها بين الدولتين.
وفي عام 2022، عزم السودان ومصر على تنفيذ خطة شاملة لتطوير "هيئة وادي النيل" القائمة أساساً لتطوير هيئة النقل النهري في البلدين. وكانت الخطة تشمل التسهيلات والحوافز التي تم إقرارها لجذب المستثمرين، وكذلك العروض الاستثمارية الواردة إلى الهيئة للتعاون الاستثماري، إضافة إلى تطوير ميناءي وادي حلفا بالسودان والسد العالي في مصر. وكانت الهيئة بصدد شراء وحدات نهرية تنقل من 50 إلى 70 فرداً للوحدة الواحدة. وقبل ذلك بعام واحد حاولت تركيا تحديث الاتفاقيات التي أُبرمت في عهد النظام السابق لتطوير مشاريع النقل النهري في السودان لكن المشروع لم ير النور.
كل هذا الحراك الاستثماري حول نهر النيل، كان عبارة عن دعاية سياسية للنظام السابق، لم يستفد منها قطاع النقل النهري، وعندما نبعت الحاجة إلى استغلاله نتيجة لظروف الحرب، تفاجأ السودانيون أنهم مجبرون على استغلال قوارب بدائية لا تصمد لرحلات طويلة، ولكن مع ذلك حلت أزمات تتعلق بنجاتهم.
تجارب مماثلة
المواطن عبدالله بابكر، ذكر أنه "منذ أن تقطعت السبل بين الخرطوم بحري وأم درمان بعد تدمير الجسور، حيث يتوزع أفراد العائلة في المدينتين رغماً عن اشتداد الحرب، أدركنا أن الخرطوم بأكملها ستكون مدينة معزولة، ففكرنا في النزوح". وأضاف "تحركنا من بحري إلى أم درمان عبر القوارب ثم شمالاً إلى مدينة شندي".
ولدى مواطنين كثر في أغلب المناطق التي يدور فيها القتال بين الجيش وقوات "الدعم السريع" تجارب مماثلة. قالت آمال عوض التي فرت برفقة أسرتها من إحدى قرى ولاية الجزيرة جنوب العاصمة الخرطوم، الراقدة على ضفاف النيل الأزرق عبر النهر شرقاً قالت "استقلينا قارباً نهرياً متهالكاً بحوالى ما يعادل 5 دولارات لعبور النيل شرقاً". وتابعت "وصل القارب إلى قرية بمنطقة شرق النيل، وكانت تنتظرنا حافلات صغيرة أقلتنا إلى شندي، وواصلنا الرحلة على مدى يومين حتى وصلنا إلى بورتسودان". وأفادت بأن القارب الذي أقلها مع أسرتها كان ضمن سبعة قوارب تحركت في وقت واحد، أغلب من فيها يقصدون مدينة بورتسودان، ليتحركوا منها إلى وجهات مختلفة، منها السعودية ومصر وإريتريا وإثيوبيا.
سوق متكاملة
من جانبه، أكد المهندس السابق بهيئة النقل النهري ياسر عوض "يسهم إنعاش قطاع النقل النهري في تشغيل القوارب الراسية على ضفافه، كما يشجع على صناعة قوارب جديدة مما يقلل من نسبة البطالة في ظل ظروف الحرب".
وأفاد "هناك صناعات مرادفة للنقل النهري، وسوق متكاملة قد تُلحق به بعض الخدمات إن لم تطاله الحرب، فسيكون مصدر رزق لكثيرين، ومنعشاً للاقتصاد المحلي لهذه المناطق، خصوصاً أن القوارب الشراعية التقليدية لا تحتاج إلى وقود، كما أنها تقلل من الأخطار البيئية". وحذر عوض من "استغلال فئات معينة لهذه السوق إذا انتبهت إلى نجاحها".
وتابع "على رغم أخطار الغرق، إلا أن النسبة قليلة مقارنة بالأرواح التي يحصدها طريق الخرطوم- مدني السريع". ولفت إلى أنه "على رغم أن هذا الانتعاش قد يكون مرتبطاً بظروف الحرب فقط، إلا أنه بالنظر إلى تدمير الطرق فإنه قد يكون الوسيلة المفضلة على مدى طويل، وقد لا يهددها إلا مواسم الفيضانات الموسمية".