ملخص
السؤال الرئيس يتعلق بماهية وطبيعة الهدف الذي ستختاره إيران كرد أولي على الضربات الإسرائيلية إذا ما قررت طهران الرد مباشرة
ضربات أمنية متلاحقة، يمكن وصفها بأنها من العيار الثقيل تلقاها النظام الإيراني، وتحديداً المؤسسة الأمنية والعسكرية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بدءاً بعملية اغتيال مسؤول الدعم اللوجيستي لفيلق القدس في سوريا الجنرال رضي موسوي، ثم التفجير الانتحاري المزدوج الذي نفذته عناصر متطرفة قيل إنها تنتمي لتنظيم "داعش" في مدينة كرمان مسقط رأس قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني.
وسليماني نفسه جرى اغتياله بعملية من مسيرة أميركية قرب مطار بغداد فجر الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020، وهو الوقت نفسه الذي اختارته تل أبيب لاغتيال موسوي في دمشق بعد ثلاثة أعوام.
وإذا ما كانت المؤسسة العسكرية الإيرانية ومنظومة القرار اختارت الرد على عملية اغتيال موسوي وتفجير كرمان بشكل غير مباشر وبعيداً من العمق الإسرائيلي المتهم بالوقوف وراء هذه العمليات، من خلال استهداف ما سمته مقراً لعناصر الموساد في مدينة أربيل مركز إقليم كردستان العراق، وتجمعات لجيش "العدل البلوشي" داخل الأراضي الباكستانية، فإن استمرار الخسائر النوعية في صفوف قياداتها العسكرية من المفترض أن تدفعها لاعتماد آليات رد مختلفة هذه المرة، إضافة إلى إعادة النظر في أساليبها الأمنية التي فشلت في تأمين الحماية لهذه القيادات والعناصر من الاستهداف السهل.
هذه السياسة الإيرانية في الرد على الضربات الإسرائيلية، تدفع إلى نوع من الاطمئنان بأنها لن تذهب إلى خيار تصعيدي في الرد على عملية الاغتيال الأخيرة لمسؤول الأمن في قوة القدس في سوريا والعراق، وستكون إما مباشرة أو عبر حلفائها في العراق ولبنان في إطار الرد المبدئي أو الأولي على هذه العملية.
ويبدو أن المؤشرات إلى ذلك بدأت بالظهور في تصريحات الجهاز الدبلوماسي الإيراني في كلام وزير الخارجية أو الناطق الرسمي باسم الوزارة من أن طهران تحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين وحرية اختيار الهدف الذي تراه مناسباً أو موازياً لحجم الضربة التي تعرضت لها.
ولا شك أن الاستراتيجية الإيرانية التي يمكن وصفها بـ"استراتيجية الصبر" لن تذهب إلى التصعيد المفتوح الذي قد يؤدي إلى توسيع دائرة الحرب والقتال في الإقليم وتكون فيها طهران جزءاً منه وشريكاً مباشراً فيه، أي إنها ستضع نفسها في دائرة الاستهداف المباشر إما إسرائيلياً أو أميركياً، من ثم تكون لبت الرغبة التي يسعى لها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتوسيع الصراع ليكون خشبة خلاص له من خلال توريط جميع الأطراف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن السؤال الرئيس الذي يبقى يتعلق بماهية وطبيعة الهدف الذي ستختاره إيران كرد أولي إذا ما قررت الرد مباشرة، ومن المؤكد أنه لن يكون في الداخل الإسرائيلي، بل من المحتمل أن تذهب للتفتيش عن هدف على غرار ما فعلت في الهجوم الصاروخي على مدينة أربيل العراقية، وأن أحد الأهداف المحتملة للرد الإيراني قد يكون في منطقة القوقاز الجنوبي على حدودها الشمالية، أي الوجود الإسرائيلي وأنشطة جهاز الموساد في أذربيجان التي منحت إحدى قواعدها الجوية العسكرية المهجورة على مقربة 20 كيلومتراً من الحدود الإيرانية لتكون قاعدة لأنشطة استخباراتية لتل أبيب.
وتتهم طهران إسرائيل بتنفيذ عدداً من العمليات داخل أراضيها انطلاقاً من الأراضي الأذرية، وتحديداً عملية استهداف عدد من المنشآت النووية وسرقة الوثائق السرية للبرنامج النووي في منطقة تورغوزاباد في الداخل الإيراني إلا أن أي تفكير باستهداف النشاط الإسرائيلي في أذربيجان سيعني دخول النظام في أزمة حقيقة مع باكو وقيادة إلهام علييف والعودة إلى دائرة التوتر وإمكانية الانتقال إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين.
هنا يوضع في الاعتبار أن الصدام الإيراني الأذري كان قاب قوسين أو أدنى في 2023، نتيجة التوتر بينهما على خلفية الموقف من الأزمة مع أرمينيا ومشروع باكو لتغيير الحدود في هذه المنطقة، فضلاً عن الاعتداء الذي تعرضت له سفارة أذربيجان لدى طهران.
الاستهداف الإسرائيلي المباشر لعناصر العسكرية الإيرانية بدأ بشكل مباشر في الثاني من يناير 2023 في الغارة الجوية التي نفذتها مقاتلات إسرائيلية على أطراف العاصمة السورية دمشق وأدت إلى مقتل ضابطين من فيلق القدس أو المستشارين العسكريين، بحسب التعريف الإيراني لعمل هذه القوة في سوريا، ثم جاءت العملية الأخيرة التي جرت، صباح أمس السبت، أي بعد نحو 17 يوماً من اغتيال موسوي، ونفذتها تل أبيب في دمشق أيضاً.
وبغض النظر عن الآلية التي تمت بها "عملية دمشق"، وما زال هناك اختلاف حولها وهل جاءت عبر صواريخ موجهة ودقيقة انطلقت من منطقة الجولان السوري المحتل، أو نفذتها مقاتلات إسرائيلية من جهة الجولان، إلا أن الثابت الوحيد والنتيجة الحاسمة لهذه العملية هي مقتل المسؤول الأمني لفيلق القدس في سوريا مع مساعده وثلاثة آخرين من المستشارين الإيرانيين التابعين لهذه القوة على الأراضي السورية والعراقية.
تطرح هذه الاستهدافات سؤالاً جوهرياً حول طبيعة التنسيق بين القوات الإيرانية مع القوات الروسية على الساحة السورية، ومدى التأثير السلبي الناتج من غياب التنسيق الذي كان قائماً ومعمولاً به أو ما يسمى بروتوكول التعاون والتنسيق بين موسكو وتل أبيب، والذي يفرض على الإسرائيليين إبلاغ الروس عن أي عملية استهداف أو غارة جوية قبل حصولها ولو بدقائق، مما كان يسمح للجانب الروسي بتمرير المعلومة للجهة المستهدفة لإخلاء مواقعها تجنباً لسقوط قتلى وضحايا في صفوفها.
بالتالي يقود ما سبق إلى سؤال أكثر تقدماً حول إمكانية وجود حالة من التراخي الروسي بحيث تصب الاستهدافات الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني وحلفائه من لبنانيين وعراقيين في سياق التنافس على مرجعية القرار على الساحة السورية وعلاقته بالنظام في دمشق.
الخسائر الإيرانية التي تسقط في الاستهدافات الإسرائيلية في سوريا، يمكن وصفها بأنها "نوعية" لطبيعة الشخصيات التي تسقط والمهام التي يولونها أو الدور الذي ينفذونه في إطار تطبيق وتنفيذ المشروع الاستراتيجي للنظام الإيراني في الإقليم وداخل الأماكن التي تمثل ساحة نفوذ طهران في المنطقة.
ومهما اختلفت تسميات الشخصية المستهدفة في العملية الإسرائيلية الأخيرة في حي المزة (جنوب وغرب دمشق) بين حجة الله اميدوار أو صادق اميدوار أو الحاج صادق أو أبوصادق الذي تطلقه عليه الفصائل العراقية الموالية لإيران، إلا أنها لا تحجب حقيقة أنه من العناصر الأولى التي دخلت إلى سوريا مع بداية الانتفاضة الشعبية ضد النظام بداية عام 2011.
ولا يخفى أيضاً أن "أبوصادق" كان من بين العناصر الذين اعتقلتهم فصائل المعارضة السورية قرب دمشق في ديسمبر 2012 وأطلق سراحهم في إطار صفقة برعاية إقليمية في أغسطس (آب) 2013 تضمن إطلاق أكثر من 2700 معتقل سوري من سجون النظام معظمهم من النساء والأطفال ودفع فدية مالية وصلت إلى 50 مليون دولار، بل إنه أصيب أكثر من مرة في المعارك التي شارك بها في سوريا.
ويبدو من طبيعة الاستهدافات الإسرائيلية، بخاصة الاستهدافان الأخيران (موسوي وأبو صادق) أن جهاز الموساد يملك إشرافاً كاملاً على تفاصيل عمل هذه الشخصيات والمهام التي يولونها، وأن الانتقال إلى هذا المستوى من الفعل الإسرائيلي يأتي نتيجة الحاجة إلى خطوات عملية لدفع الطرف الذي يقف ووقف على مدى السنوات الماضية وراء تزويد الفصائل الفلسطينية بالسلاح وساعد في تدريبها وإعدادها مع غيرها من القوى التي تشكل الأذرع الإيرانية الإقليمية في لبنان واليمن والعراق، التي باتت تشكل تحدياً حقيقياً لقوة ردع تل أبيب، خصوصاً بعد تدني النتائج التي حصدتها في عملية العسكرية ضد قطاع غزة ضد الجسم العسكري لحركة "حماس" بشكل يسمح لها بالقول إنها حققت جزءاً مما تريده من هذه العملية.
تدني الإنجازات الإسرائيلية والتردد الأميركي وحرص واشنطن على عدم توسيع دائرة الحرب والقتال في الإقليم من خلال استبعاد الدور الإيراني في توقيت وإطلاق "هجوم حماس"، إضافة إلى المساعي التي تبذلها الإدارة في واشنطن للضغط على القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية لعدم توسيع العمليات العسكرية مع "حزب الله" اللبناني على الجبهة الشمالية، أجبر أو دفع تل أبيب إلى الانتقال إلى مستوى جديد في مواجهة ما تتعرض له من تحديات بدأت ترخي بآثارها على الداخل، وهو مستوى يدمج بين التدخل الميداني المباشر في غزة أو ما يعرف بالحرب البرية، مع المستوى الثالث وهو الانتقال إلى ضرب أهداف مدروسة ومنتقاة وتنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات وقيادات تعتبرها مسؤولة عما يجري في غزة والضفة الغربية.
ولعل هذا ما حصل في استهداف "موسوي" المسؤول التاريخي عن إمداد الفصائل الموالية لإيران في لبنان وفلسطين بالسلاح وكل ما يلزم على الصعيد اللوجيستي، واستكملته باغتيال "صادق" وما فيه من تلاقي مصالح بينها وبين واشنطن باعتباره العقل المدبر للعمليات التي تستهدف القواعد الأميركية في سوريا والعراق في إطار تطبيق وتنفيذ الاستراتيجية التي رسمها المرشد الأعلى بعد اغتيال سليماني بإخراج القوات الأميركية من غرب آسيا بخاصة سوريا والعراق.
أخيراً يبدو أن القيادة العسكرية والأمنية الإسرائيلية اتخذت قرارها بتصفية كل مصادر الخطر والتهديد والقضاء عليها من دون الأخذ بالاعتبار حجم التداعيات التي قد ترافق أو تنتج من هذه العمليات الأمنية، لتبقى الرسالة الأهم منها هي القول للجانب الإيراني الذي يتحمل مسؤولية دعم الفصائل والقوى التي تخوض الحرب مع تل أبيب من دون تحمل تبعاتها، إنه لن يبقى خارج دائرة الرد والاستهداف الإسرائيلي خصوصاً بعد التصعيد الذي يشهده البحر الأحمر ومضيق باب المندب من قبل حلفائه الحوثيين وحجم الأضرار الاقتصادية التي تلحق به من جراء محاولة فرض الحصار البحري عليه، وإن تل أبيب لن تسمح له بالاحتفال باعتباره منتصراً عند إعلان وقف إطلاق النار والانتقال إلى مسار الحلول السياسية في الإقليم.