Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجارب إيرانيات في سجون النظام: الموت أخف العذابات (3)

هنغامه الحاج حسن تستذكر عذاباتها في زنازين سجون النظام الإيراني وذكريات لا تفارقها بعد 40 عاماً من استرداد حريتها

هنغامه الحاج حسن بجانب نموذج للقفص (القبر) الذي بقيت فيه 8 أشهر في سجن قزل حصار (اندبندنت عربية)

ملخص

هنغامه الحاج حسن تستذكر عذاباتها في زنازين سجون النظام الإيراني وذكريات لا تفارقها بعد 40 عاماً من استرداد حريتها

في هذه السلسلة نلقي الضوء على تجارب نساء إيرانيات عشن جحيم سجون النظام الإيراني تحت حكم الملالي، ونستعرض لقاءات حصرية لـ"اندبندنت عربية" مع سجينات سابقات يشاركن قصصهن المؤثرة، ونستكشف الأوجه المظلمة للحياة داخل الزنازين، نواصلها مع قصة صمود السيدة هنغامه الحاج حسن خلال سنوات الاعتقال.

 

"حينما ابتعدنا قليلاً عن السجن أردت رؤيته مرة أخيرة. التفت إلى الخلف، ونظرت إلى ذلك البناء الشبيه بالخميني جاثماً مثل الغول على الهضبة. تساءلت في داخلي (كم من القلوب البريئة تنبض خلف هذه الجدران؟)".

هكذا تصف هنغامه الحاج حسن لحظة مغادرتها أسوار سجن إيفين في شمال غربي طهران بعد أكثر من ثلاث سنوات لم ترَ عيناها خلالها العالم الخارجي. هنغامه حاصلة على شهادة تمريض وكانت تمارس اختصاصها في مستشفى سينا بطهران عندما اتهمتها قوات الحرس الثوري بمناصرة منظمة "مجاهدي خلق" من خلال مساعدة جرحى ومرضى المنظمة المصابين على أيدي قوات النظام أثناء الاحتجاجات. مثلها مثل كثير من الكوادر الطبية والعاملين في المستشفيات، تسببت هذه التهمة بمهاجمة قوات النظام المستشفى الذي كانت تعمل فيه بعدما وردت تقارير من جواسيسه في حقها ومجموعة من زميلاتها.

بعد آخر محاولة هرب ناجحة، لم يكن بإمكان هنغامه العودة للمنزل ولا إلى المستشفى، فراحت تهيم على وجهها في الشوارع إلى أن ألقي القبض عليها في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1981، وأودعت مباشرة في مركز للحراسة، ونقلت بعدها إلى سجن إيفين، حيث بدأت سلسلة من التعذيب والتحقيق في الجناح 209.

من ينصفك إن كان القاضي هو جلادك؟
اختبرت هنغامه التي تبلغ من العمر الآن 67 سنة، منذ لحظة دخولها إيفين صور التعذيب الجسدي والنفسي المختلفة وجلسات الاستجواب للحصول على معلومات عن صديقاتها، فضلاً عن الاعتراف القسري وإرغامها بسلسلة من الاتهامات التي ليس لها أساس من الصحة مثل ممارسة الفحش والفساد الأخلاقي بغية إضعاف إرادتها والإضرار بالمجموعة التي تدافع عن أهدافها.

بعد نحو عام من مكوثها في السجن تم أخذها لحضور "محاكمة" في غرفة تحوي طاولة وكرسياً فقط يجلس عليه ملا وخلفه محققان قرأوا عليها قائمة الاتهامات، وفي غضون ما بين 3-5 دقائق أصدر الملا حكمه. علمت هنغامه لاحقاً أن هذا الملا كان وراء إصدار عديد من أحكام الإعدام، بخاصة في عام 1988، خلال مجزرة السجناء السیاسیین، حيث كان عضواً في اللجنة التي أصدرت أحكاماً بإعدام 30 ألف سجين.

تقول هنغامه "في سجون الملالي لا يوجد قانون يمنع الانتهاكات، كل السجناء أسرى ويفعل الحراس والمحققون ما يريدون، من اغتصاب النساء، وحتى الرجال إلى جميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي المؤلم". وتضيف أنه لم يكن لديك مجال حتى تدافع عن نفسك في "المحكمة"، ولو لدقيقة واحدة، لأن الحديث عن الدفاع عن النفس يعني التوقيع على حكم الإعدام، وهذه الصورة ركن من أركان "العدالة" و"المحاكم" في نظام الملالي.

لا يدرك معنى السجن إلا من يدخله

تتحدث هنغامه عن عمليات حبس الأطفال الصغار مع أمهاتهم، إذ كانوا يتعرضون للتعذيب والإصابات الخطرة لإحباط معنویات الآباء والأمهات، وعدم توفر الحليب والطعام للرضع، حتى على نفقتهم الخاصة. وتضيف أن بعض الأمهات كن يمنحن أطفال النساء اللاتي أعدمهن أو تعذيبهن حتى يتولين مسؤولية تربيتهم.

كذلك لم يتوفر الماء الساخن للاستحمام والغسل في طقس إيفين البارد شتاء، وكان الحصول على صابون أو فرشاة أسنان رفاهية لا تتوفر للسجناء الذين راحوا يعانون أمراضاً جلدية مختلفة كالجرب والفطريات والقمل، وكان الطعام شحيحاً جداً وقذراً لدرجة أن سجينات عديدات تعرضن للتسمم والموت بسبب الأكل الفاسد.

إلى جانب الممارسات الفردية مثل الضرب المبرح والجلد يومياً والتهديد بالإعدام، تقول هنغامه إن الجلوس لساعات خلف أبواب غرف التعذيب لسماع أصوات السجناء المعذبين كان تجربة لا ترحم. وكذلك كانت تنزل بالسجينات عقوبات جماعية مثل إجبارهن على البقاء واقفات في البرد وسحب معدات النوم والأغطية وإطفاء التدفئة في الشتاء والزج بهن في زنازين مغلقة بطول مترين وعرض متر ونصف المتر، حيث يتم إقحام أكثر من 50 سجينة في الزنانة الواحدة.

في سجن قزل حصار أمضت هنغامه ثمانية أشهر في مساحة على هيئة تابوت معصوبة العينين ومحرومة من الاستلقاء أو النوم أو الوقوف أو التحدث أو حتى السعال والعطاس.

كان الجلادون يؤكدون تمسكهم بـ"آداب الشرع"، وتنقل عنهم أنهم كانوا يرددون "قال الإمام الخميني (عندما تجلدون لا تزيدوا ضربة ولا تنقصوا ضربة)". حتى إن بعضهم كان يتظاهر بالتضرع إلى الله قبل المباشرة بالتعذيب، حيث يرفع يديه إلى السماء قائلاً "إلهي، أنت شاهد على أنني لا أريد جلد هذه المرأة، ولكنها لا تعترف، لذا فأنا مضطر إلى تنفيذ أوامرك من دون تقصير".

شاي الحمام وحتى القرآن ممنوع

من بين "المباهج" النادرة التي توفرت للسجينات كانت تجربة إعداد الشاي بطريقة سرية تتطلب تعاون فريق كامل من النزيلات، حيث كان هناك جدول صارم لاستخدام الحمام وكان ينبغي على كل ثلاث سجينات من حجرة واحدة أن يستفدن من مدة الـ15 دقيقة المسموحة لهن أقصى استفادة. كانت إحداهن ترسل إشارة إلى إخطار الأخريات بأن الماء وصل إلى أعلى درجة حرارة، عندها يتم تهريب صفائح لصناعة الشاي، ثم يتم لفها بالبطانيات للحفاظ على سخونته وسريته حتى يصل إلى الخارج لتستمتع النساء باحتساء "ألذ وأعذب شراب في العالم".

من الأمور الأخرى التي كانت تلجأ إليها النساء للتخفيف عن قساوة حياتهن السجن، هي قراءة ما يتوفر لهن من مواد وحل الكلمات المتقاطعة المنشورة في صحف النظام، لكن حتى هذه الأخيرة منعت خوفاً من أن تعد السجينات تحليلات سياسية معارضة استناداً إلى ما ينشر فيها. امتد المنع إلى الكتب الدينية لأنها تقرأ بصورة جماعية وتفسر ضد النظام، ووصل الأمر في النهاية إلى القرآن الكريم على رغم صعوبة اتخاذ مثل هذه الخطوة من قبل حكومة تسمي نفسها جمهورية إسلامية، لكن حراسة السجن لم توفر جهداً في محاولات تبرير فعلتها وراحت تقوم بما سمته "التوعية على كيفية التعامل مع قضية قراءة القرآن الكريم".

العائلة والسجن والحرية

في الأشهر الثلاثة الأولى لم يعرف أحد أين كانت هنغامه، وكلما ذهب والداها إلى سجون ومراكز مختلفة تابعة للحرس الثوري قيل لهما إنه لا توجد فتاة باسمها. وعندما أعدمت إحدى صديقاتها، قام والدها بترتيب مراسم جنازة لها أيضاً. بعد ذلك، أطلق سراح سيدة كانت في زنزانة هنغامه التي أعطتها عنوان أهلها ورقم هاتفهم لتخبرهم بأنها في سجن إيفين. تمكنت العائلة في نهاية المطاف من التواصل معها ولقائها بعد نحو 10 أشهر، لكن بعد فترة أوقف النظام الزيارات لأسباب مبهمة.

بعد ثلاث سنوات، وعلى خلفية تحرك المقاومة الإيرانية في الساحات الدولية وخضوع النظام للضغوط واضطراره للإفراج عن مجموعة من السجناء، استعادت هنغامه حريتها وعادت للسكن في طهران وحصلت على فرصة عمل في مستشفى خاص تمكنها من تأمين مصروفها بعدما طردت من المستشفى الحكومي، لكن بعد عام ونصف العام تقريباً، أخبرها زملاؤها في المستشفى ذات يوم أن بعض حراس الأمن جاؤوا إلى مكان عملها، وأدركت أنهم حضروا لاعتقالها مرة أخرى، بخاصة بعدما علمت أنه تم أسر بعض السجناء السابقين مجدداً.

تمكنت بمساعدة أهلها ومناصري قضيتها من الهرب بطريقة غير شرعية من طريق حدود باكستان، ومن هناك انتقلت إلى أوروبا، حيث تعيش الآن.

كانت تجربة الابتعاد عن عائلتها قاسية جداً، إذ استحوذ على كل ممتلكات والدها، ولم يسمح لها بالعمل، لكن الأقسى كانت حالتها النفسية وعدم قدرتها على التحمل بعد كل التعذيب والمشاهد الوحشية التي رأتها. ومثلها مثل كثر، كان عليها أن تداوي جراحها بنفسها، وتدين بالفضل لعائلتها وأصدقائها وعائلات السجناء والمعدومين في قدرتها على تحمل الوضع والاستمرار.

"نظام لا يعرف الله ويتحدث باسمه"

ترى هنغامه أن "المشكلة الحقيقية في إيران منذ البداية، وحتى الآن هي فقط "ديكتاتورية ولاية الفقيه التي تتحدث باسم الله والقرآن واستمرار هذا النظام في اعتقال أفراد من الشعب الإيراني وخنقه وقمعه إلى أقصى الحدود، ودعم وتصدیر الإرهاب والحروب والتطرف إلی المنطقة والعالم، حيث تهدر ثروات الشعب الإيراني، وتدمر طاقات الشعب الإيراني، وتستنزف دماء شعوب المنطقة". وتعتقد أن الوضع لم يتغير بعد أكثر من 40 عاماً، إلا أن هذه السياسة تستمر وتترسخ كلما كشفت أكثر. وتؤمن بأن النظام مُعادٍ للإنسان، ولا مكان له في القرن الـ21 وغير قابل للإصلاح، من ثم لن يتحقق التغيير المطلوب حالياً إلا بإطاحته وتخليص إيران والمنطقة من التطرف والرجعية. وتدعو حكومات الدول إلى التوقف عما تسميه "سیاسة المساومة واسترضاء النظام وإنهاء تجارة الدماء مع هذا النظام وعدم وضع العراقیل وتقييد المعارضة"، وتطالب الشعوب بالضغط على حكوماتها للاهتمام بقضیة الشعب الإيراني. وتقول إن الحد الأدنى المطلوب لحماية حقوق السجناء الإيرانيين هو "كشف المجرمين المتورطين وإحالتهم إلى المحاكم الدولية، إذ يجب أن يفهموا أنهم ليسوا محصنين ولا يمكنهم أن يقتلوا ويسرقوا ویعیشوا بحرية في أوروبا وأميركا وكندا وغيرها من الدول الغربية ویصرفوا أموال الشعب الإيراني في حفلاتهم وتوفير أفضل التسهيلات لأسرهم". كذلك ينبغي على المجتمع الدولي الضغط على النظام لفتح السجون في‌ إيران أمام المؤسسات الدولية، وينبغي أن يكون كل سجين تحت الحماية القانونية الدولية، وألا ترضخ الحكومات لضغوط النظام وتهديداته، وسياسة احتجاز الرهائن.

أما رسالتها إلى الشعب الإيراني الثائر في الداخل فهي أن يلتزم النضال والمقاومة والتضحية، موضحة أن على كل إنسان أن يحدد طريقة نضاله، وتؤكد أنها لو كانت بينهم ستختار الطريق التي سلكتها قبل عقود بكل تأكيد، ولكن بدافع أقوى وسرعة أكبر، إذ يستحيل أن يختار أي إنسان حر ومطلع طريقاً آخر برأيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رحلة العذاب في زنازين الملالي

في عام 2003 اختارت هنغامه تدوين ما تتذكره من تجربتها في السجن ليكون في الأقل شاهداً صغيراً على ما رأته ودليلاً على الفظائع التي ارتكبت باسم الدين. لقيت مذكراتها التي تحمل عنوان "مواجهة الغول: مذكرات سجينة" صدى كبيراً خارج وداخل إيران وبين الأشخاص الذين عاشوا تجربة السجن أو لم يختبروها على حد سواء، وكذلك الأجانب. تأثر القراء بشدة، وقال بعضهم إنه لم يتخيل أبداً أن السجینات تعرضن لتعذيب وفظائع بهذا الحجم والبشاعة.

في كل مرة تعود هنغامه إلى مذكراتها، تستحضر صور الأقدام المنتفخة والأرجل المكسورة والوجوه الشابة المتشحة بالألم، مروراً بالعجائز والأمهات اللاتي رأين أطفالهن يعذبون، ووصولاً إلى لحظات أخذ صديقاتها إلى الإعدام.

على رغم أن هذا مؤلم حقاً، فإن التذكر لا يقتصر على مراجعة الصفحات، فالإنسان لا يستطيع أن ينسى تلك التجارب، ومن أبرزها قصة صديقتها التي تحملت أثناء التحقيق مسؤولية جميع المنشورات التي كانت بحوزة هنغامه، وقالت إنها أعطتها لها فأعدمها بدلاً منها.

ومع ذلك، لا قيمة بالنسبة إلى هنغامه تعلو على حرية وسعادة الشعب الإيراني، إذ ترى النبل يتخلص في النضال ضد النظام الذي تعتبره معادياً للإنسانية وللإسلام والطبيعة البشرية، وأن الخلاص يستحق أي ثمن يبذل من أجله.

المزيد من تقارير