يُعرف الكاتب الكندي الأرجنتيني المولد ألبرتو مانغويل، منذ عام 1982، بكونه "الرجل المكتبة" أو "المؤلف الذي يكتب عن الكتب" أو "القارئ الأكثر شراهة" أو "السيد قراءة"، حتى أن الكاتب والفيلسوف الفرنسي الأميركي جورج ستاينر (1929- 2020) أطلق عليه لقب "دون جوان المكتبات". ويُعرف عن مانغويل أنه صاحب مقولة: "أستطيع العيش من دون كتابة، بيد أنني لا أقوى على العيش من دون القراءة... القراءة مثل التنفس، وظيفة حياتية أساسية".
ألبرتو مانغويل الذي يقرأ بالألمانية، ويكتب بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، وضع معظم مؤلفاته في فن القراءة، ولا بد من الإشارة إلى أن معظم مؤلفاته موضوعة بالإنجليزية ما عدا كتابين وضعهما بالإسبانية وبعض المقالات الموضوعة بالفرنسية والإيطالية. وصاحب الكتاب الشهير "تاريخ القراءة" الذي صدر عام 1996 وتمت ترجمته إلى 35 لغة، كان أول من تناول فن القراءة من وجهة نظر شخصية، وأتبع كتابه هذا الذي صنع شهرته بكتب أخرى حول القراءة مثل كتاب "يوميات القراءة" (2004) و"المكتبة في الليل" (5200) و"قارئ يتحدث عن القراءة" (2010) وغيرها من الكتب والمقالات المتعلقة بالقراءة والقارئ والعلاقة بالنصوص.
والجدير ذكره أن مانغويل لا يقدم نظريات أدبية في القراءة بل يكتفي بممارسة القراءة والتطرق إلى الروائع الأدبية العالمية وتقديم الملاحظات والتحاليل انطلاقاً من متعته الخاصة هو المهووس بالقراءة، وقد صدر حديثاً كتاب بعنوان "حياة متخيلة" (دار الساقي، 2023، ترجمة مالك سلمان) هو كناية عن حوار طويل يمتد على ما يناهز مئتي صفحة قامت به الكاتبة سيغلندة غايزل مع مانغويل حول عاداته في القراءة وحياته الشخصية وعائلته وطفولته وأسفاره وتوليه منصب مدير مكتبة الأرجنتين الوطنية، والأهم من ذلك، يتطرق الحوار إلى العلاقة التي ربطت مانغويل بالكاتب الأرجنتيني الذائع الصيت بورخيس (1899- 1986).
مانغويل الإنسان
يبدأ الحوار في "حياة متخيلة" منتصف أبريل (نيسان) عام 2020 وينتهي في ديسمبر (كانون الأول) 2020 أي أنه يمتد على مرحلة الحجر الصحي التي عرفها العالم جراء انتشار وباء كوفيد. وعلى مدار 27 فصلاً يتحدث مانغويل عن طفولته وعن علاقته بأمه وأبيه ومربيته إيلين التي كانت تعامله باحترام وتقدير، وكأنها تتعامل مع شخص ناضخ، وكانت هي السبب وراء تعلقه الأول بالقراءة لأنه قرأ معها منذ صغره فاوست وغيره من كلاسيكيات الأدب الألماني. ويذكر مانغويل أنه لم يكن على احتكاك مع أي أطفال آخرين في صغره ولا حتى مع أشقائه، بل طالما انجذب إلى القراءة والكتب هو الذي يقول: "أدركتُ في وقت مبكر أن العالم الخارجي، أن ما يقع خارجي أنا، موجود في الكتب... أعطتني القراءة عذراً مقبولاً لعزلتي، بل ربما أعطت مغزىً لتلك العزلة المفروضة علي". ثم يضيف لاحقاً في الحوار: "هويتي مرتبطة بهوية الكتب المحيطة بي" (ص196).
ويتطرق مانغويل في قسم كبير من هذا الحوار إلى علاقته ببورخيس، هو الذي وضع كتاباً عنه عطفاً على المقالات والنصوص الكثيرة التي كتبها عنه. فيصف علاقته ببورخيس قائلاً: "لم تكن علاقة صداقة. ولم تكن علاقة بين معلم وطالب، ولم تكن حتى نوعاً من المعرفة الأدبية. كانت شيئاً مختلفاً تماماً." (ص74). وتبدأ علاقة مانغويل ببورخيس لإصابة هذا الأخير بالعمى وهو في خمسينياته وحاجته إلى من يقرأ له الأدب. فعندما كان مانغويل في السادسة عشرة تقريباً، راح يقرأ لبورخيس مؤلفات كثيرة فرضت على الاثنين تمضية وقت طويل معاً. ويبدو من حديث مانغويل أن الساعات التي أمضاها رفقة بورخيس كانت ساعات قيمة علمته الكثير. فهو يقول لمحاورته سيغلندة غايزل عندما تسأله عن أهم أساتذته: "خورخي لويس بورخيس في الدرجة الأولى. علمني أنني لست بحاجة إلى نظرية، وأن المعرفة التي يقدمها الأدب لا تأتي من النظرية بل من المتعة التي نستمدها من الكلمات والأفكار، ومن الطريقة التي يتم التعبير بها عن هذه الأفكار... علمني بورخيس أن الأدب هو تجربة في الحب لا تتطلب منك الالتزام بشريك واحد" (ص73).
مانغويل القارئ
يرى مانغويل أن في فعل القراءة ثلاثة عناصر لا تتغير وهي: الكاتب والقارئ والنص. فيعتبر أن هؤلاء الثلاثة يتفاعلون بعضهم مع بعض ولكل منهم مزاياه وخصائصه ودوره الذي يؤديه ولا ضرورة للإغراق بالنظريات الأدبية والتيارات النقدية ليؤديه بشكل جيد. فيقول: "اللقاء بين القارئ والكتاب يحدث لأسباب غامضة. وتتعلق هذه الأسباب بطبيعة الكتاب، وطبيعة القارئ، وطبيعة الزمن والظروف. الأمر أشبه بالوقوع في الحب." (ص80).
يتحدث مانغويل بشغف واضح عن حبه للقراءة، ومن أبرز الكتب التي يؤثرها "دونكيشوت" و"الجبل السحري" و"أليس في بلد العجائب" ومؤلف دانتي "الكوميديا الإلهية" الذي أصبح "أهم كتاب في حياته" (ص80). ويتحدث مانغويل عن أربعة مستويات على الأقل للقراءة هي: المستوى الحرفي والرمزي والأسطوري والأخلاقي (ص86). ويضيف قائلاً إن "القراءة عبارة عن حديث متبادل. إنها حديث يكون فيه للقارئ الكلمة الأخيرة. فالقارئ يؤول ما يقوله النص من دون أن يتمكن النص من التدخل في هذه العملية. إن أحد أشكال القراءة الممتعة يتمثل في القراءة الجماعية... القراءة مع صديق أو مع مجموعة من القراء يسمح بظهور تأويلات أخرى للنص" (ص97).
وبحنكة ظريفة يتحدث مانغويل عن الثلاثة الذين لا يشجعون المرء على القراءة، وهم: السياسي الذي يريد إحكام قبضته على العقول ولا يريد للناس أن يقرأوا ويتثقفوا، والتاجر الذي يريد تنمية النزعة الاستهلاكية لدى الناس بينما الإنسان القارئ لا يستهلك فلا يفيده بشيء، وأخيراً المثقف الذي لا يريد لأحد غيره أن يقرأ ليحتفظ بشعوره بالفوقية تجاه الآخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن مانغويل يدرك من ناحية أخرى أن الأدب لا يغير المجتمع. يعترف هذا القارئ النهم بأن الأدب والشعر لا يمكن أن يغيرا في مجرم أو في متطرف أو في فاشي، لكنهما يصنعان هوية أمة ويغيران في الإنسان المستعد للتغيير، فيقول: "قد لا تغير الكتب من آلامنا، قد لا تصوننا الكتب من الشرور، قد لا تقول لنا الكتب ما هو الخير أو ما هو الجميل، كما أنها بالتأكيد لن تقينا من المصير المشترك الذي يُدعى القبر، لكن الكتب تعطي آلاف الاحتمالات: احتمال التغيير، احتمال التنوير".
العلاقة بالأدب العربي
لا بد من أن أحداً لم ينسَ الصراع الذي قام في فبراير (شباط) 2020 في تونس بين بيت الرواية برئاسة الكاتب التونسي كمال الرياحي الذي دعا مانغويل إلى لقاء يتحدث فيه عن الكتب والقراءة، وبين وزارة الثقافة التونسية التي طلبت تأجيل زيارة ألبرتو مانغويل إلى تونس إلى وقت لاحق. وانتهى الصراع بأن نجح الرياحي باستضافة مانغويل في الوقت المحدد، بدعم عدد كبير من مثقفي تونس ومن بينهم رجاء بن سلامة مديرة المكتبة الوطنية، وحبيب الزغبي صاحب مكتبة دار الكتاب، والشاعر والمترجم آدم فتحي، والروائي شكري المبخوت الفائز بالبوكر العربية عام 2015، والإعلامي والكاتب ماهر عبد الرحمن، والإعلامي نصر الدين اللواتي وعدد كبير من المثقفين التونسيين والعرب.
وعلى رغم شكوك وزارة الثقافة التونسية حول مانغويل، يبدو هذا الأخير معجباً بالثقافة العربية هو الذي يقول عنها في إحدى المقابلات المجراة معه: "لا أعتقد أن هناك أي ثقافة أخرى تحتوي على هذه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والشعر". ثم يعيد ذكر إعجابه بالأدب العربي لدى تطرقه إلى "ألف ليلة وليلة" وعندما يقول بشكل صريح في حواره هذا: "أتمنى لو أنني أنتمي إلى الهوية العربية التي تثير اهتمامي بشكل عميق" (ص53).
"حياة متخيلة" كتاب جميل ومثير في القراءة وحب الكتب، يسرد فيه ألبرتو مانغويل علاقته بالكتب والحياة والوالدين والأصدقاء والأبناء والمجتمع والصراعات الدولية والدينية. في حوار مفصل يكاد يكون سيرة ذاتية، يسرد مانغويل علاقته ببورخيس وباللغات وبالكتابة، هو الذي يعتبر نفسه قارئاً أكثر منه كاتباً، ويصف علاقته الحيوية بالكتب والأدب بشغف جميل قائلاً: "بصفتي كاتباً. وأنا أتردد كثيراً في إطلاق هذا التوصيف على نفسي، أشعر بتحسن كبير عندما أكتب. أشعر بالمواساة. أشعر بالسكينة. ففي هذا العالم المليء بالجنون، تبدو الكتابة بالنسبة إلي المكان الأكثر عقلانية" (ص142).