Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واشنطن والشرق الأوسط والبحث عن المكان والزمان الضائعين

هل أسقطت حرب غزة خيار العزلة عن صناع القرار السياسي الأميركي لمواجهة خطر اتساع خريطة النفوذ الروسي والصيني؟

خلال الساعات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" كانت طائرة الرئيس الأميركي تحط في تل أبيب (رويترز)

في تعليقه على صدور كتاب "القوة والإيمان والخيال/ أميركا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى الآن" لمؤلفه مايكل أورين، يقول المؤرخ الأميركي الجنسية، الاسكتلندي الأصل نيال فيرجسون "إذا كنت تظن أن الدور الأميركي في الشرق الأوسط بدأ مع روزفلت وترومان فإنك حكماً فاتتك قصص كثيرة ساحرة عن مبشرين ومتحمسين ومرتدين وذوي أفكار متطرفة وسائحين ومنبهرين، كلهم أميركيون وقعوا في غرام منطقة الشرق الأوسط منذ وقت بعيد".

يقطع أورين بأن معرفة الأميركيين المطردة بالشرق الأوسط تعكس الدور الرئيس الذي تحتله المنطقة في حياتهم.

ولعله من صحيح القول إن الأميركيين اكتشفوا مع بدايات القرن الـ21 أنه إذا لم يذهبوا هم إلى الشرق الأوسط فإن الشرق الأوسط سيأتي إليهم، بإمكاناته تارة وإشكالاته تارة أخرى.

والشاهد أن الولايات المتحدة أصبحت متضامنة ومشاركة في الشرق الأوسط بصورة كبرى تمس حتى وجودها وكيانها، فحرب العراق والتهديدات الإرهابية والبحث عن موارد للطاقة والوقود يمكن الاعتماد عليها أصبحت موضوعات تفرض نفسها على وسائل الإعلام في الساحة الأميركية بوجه عام وعلى خطة العمل القومية بوجه خاص.

في هذا السياق تساءل البعض لا سيما خلال فترة رئاسة دونالد ترمب: هل أميركا قادرة أو راغبة في "فك الارتباط" مع الشرق الأوسط دفعة واحدة؟ لا سيما بعد أن اعتبر ساكن البيت الأبيض حينها أنه لا يوجد في تلك المنطقة سوى "النار والرمال والدموع والدماء"، في تشويه متعمد لعبقرية الزمان والمكان، وأهمية موارد تلك المنطقة.

يتساءل المراقبون اليوم: هل فقد الشرق الأوسط أهميته بالنسبة إلى أميركا، أم أن أميركا وبحكم عالم يقترب الهوينى من زمن "القطبية المتعددة"، لم تعد صاحبة النفوذ الأكبر أو اليد العليا؟ ثم هل جاءت الحرب الأخيرة في غزة لتستعيد واشنطن من جديد أهمية تلك المنطقة بالنسبة إلى الأمن والاستقرار الدوليين، وحتمية حضورها هناك، مما يعني إغلاق ملف النزعة الانعزالية التي دعا إليها ترمب وعدد من كبار السياسيين والمفكرين الأميركيين؟

إدارة بايدن وأزمة فك الارتباط

ليس سراً القول إنه مع وصول الرئيس جو بايدن إلى سدة البيت الأبيض بدأت رحلة مثيرة في العلاقات مع الشرق الأوسط، لا سيما الدول الكبرى والرئيسة فيه، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، حين أطلق تصريحات لا تتسق وعمق العلاقات التاريخية بين واشنطن والرياض، مما دعا كثيراً من المراقبين السياسيين، أميركيين وعرباً، إلى الانتباه لقادم الأيام، لا سيما بعد أن اعتقد البعض أن الوقت قد حان لانسحاب أميركي من الشرق الأوسط، مشابه جداً لما جرى في أفغانستان، وبالفعل فقد قامت واشنطن بسحب عدد من بطاريات صواريخ باتريوت، ونقلها إلى مناطق أخرى، مما اعتبر عربون "فك الارتباط" إن جاز القول.

غير أن زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة العربية السعودية والحفاوة التي تمت مقابلته بها، دعت الأميركيين إلى التفكير في تراجع حضورهم شرق أوسطياً وخليجياً، مع التبعات والخسائر الاستراتيجية المترتبة على تراجع النفوذ الأميركي وتصدر الصين المشهد.

حاول بايدن في قمة يوليو (تموز) 2022 التي حضرها عدد وافر من الزعماء والرؤساء العرب في الرياض أن يطمئن حكام المنطقة بأن "أميركا لن تنسحب من الشرق الأوسط ولن تترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران"، غير أن التصريحات الرسمية من بايدن، غالباً لم تمثل يقيناً كاملاً وشاملاً لسكان العالم العربي، لا سيما في ظل سعي بايدن إلى إحياء المسار النووي مع طهران.

يكتب الباحث مايكل يونغ، من معهد كارنيغي في الـ16 من ديسمبر (كانون الأول) 2022، تحت عنوان "ينبغي صياغة النقاشات الكثيرة حول الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط" يقول "لدى بادين خلال السنتين المتبقيتين من ولايته فرصة لبلورة استراتيجية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط من شأنها إقناع شركائه الإقليميين أن الولايات المتحدة قادرة على تلبية حاجاتهم".

غير أنه فيما تضم استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي تعتمدها هذه الإدارة مجموعة من الأفكار الجيدة، إلا أن عدداً كبيراً منها سيسترعي تفكيراً مطولاً من حلفاء واشنطن. فالولايات المتحدة تتعهد تقليل اعتمادها على "السياسات الموجهة عسكرياً"، لكنها تضع لاحقاً أهدافاً تدفع إلى التشكيك في هذا الالتزام، بما فيها مساعدة الدول في الدفاع عن نفسها في وجه أي تهديد خارجي أو التعبير عن استعدادها "لاستخدام وسائل أخرى" في حال فشلت الدبلوماسية مع إيران في منع حيازتها سلاحاً نووياً.

الآن وبعد مرور ثلاثة أعوام من زمن إدارة بايدن ما رأته الدول العربية من هذه الوثيقة التي صدرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، كأول وثيقة للأمن القومي الأميركي في عهد بايدن، لم يتجاوز مرحلة المراوغة والوعود الفضفاضة للغاية وأحياناً المتضاربة، بحيث بات من الصعب معرفة شكل السياسات الأميركية، وبخاصة في أوقات ضبابية يمر بها العالم برمته، وسط ملفات عميقة مفتوحة الجراح في أوكرانيا وخلافات مع أوروبا، مع الأخذ في الاعتبار وجود الدب الروسي متيقظاً للغاية لأهداف الناتو التي تقودها أميركا من جهة، ولصحوة فاعلة وناجزة للتنين الصيني ترتبك خطوط طول وخيوط عرض الدبلوماسية والعسكرية الأميركية معاً وفي توقيت واحد.

أميركا والعرب... سياقات دولية متغيرة

يعن لنا التساؤل: هل العلاقات الأميركية الشرق أوسطية تخضع بالضرورة للتغيرات التي تعتري أوضاع العلاقات الدولية في العقدين الأخيرين بنوع خاص؟

حتى سقوط الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات وما جرى لدول أوروبا الشرقية من تفكك وتحلل بعيداً من القبضة الحديدية لموسكو، كانت الوضعية العالمية يسيرة وسهلة التقسيم بين معسكرين أو فسطاطين.

 لم يكن الشرق الأوسط والعالم العربي بدوره بعيداً من هذا التقسيم، فقد كانت غالبية دوله تنحاز لواشنطن والقليل السائر والدائر في فلك موسكو.

بدت الحقيقة المؤكدة أن قواعد النظام العالمي القديم قد تغيرت، وأن واشنطن هي سيدة العالم من دون منازع، مما عبر عنه الرئيس بوش الأب بمفهوم "النظام العالمي الجديد"، وإن شئنا الدقة فقد كان "النظام الأميركي الجديد" المنفرد بمقدرات العالم.

على أن الحقيقة المؤكدة كذلك أن هذا النظام لم يقدر له أن يستمر أكثر من ثلاثة عقود وها هي ذي دول العالم تواجه حالة من اللانظام الدولي، في انتظار بزوغ فجر نظام عالمي آخر، ملامحه ترتسم في الآفاق، عالم من أقطاب متعددة، قد لا يكون بعضها في قوة وقدرة الولايات المتحدة عسكرياً، غير أن بعضها الآخر قد يمتلك من القدرات الاقتصادية والمالية ما يفسح المجال لشراكات ولو نسبية اليوم، ومطلقة غداً، تباعد بين واشنطن ونفوذها الدولي على كل بقاع وأصقاع العالم ومنها الشرق الأوسط والعالم العربي، التي يبدو بعضها بدوره ماض في طريق مغاير لما جرت به المقادير من قبل.

وسط السيولة الجيواستراتيجية الحالية باتت قطاعات جغرافية عالمية ترفض فكرة القواعد الأميركية للنظام العالمي الجديد، حيث "مفهوم القوة الخشنة"، هو الأمر الوحيد الذي تؤمن به واشنطن، وتعتبر محاولة تعديله أو تغييره مدخلاً للفوضى.

من هنا تتبدى ملامح ومعالم تمرد دولي، ضمنه دول عربية، تنضوي يوماً تلو الآخر تحت تكتلات إقليمية ودولية وازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده التي رسمت واشنطن خريطتها، تجسيداً لفكرة الهيمنة الغربية شبه الأزلية، وتغليباً لمصالحها على مصالح بقية دول العالم.

هنا يبدو أن حالة التمرد الأممي على واشنطن وفي ثناياها منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، إذا استثنينا إسرائيل، تتصاعد يوماً تلو الآخر، وبخاصة في ظل استعادة روسيا قدرتها العسكرية، وظهور الصين كمنافس قادر على مشاغبة أميركا على صعيدين، الأول موصول بالقدرة على التجميع والتشبيك الأممي، وهو ما نراه في مبادرة الحزام والطريق، إذ توجد دول من أوروبا وآسيا وأفريقيا في هذا التجمع، والثاني المقدرة الاقتصادية، إذ بكين مرشحة لأن تضحى قاطرة العالم الاقتصادية بنهاية العقد الحالي.

يبدو الشرق الأوسط بدوره نقطة ضعف قادمة للسياسات الأميركية، بل ومرشحة للارتهان بعوامل عدة، منها شعور سكان المنطقة بتراجع الدور الأميركي عالمياً، فواشنطن تنكشف اقتصادياً يوماً تلو الآخر بسبب ديونها الخارجية والداخلية، وشروع كثير من الدول في رفض الاستمرار في الارتهان لعملة الدولار غير المغطاة التي يمكن في حال وقوع أزمة مالية عالمية أن تتحول إلى مجرد أوراق مطبوعة للذكرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل خسرت أميركا الشرق الأوسط؟

تبدو سيرة ومسيرة العلاقات الأميركية - الشرق أوسطية أوسع وأعمق من أن تحتويها سطور معدودات، غير أنها مثيرة بالفعل، ففي أوقات بدا وكأن واشنطن هي العدو الأكبر للعالم العربي، وربما يعد الرئيس ليندن جونسون، صاحب أسوأ انطباع في تاريخ العلاقات بين الجانبين، فقد كان اليد الظاهرة وليس الخفية في هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967.

وهناك رؤساء غيره، ترك بعضهم مسحة تصالحية تسامحية على تلك العلاقات من عينة ما فعله الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، الذي يحسب له تاريخياً أنه الرجل الذي استطاع نزع فتيل الحرب بين مصر وإسرائيل بعد أربعة عقود من المعارك الحربية، والتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد.

من أهم الكتب التي صدرت في العام الماضي، التي تناولت شأن هذه العلاقات، كتاب ستيفن سايمون، الدبلوماسي الأميركي والمعنون "الوهم الكبير: صعود وسقوط الطموح الأميركي في الشرق الأوسط".

تأتي شهادة سايمون كواحد من أهلها، فقد عرف طريقه باكراً في وزارة الخارجية الأميركية خلال إدارتي ريغان وبوش الأب، ولهذا كان قريباً من "مطبخ السياسات الأميركية"، بل وصل إلى مناصب عليا في مجلس الأمن القومي خلال عهدي كلينتون وأوباما.

عمق الكتاب يظهر واحدة من أخطر سمات السياسات الأميركية عبر تاريخها الطويل، وهي الازدواجية والتناقض الأخلاقيين، فعلى سبيل المثال يتوقف عند الدور الأميركي في صناعة عملية السلام شرق أوسطياً، ويصف القائمين عليه بأنهم بيروقراطيون ركزوا على العمليات اللوجيستية التقليدية، ولم يسعوا أبداً في طريق التفكير في معدات وميكانيزمات، تيسر بالفعل من نشوء وارتقاء سلام حقيقي على الأرض.

أكثر من ذلك فإنه يوجه اتهامات لجميع الرؤساء الذين خلفوا جيمي كارتر، الذي يبدو جلياً أنه كان مدفوعاً برؤى إيمانية ووجدانية حقيقية، تتسق وشخصيته وكاريزميته المتواضعة، وحبه لصنع السلام من مفهوم روحي، بخلاف بقية الرؤساء، إذ لم تبد أن هناك مصلحة لأحدهم في التوسط لقيام سلام حقيقي بين إسرائيل وجيرانها العرب.

والثابت أن هناك لحظات مفصلية جعلت أميركا طرفاً دولياً غير محبوب أو مرغوب من سكان الشرق الأوسط والعالم العربي، فعلى رغم الخسائر الفادحة التي حلت بمصر والأردن وسوريا وفلسطين في يونيو (حزيران) 1967، فإن الحرب كانت وقتها تدور في إطار الصراعات العسكرية النسبية...

ومع الضربات العسكرية الأميركية الأولى لأفغانستان عام 2001، وبعد الاعتداءات المنكرة على نيويورك وواشنطن، اعتبر كثر في المنطقة العربية والإسلامية أن الحروب تنطلق من قاعدة دينية، وأن واشنطن تحارب الإسلام والمسلمين، مما استجلب ذكريات عميقة من الأسى في أزمنة الحروب الدينية.

والمؤكد أنه على رغم أن العراق لم يكن دولة دينية ثيوقراطية فإن الغزو الأميركي له في مارس (آذار) 2003، دفع مزيداً من المواطنين العرب والمسلمين إلى بلورة موقف مناهض للوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ربما هذه المرة من مرتكزات سياسية مؤدلجة.

على أن الطامة الكبرى التي ستظل أجيال عديدة تتذكرها للسياسات الأميركية في المنطقة، تلك التي رتبت ودبرت لها إدارة الرئيس باراك أوباما، حيث انفجرت فقاعتها من تونس، وسرت شرارتها إلى عديد من الدول العربية، تحت عنوان مغشوش سمي "الربيع العربي"، هذا الشعار المكذوب الذي عزز تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وفتح الباب واسعاً لموجة هائلة من الإرهاب والفوضى التي تعيشها بلدان مثل ليبيا واليمن والسودان وغيرها، مما برر السؤال عن أي فائدة للعلاقات مع الولايات المتحدة، وبخاصة في ظل إصابة في القلب تم توجيهها لقضية العرب والمسلمين المركزية... ماذا عن هذا؟

حرب غزة والدعم الأميركي لإسرائيل

يمكننا التساؤل وبعمق: هل عمقت حرب غزة الأخيرة من الشرخ الحادث في النفسية والعقلية العربية والإسلامية تجاه واشنطن؟

قبل أسبوع واحد من عملية "طوفان الأقصى" كتب مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان قائلاً "إن منطقة الشرق الأوسط أصبحت اليوم أكثر هدوءاً مما كانت عليه خلال العقدين الماضيين".

يمكن اعتبار الأمر نوعاً من أنواع سوء التقدير والحسابات الاستشرافية، وهي خطيئة كبرى في حق واشنطن مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وصاحبة أقوى أجهزة الاستخبارات البشرية والتكنولوجية حول العالم.

على أن الأمر الأهم هو السياسات الأميركية التي تلت عملية الطوفان، تلك التي أظهرت انحيازاً واضحاً وفاضحاً لحكومة تل أبيب.

هنا تتبدى قوة العلاقات الإسرائيلية - الأميركية في مواجهة هشاشة نظيرتها العربية - الأميركية، فعلى رغم أن الكيمياء بين الرئيس الأميركي بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لم تكن يوماً على ما يرام، فقد بادر الأول إلى زيارة تل أبيب في الأيام الأولى لحرب غزة، مظهراً تعاطفاً غير مسبوق مع تل أبيب، ومشاركاً في اجتماعات مجلس الحرب، وهو ما لا يجوز عرفاً وقانوناً، فهذه اللقاءات سيادية وسرية، بما لا يسمح لغريب بالمشاركة فيها.

لكن بايدن لا يرى نفسه غريباً، بل يعد حاله صهيونياً وإن لم يكن يهودياً، فهو الكاثوليكي اسماً، وشبه مطرود من المؤسسة الرومانية الكاثوليكية فعلاً، بسبب دعمه الإجهاض والشذوذ والإباحية.

لم يقتصر الأمر على الزيارة غير المسبوقة، بل انفتحت أبواب مخازن السلاح الأميركي على مصراعيها أمام الطلبات والرغبات الإسرائيلية، حتى وإن كانت "أسلحة غبية" غير موجهة، لكنها تصيب عشوائياً وتسقط القتلى والجرحى.

ومن جانب آخر وقفت واشنطن مرتكزة إلى حق النقض في مجلس الأمن في مقابل أي مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار وإنهاء أعمال العنف في غزة.

عملت واشنطن بصورة سريعة على استعادة إسرائيل وضعيتها كقوة عسكرية قادرة، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل وإصابة نحو 100 ألف فلسطيني خلال ثلاثة أشهر.

غير أنه وعلى الجانب العربي والإسلامي تآكلت أو اضمحلت أية بقية باقية من أمل في أن تكون واشنطن يوماً ما وسيطاً نزيهاً في عملية سلام حقيقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو أمر تعزز من خلال رفض نتنياهو القاطع فكرة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، حتى ولو كان المقابل في تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية.

هل هو زمن تراجع الوجود الأميركي لصالح القوى الرابضة خلف الباب تنتظر الفرص المواتية لملء فراغات التراجع الأميركي؟

هاس وشرق أوسط بعد أميركا

ريتشارد هاس هو المنظر الأميركي الاستراتيجي الأشهر، والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركية في نيويورك، أحد أهم المراكز الفكرية التي تصيغ أفكار تتبلور لاحقاً لسياسات، سواء للبيت الأبيض أو للخارجية الأميركية.

يستشرف هاس منذ عام 2019 فكرة عالم شرق أوسطي من غير وجود أميركي، فقد كتب في "نيويورك تايمز" مقالاً تساءل فيه عن أي ثقة خلفتها إدارات أميركية متعاقبة، تخلت فيها واشنطن عن شركائها الأكراد في سوريا، أولئك الذين قاتلوا ببسالة لدحر تنظيم "داعش"، وقد وقفت الإدارة الأميركية وقتها وقفة المتفرج، وعندما هاجمت الطائرات من دون طيار والصواريخ الإيرانية منشآت النفط في السعودية خيم الصمت فوق رؤوس الأميركيين الرسميين تحديداً.

هل الرؤساء الأميركيون - وليس الشعب الأميركي ـ هم السبب في تلك الجفوة؟

هذا ما يؤكده هاس بالفعل، إذ يرجع جذور المشهد إلى بوش الابن، الذي أثبت قراره بشن حرب غير مدروسة، وسيئة التصميم ضد العراق، معتبراً أنها نقطة تحول في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأدت الكلف الباهظة لتلك الحرب ونتائجها السيئة إلى رفض الرأي العام الأميركي التدخل العسكري في المنطقة، مما أثر في الرئيس أوباما، لأنه اختار متابعة تحذيراته للنظام السوري من أن استخدام الأسلحة الكيماوية من شأنه أن يتجاوز "الخط الأحمر"، وأن يثير عواقب وخيمة. كما قرر أوباما عدم متابعة التدخل بقيادة الناتو في ليبيا، وهو تدخل أطاح معمر القذافي، لكنه ترك وراءه دولة منقسمة وفاشلة.

أدت سياسة "القيادة من وراء الكواليس" لباراك أوباما، ومن بعده نفور دونالد ترمب من التدخل العسكري في المنطقة إلى فتح شهية قوى إقليمية بعينها، تتمثل في إيران وتركيا وإسرائيل، والعمل على تقسيم المنطقة، ومن ثم شيوع وذيوع الفوضى في جنباتها، وتالياً تهديد المصالح الأميركية في البحار والأنهار والطرق المسلوكة، إلى التساؤل من جديد: هل يجب على واشنطن العودة مرة أخرى للشرق الأوسط ومحاولة تعويض ما فاتها، عبر تغيير سياساتها، أم أنه "فات الميعاد"؟

هل من فرصة لعودة ثانية؟

دفعت وتدفع تطورات الأحداث في الشرق الأوسط الثقات من الأميركيين إلى التساؤل: هل يجب على واشنطن أن تعيد قراءة المشهد الشرق أوسطي، وأن تتخلص من أوهام الفكرة الانعزالية، وإنهاء وجودها الشرق أوسطي، حتى وإن كانت هناك نقاط ملتهبة في بقاع عالمية أخرى، كما الحال مع بحر الصين الجنوبي وجزيرة تايوان ومنطقة الإندوباسيفيك وغيرها؟

من الذين ساءلوا هذه الأيقونة المزعجة للأميركيين في شأن الشرق الأوسط أخيراً البروفيسور سوزان مالوني، نائبة رئيس "برنامج السياسة الخارجية"، مديرة البرنامج في معهد بروكنجز، عبر مقالها الأخير في مجلة "فورين بوليسي" عدد أكتوبر الماضي.

تقول مالوني "كان هجوم حماس الصادم على إسرائيل، ما أذن ببداية مرحلة ونهاية أخرى في الشرق الأوسط. فما بدا هو الحرب المقبلة، بطريقة شبه محتومة، وهي حرب ستكون دموية ومكلفة، ولا يمكن التنبؤ بمسارها ونتائجها على الإطلاق. أما ما بلغ خواتيمه، في عين كل من تخوله نفسه الإقرار بذلك، فهو الوهم بأن الولايات المتحدة قادرة على الانسحاب من منطقة هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طوال نصف القرن الماضي".

هل يفهم من حديث مالوني أن على واشنطن العودة من جديد وبقوة؟

يكفي النظر إلى منطقة البحر الأحمر، وما يجري فيها من إعاقة للملاحة الدولية من جانب الحوثيين، وكلاء إيران، وما يحدث من هجمات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق من قبل ميليشيات موالية لطهران، وصولاً إلى جنوب لبنان وتهديداته القوية لشمال إسرائيل.

وإضافة إلى ما تقدم هناك الخسارة الاستراتيجية التي تهدد نافذة السلام التي كادت تنفتح في المنطقة.

مشهد معقد، ينطوي على ما يشبه الفرصة ويتضخم بما يؤكد الخطر، لكن الأمر متعلق في نهاية المطاف بما تقرر واشنطن أن تراه في هذا المشهد وبما ستختار منه، كله أو بعضه، لرسم سياساتها المقبلة.

المزيد من تقارير