ملخص
مشاهد القتل في السينما من الرومانسية والواقعية إلى فترة الخيال العلمي وجنون النار
مشهد القتل في السينما مر بعدة مراحل مثيرة، منها القتل ضمن النزاعات الحربية والعسكرية والذي يخلف عدداً كبيراً من الضحايا، وهذا طبيعي، لأن تأزمها ينتج كوارث مثل الحروب العالمية.
النوع الثاني من مشاهد القتل التي تناولتها السينما هي الصراعات الاجتماعية، "من أجل لقمة العيش" كما شاعت تسميته في السينما العربية، وفي هذا النوع تختلف تفاصيل المشهد لأن عدد الجرائم أقل بكثير بل يكون نادراً أحياناً، وتتمحور حوله كل تفاصيل العمل الفني، لذلك تدخل الكاميرا في تفاصيل المشهد لتنقل أدق هذه التفاصيل.
وتعد هذه المشاهد الأكثر إثارة ضمن العمل كلّه، فالموسيقى التصويرية ترتفع بشكل ملحوظ وتصبح صاخبة تثير المشاعر وتهيجها لدى المشاهد والمؤدي، ولكن محاولة إثارة الجمهور في مثل هذه المشاهد وصلت إلى درجة انقلب فيها السحر على الساحر، إذ تحولت بعض مشاهد القتل إلى مقاطع هزلية ساخرة، تتناقلها مواقع التواصل، لتثير ضحك الناس واستهزاءهم، فيما تحوّل إنتاج وتصوير تلك المشاهد في أحيان أخرى إلى كوارث حقيقية، وقع ضحيتها أفراد من طاقم التصوير وبعض العاملين في صناعة الفيلم على يد زملاء لهم في العمل.
تبادل الأدوار
لكن نوعاً غريباً من تبادل الأدوار حصل بين الحالتين وبين الواقع والخيال، إذ انتقلت بعض تقنيات وأدوات الحروب والصراعات الحقيقية إلى السينما، بحكم التصاق الفن بالواقع، وهذا التبادل بين الحالتين تمثّل في ازدياد كميّة القتل وتزايد عدد القتلى في أغلب مشاهد السينما الحديثة.
ظهر ذلك تحديداً بعد دخول "المسدسات" في صناعة السينما، إذ يمكن القول إن مشاهد القتل القليلة التي كانت تظهر في الأفلام القديمة (الأبيض والأسود) في بداية السينما في زمن الأسلحة البدائية مثل العصا والسكين (فترة بروس لي والفتوات في مصر) بكل أنواعها، انقرضت نهائياً وحلت محلها مشاهد القتل بأدوات مثل السلاح الآلي بكل أنواعه وتطبيقاته الهائلة والمرعبة.
ويمكن تلخيص هذه الحالة بالقول إن تقنيات الحروب السياسية وأدواتها الحربية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً، تسربت إلى هذه الصناعة الخيالية، مما نتج منه ازدياد هائل في عدد الضحايا الذين يمكن سقوطهم في فيلم واحد، خصوصاً بعد تطوّر تقنيات الخداع السينمائي وأجهزة ومعدات علوم الإنتاج والإخراج والتصوير، إذ ظهر ذلك بشكل واضح في السينما الغربية وهوليوود، لاعتمادها الكامل على نظريات الخيال العلمي، بينما ظل في نطاق المعقول وضمن "أدب الحارة" في السينما المصرية والعربية.
الخيال العلمي
السينما تحديداً في فترة الأبيض والأسود كانت لا تملك إمكانيات متطورة، على مستوى النص والتقانة، لإخراج ذلك المشهد بالدقة المطلوبة، لذلك عمد المخرجون والمؤلفون في وقتها إلى تجسيد مخيلتهم الساذجة ضمن العمل وحتى ضمن مشاهد القتل المعقدة نفسياً وعلمياً.
ومن تلك التجليات لخيال الإنسان البسيط في السينما لمشهد القتل تحديداً، ظهرت لحظة درامية أثارت استغراب وسخرية بعض الجماهير، وهي لحظة يجعل المخرج أو المؤلف فيها الضحية يستند إلى أكتاف الجاني للحظات، إذ يمكن خلالها بث رسالة أو حتى حوار صغير مقتضب يوجز فكرة الفيلم كاملاً.
هذا النوع من الخيال حل مكانه تدريجاً الخيال العلمي، ومن الطبيعي تغيير وقائع هذا المشهد كاملاً، لأنها لا تعتمد على مشهد القتل في سرد الأحداث كما في الخيال الإنساني البسيط، إذ تجنح المخيلة العلمية إلى تطبيق نظريات علم النفس الحديثة.
ومن الطبيعي أن تبلغ حصيلة القتلى في فيلم واحد حديثاً ألف شخص أو أكثر، مما يصعب بث مشاهد القتل كلها، وهذا يعني أن العلاقة بين الجاني وضحيته أخذت بعد الخيال العلمي بدلاً من البعد الواقعي الذي ساد في بعض محطات السينما والدراما في الزمن القديم.
وترافق ذلك تحديداً مع انتهاء زمن مخيلة السلاح التقليدي الذي يستخدم للضرب أو للطعن من مسافة قريبة جداً، وانتقالنا إلى زمن السلاح الآلي والدخول في تعقيدات مخيّلة هذا السلاح الأشد فتكاً وإيذاء من الأسلحة القديمة، والذي يحدث فيه القتل من مسافات بعيدة وضمن نطاقات أوسع وأدق بكثير.
تحليل شخصية القاتل
التحليل البسيط لشخصية القاتل العادي هو السمة المميزة للسينما القديمة التي تميزت بقلة وندرة مشاهد القتل وذلك لأنها حدثت نتيجة معرفة القاتل بضحيته عن قرب بينما مشاهد القتل الحديثة تكاد لا تلمح فيها وجوه وأشكال القتلى لكثرتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن ربط هذه الظاهرة بشكل جوهري بطبيعة الأداة المستخدمة في الجريمة (النبّوت والسكين) والتي تنم عن عقلية منفذها البسيطة في مقابل استخدام الآلة والتي من أشهر أدواتها السلاح الآلي بكل أنواعه وتطبيقاته الشخصية خصوصاً التي يمكن حملها باليد مثل المسدس والبندقية وصولاً إلى الرشاش وكاتم الصوت وغيرها.
فترة الحارة
عربياً تغيرت مشاهد القتل في السينما بحسب الأداة المستخدمة لذلك، وفي فترة "أولاد حارتنا" للروائي المصري نجيب محفوظ كان "النبّوت" أشهر أداة لارتكاب تلك الجريمة، وهو سلاح خشبي أو عصاة محولة إلى سلاح، إلى جانب السكين والسيوف وغيرها من الأدوات.
وإذا تتبعنا أفلام "النبّوت" في الحارة المصرية القديمة فترة الثمانينيات من القرن الماضي، سنجد أنها تدور في مجملها حول فكرة الأخلاق وقيم المجتمع العليا، التي ترتبط جذرياً بالمعتقدات الدينية السماوية التي كانت سائدة في تلك الفترة في مصر العثمانية، وأول ما يلاحظه المتفرّج هو تحريف بعض الأشخاص لتقاليد "الفتونة" التي كانت تحكم الحارة المصرية، وتظهر هذه الفكرة بوضوح في فيلم "سعد اليتيم" للمخرج أشرف فهمي عام 1985 وكذلك في فيلم "التوت والنبّوت" 1986 والتي تبرز فيها فكرة القتل انتقاماً للمجتمع وقيمه ومثله العليا.
عامل القوة البدنية
الفتوة هو الشخص الذي يحمي تلك القيم وليس الشخص الذي يسطو على جيوب الفقراء والمستضعفين والمهمشين "الحرافيش" وفق تسمية الأديب المصري نجيب محفوظ، وحدّدت هذه الفكرة كل قواعد الاشتباك في المجتمع، بين الفتوات أنفسهم وبين الفتوات والزعامات الجديدة التي تظهر بين عامة الناس.
ويمكن الانتباه إلى اهتمام المجتمعات وقتها بعامل القوة البدنية للإنسان بوصفه عاملاً حاسماً في تلك المواجهات مع التنويه إلى أن ارتباط القوة البدنية بالذكور تحديداً لم يكن دائماً العامل الحاسم في تحديد الفتوة، والدليل على ذلك ظهور أعمال هزلية ساخرة لأساطير الكوميديا العربية أمثال إسماعيل ياسين وعبدالفتاح القصري وغيرهم ممن تناولوا حكاية فتوة المرأة ضمن قالب ساخر مباشر أو غير مباشر.
مع ذلك ظل مشهد القتل عن قرب هو المشهد الأكثر تأثيراً بالجماهير ولكنه حدث أحياناً بدافع الغدر، إذ تأتي الطعنة من الخلف فلا يترك القاتل فرصة لضحيته للاستعداد للمواجهة والاتكاء على الجاني فيسقط صريعاً بشيء من الاحتقار والهمجية.
انتقلت مشاهد القتل من الحارة إلى نطاق أوسع بكثير شمل كل مناحي المجتمع، ودخلت أدوات القتل الحديثة الآلية بدلاً من السكين والنبوت اللتين انقرضتا بشكل شبه تام، ومع هذه النقلة تولت المخيلة الجديدة للإنسان مؤلفاً أو مخرجاً أو حتى متفرجاً مهمة إنجاز مشاهد القتل الجديدة وفق تكتيكات وآليات مختلفة للغاية ولكنها مرتبطة أكثر بما يمكن تسميته مخيلة القتل العلمي، هذا إن جازت التسمية.
إبراهيم الأبيض
القتل لا يتم وجهاً لوجه أبداً إلا في مشاهد نادرة تتطلب الحبكة فيها ذلك، والقتل في الحارة المصرية مثلاً، تحوّل مع تطور الحياة إلى عنف شديد كما في فيلم (إبراهيم الأبيض) للمخرج مروان حامد عام 2009، لكنّه مع ذلك احتفظ بجوهر الحارة المصرية، فلم يتعد حدود الإيذاء الشديد بهدف الردع والدفاع عن النفس واستعادة الحقوق المسلوبة، ويوضّح الفيلم أن الإقدام على القتل لا يكون إلا اضطرارياً وناتجاً في الأغلب من تهوّر الضحية.
ويمكن القول إن زمن مشاهد القتل في الدراما العربية ما زال يتحكّم فيها الإنسان بغض النظر عن طبيعة الأداة المستخدمة في تلك العملية، إذ يتولى الشخص مسؤولية تحقيق العدالة حين يعجز القانون عن استرداد حقوقه، وذلك يكون بالرجوع إلى منظومة قيم المجتمع التاريخية، والتي تتقاطع مع زمن "النبوت" بكل ما يمثّله ذلك الزمن من محمولات ودلالات أخلاقية وجمالية، تَمكّن الإنسان من عكسها على بعض أحداث المجتمع المعاصر ضمن فترة زمنية مختلفة تماماً عن سابقتها قديماً.