ملخص
شباب سوريون يهربون من قيود المجتمع نحو تجارب مساكنة تكاد تصبح علنية
لم تكن المساكنة شيئاً معروفاً ومفهوماً أو حتى سهلاً في سوريا قبل سنوات عدة، إذ يتسم المجتمع السوري بطبعه المحافظ عموماً، يمكن الاستدلال على ذلك من التفاهمات السياسية – الدينية القائمة داخل جسد النظام السوري، التي لطالما شكلت نموذجاً تشريعياً تحالفياً تطغى فيه القيم الدينية ضمن سياق شكلها المعتدل على المظهر العام للمجتمع الشامي – السوري الأعم، وإن كانت تلك المفاهيم أقرب إلى الصوفية في مناطق بعينها، وإلى الاعتدال النسبي في مفهوم الدولة وعلى مستوى مدنها الرئيسة المؤثرة، مع حالات خاصة كانت ترجح فيها كفة التشدد على صعيد مناطق وقرى حتى ما قبل الحرب السورية تبعاً لعادات وتقاليد وأعراف وأنماط حياة سائدة.
إلا أن مناطق بعينها تمكنت من الإفلات القسري أو القهري أو النمطي، لأسباب مجتمعية أو تكوينية خاصة، من تلك الحالة الملتزمة التي تضع شباب المجتمع تحت عين الرقيب (الأهل، الأصدقاء، الجيران وغيرهم)، مستفيدةً من انعكاسات جذور ثقافية أو اقتصادية ارتبطت بشكل وثيق بالحرب التي بدّلت ما بدلته في الديمغرافيا السورية وجعلت من محظورات الماضي رغبات قابلةً للتحقيق من دون قيود تُذكر إذا ما أُتيحت لها فرصة النمو.
وزادت الحرب بوضوح شديد من مستوى التغيير الاجتماعي، فجعلت من المساكنة أكثر علانية مما كانت عليه في أي وقت مضى، أي ما قبل الحرب، حيث بالكاد كانت موجودة كما هي الآن، إذ تنامت القصة "الظاهرة" باطراد. ويمكن القول إنه في دمشق على وجه الخصوص وبصورة متزايدة يتضح المشهد أكثر، جامعاً بين أطراف يختلف شكل العلاقة بينها، من الزمالة، إلى الصداقة، أو التعاون في تسديد أجور العقار، وصولاً لمشاريع الزواج المؤجلة. ولأنها العاصمة باتساعها وكثرة سكانها، تتضح فرادة ضمها أكثرية المتساكنين.
نزعة التمرد
"انظر، داخل كل فتاة سورية نزعة للتمرد والتحدي، لا أدري إن كان هذا ما خلقته الحرب فينا، فيوم بدأت الحرب كان عمري 19 سنة بالضبط، ولكني أعرف الآن تماماً ما هو الفرق بين التشارك المبني على الأخلاق وما بين الإباحية، وللأسف هذا المجتمع لا يستطيع التمييز"، هكذا تقول الفتاة ليدي هرشو لـ "اندبندنت عربية"، غير مبالية بذكر اسمها كاملاً بعدما فقدت كل أسرتها في حلب خلال الحرب ولجأت إلى دمشق لتكمل دراستها وحياتها في رحلة تصفها بـ "الشاقة حد الاستنزاف لفتاة فقدت حضن والدين وكتف إخوة، وما توقفت الحياة في غيابهم عن صفعها". وتضيف "الحياة في دمشق ليست كما حلب أو أي مدينة أخرى، هنا نمطها سريع للغاية، الكل مشغول بنفسه، لا أحد لديه وقت للتفكير بالآخر، غلاء فاحش، أجور لا تُعقل، يجب أن يعمل المرء ويدرس في آن، ثم أن يتخرج ويعمل عملاً أو وظيفتين ربما، وبعد كل ذلك قد لا تسد الأجور التي يتقاضاها مصاريف السكن".
"أخوّة لا حب"
ماهر مهندس تعرفت إليه ليدي خلال دراستها، نمت بينهما صداقة، لم يبخل ماهر خلالها في تقديم كل مساعدة من دون أي مقابل، تلك الصداقة قادت الاثنين إلى الاتفاق على شراكة سكنية في منطقة المزة بدمشق. ولم توفر ليدي فرصةً لتعيد التأكيد خلال حديثها أن ما يربطها بماهر صار علاقة أخوية لم يحصل فيها شيء مما يمكن أن يربط عاشقين على مدار سنين طويلة.
وعن ذلك تقول، "قد أكون عانقته وقد يكون عانقني، لكن هذا المجتمع بالضبط بموروثاته لا يفهم أن شاباً وفتاةً ينجحان في أن يكونا أخوين أو صديقين، دائماً ينحصر تفكير الناس في علاقات غير شرعية، التي تسيطر على البلد حقيقةً، ولكن من تحت الطاولة والستار".
لم تعد خافية
ليس من الصعوبة على الإطلاق البحث عن حالات المساكنة والعثور عليها في دمشق، فهي لم تعد مخفية وغالباً أصحابها لا يخفونها، بخاصة أنها تكاد تنحصر بالقادمين من خارج العاصمة السورية، تاركين خلفهم أسرهم، لأسباب كلها مرتبطة بالحرب. قادمون من مدن تعرضت للقصف، من جامعات توقفت عن العمل، من أماكن لم يعد فيها فرص للعمل، ولطالما، بعد الحرب وحتى قبلها، مثلت دمشق الملاذ الآمن للحرية الشخصية وفرص العمل الجيدة، وعلى سبيل المقارنة إن كان اليوم هناك مئة منشأة قطاع خاص في مدينة حمص وسط البلاد ففي دمشق ثمة ألف، وهكذا. وإن كان نصف حلب مدمراً فإن دمشق المدينة سليمة، وهكذا. وإن كانت المنطقة الشرقية تخضع لتجاذبات عسكرية، فإن دمشق آمنة، وهكذا.
ليس على الجميع أن يعلم
التوجه نحو المساكنة جاء ضمن "ثورة ليبرالية" مضادة ولِدت في أنفس أجيال شابة كردٍ مباشر على الحرب التي سيطرت عليها أصوليات متعددة خلقت مخاوف كبرى لأجيال لم تنخرط بأي شكل في الصراع، بل كانت في سنٍ صغير لم يتح لأفرادها أساساً أن يكونوا أطرافاً في الحرب بل شهوداً ورثوا الندوب والقلق والآفات والتشدد الذي عاد ليتنامى داخل عائلات كثيرة، مرةً خوفاً، ومرةً تماهياً مع ما يحصل.
تعبر عن تلك الأفكار بشكل أو بآخر "منار" وهو اسم مستعار لفتاة تتشارك السكن مع "حبيبها" في حي الشعلان وسط دمشق. وتقول، "أسكن أنا وحبيبي منذ عامين في ذات المنزل من دون أن نتعرض لأي إزعاج من الجوار، نعم نحن لا نجاهر بالأمر، إذ تقتصر معرفته على دائرتنا الضيقة لا سيما أن كلانا نعمل في ذات الشركة، ونعتقد بأن المجتمع أكثر قصوراً من أن يفهم الحريات الفردية".
ريثما نتزوج
"منار" الهاربة من جحيم البطالة في مدينة طرطوس الساحلية لا يعرف أهلها شيئاً عن الموضوع، يعتقدون أنها تقطن مع صديقتها، نادراً ما يزورونها وحين يحصل ذلك تنفذ ما تسميه بالخطة "الاحتيالية" مع شريكها الذي يترك المنزل ليوم او اثنين قاصداً منزل أحد رفاقه، فتسير الأمور على ما يرام، على حدّ تعبيرها.
كان خيار منار مساكنة شريكها ناجماً عن عجزهما إتمام مشروع زواج تحت وطأة الظرف الاقتصادي القاهر. وتقول "ما بيننا هو علاقة زوجية حقيقية يسودها الاحترام والألفة والمودة وسكننا المشترك ما هو إلا تحضير وانتظار لفرصة سفر ملائمة بعدها يصير الزواج تحصيل حاصل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المستأجر والمؤجر
وتكاد تجارب وأسباب ونتائج تجارب المساكنة أكثر من أن تعد وتحصى حتى راحت كثير من المنازل ذات الغرف المتعددة في أحياء باب توما، وباب شرقي (دمشق القديمة)، تفتح أبوابها لسكن جماعي يحظى فيه ذكور وإناث بغرف داخل منزل مشترك، وقد يكون بين أولئك الساكنين عاشقون أو أصدقاء، كلّ منهم يأخذ غرفةً مستقلة مجاورةً للأخرى، وعادةً ما يكون تعداد الغرف بين أربع إلى خمس، وبالتأكيد لن يكون هناك أي قيود تمنع أو تحظر عليهم زيارة بعضهم في غرفهم أو نوم أحدهم أو سهره عند الآخر أو القيام بأي نشاط.
حتى وقت قريب كان يصطدم المستأجر بالمؤجر الذي كان يرفض الأمر قطعياً، وصولاً إلى القبول من رافضين كثر سابقين، مقابل تحصيلهم مبالغ إيجارية أعلى. وضمن هذه المعادلة صار إتمام أمور المساكنة أكثر يسراً وسهولةً، ففي السابق لطالما اصطدم المؤجر بالمستأجر الذي يفرض شروطاً قاسية، وفي حال وجد فتاةً في منزل شاب أو العكس كان يهدد بالإخلاء وكثيراً ما حصل ذلك.
طرد وقبول
عند الحديث عن الانفتاح الليبرالي للفئة الشابة القادمة إلى دمشق يجب الانتباه جيداً إلى أن هناك أيضاً عقبة المجتمع الشامي (الدمشقي) الذي يمثل التمسك الديني الأوسع عامةً، على رغم تنوعه الديني المتعدد والمتباين دينياً وطائفياً، إلا أن المساكنة انتشرت أخيراً ولو بشكل غير تام الأركان بالمطلق، وهذا ما يعبر عنه مريد، المهندس في إحدى شركات دمشق. ويقول، "عانيت كثيراً مع صاحب المنزل، حين علم بوجود فتاة لديّ، حاولت إقناعه بكل الطرق أنها لم تكن حبيبتي، هي شريكة سكن وصديقة فعلاً، ولكنه أصر على طردي متهماً إياي بالانحلال الأخلاقي، وحين اخترت منزلاً آخراً أخبرت صاحبه منذ بالبداية بالموضوع وبأن هذه الفتاة ليست إلا أختاً لي وبأنه يمكنه زيارتنا متى شاء، ومع القليل من زيادة الأجرة وافق الرجل".
موقف القانون
يصف المحامي منير حمادة موقف القانون السوري حيال المساكنة بـ "الملتبس وغير الواضح نصاً وتشريعاً"، مبيناً أن "شكل المساكنة من الخارج ينظر إليه على أنه إقامة فتاة وشاب داخل منزل واحد بشكل متصل وقد تصل تلك العلاقة بينهما إلى المعاشرة الجنسية خارج إطار الزوجية".
ويوضح المحامي أن "العلاقة تلك نفسها غير مجرّمة قانوناً إذا ما تمت بين عاقلين بالغين راشدين برضاهما الكامل من دون ضغط أو إكراه أو تهديد، لكن المشرع الجديد عاد ليشرح أن الزنا يعاقب عليه القانون وفق المادة 473 قانون عقوبات سوري، ويعاقب كلاهما بالحبس بمدد زمنية متفاوتة يلعب فيه الدور الأبرز كون أحد الطرفين متزوجاً أم لا. ولتتم العقوبة فيستوجب ذلك حكماً وحصراً وجود شكوى من الأب أو الأخ أو الزوج أو أحد المتصلين نَسباً".
وبحسب حمادة فإن "كل ذلك مجتمعاً لا يجرم المساكنة كمفهوم طالما لم يرد في ذلك مادة قانونية واضحة"، مؤكداً من جديد التباس القانون حيال المساكنة وتركه الباب موارباً.
مما لا شك فيه أن سلطات النظام السوري تغض النظر تقريباً بشكل شبه كامل وتام عن تلك الحالات، إذ تمتلك بيانات كاملة للسكان عن طريق الأجهزة الأمنية والمخاتير والبلديات وغيرهم، فيما تلتزم فقط بمداهمة الشقق المشبوهة والمتصلة بأعمال الدعارة، وقد يكون ذلك مفهوماً في إطار عدم التضييق على فئة شابة تنشغل بنفسها بعيداً من السياسة والعسكرة.