ملخص
حين يصور الفن الواقع فيبدو الأول أكثر تعبيراً ورسوخاً مما أراد تصويره
لا شك في أن الباحث والناقد والتر بنجامين كان يستعير من المفكر والفنان والمناضل الإنجليزي ويليام موريس حين تحدث عن واحدة من لوحات مواطنه أوتو ديكس المعتبر واحداً من أقوى التعبيريين الألمان، وذلك تحديداً من خلال لوحته الشهيرة "بورتريه للصحافية سيلفيا فون هاردن" (1926) قائلاً: "لعل اللافت في أمر هذه اللوحة المرسومة، مقارنة بالصورة الفوتوغرافية التي نقلها الرسام بخطوطه وألوانه، شعوري وأنا أتأملها بأني ألمح مهنتها كصحافية من خلالها، بينما أشعر وأنا أنظر إلى الأصل الفوتوغرافي فأجدني أمام امرأة حسناء قد تكون مجرد قارئة لمقالات الصحافية التي رسمها ديكس". ومن الواضح أن المقولة التي قد تكون وردت في ذهن بنيامين وهو يصدر هذا الحكم هي تلك التي يتساءل فيها المفكر الإنجليزي عما يجعل الفن يتجاوز في معناه الأصل الحياتي الذي انطلق في الأصل منه. وكذلك من الواضح أن بنيامين كان يفكر في الوقت نفسه بعدد كبير من لوحات ديكس ورفاقه من أساطين التعبيرية الألمانية التي اختتمت عصر تلك التعبيرية مع حلول بدايات الربع الثاني من القرن العشرين وظهور النازية الهتلرية التي حظرت تلك اللوحات مرسلة التعبيريين إلى المنافي أو إلى السجون أو إلى الصمت. وربما كانت لوحة ديكس "ثلاثية المدينة الكبيرة" (1927 وما تلاها) في مقدمة تلك اللوحات، من خلال مقارنتها بالمدينة (دابلن) كما عبر عنها الإيرلندي جيمس جويس في روايته "يوليسيس" ولكن من المؤكد أن ما قاله بنيامين عن لوحة "الصحافية" يفي بالغرض أكثر!.
بين فنين معبرين
والحقيقة أن مقارنة مدققة بين اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية المعنية نفسها، تضعنا مباشرة في مواجهة ما تعبر عنه كل منهما. ويبدو ذلك أكثر قوة من خلال ما تعمده الرسام من أن يقلب الجلسة الرزينة التي تجلسها الصحافية والتي على رغم الأسود والأبيض تظهر ملاحة وجه تلك التي ربما كانت من الشهرة والمكانة في الحياة الاجتماعية الألمانية في ذلك الحين إلى درجة أن المصور الفوتوغرافي الأشهر في برلين في زمنه أوغست ساوندر، قد قصد مدينة كولونيا كي يلتقط لها مجموعة من الصور تبرز ليس فقط جمالها، بل كذلك قوة شخصيتها بوصفها نموذجاً للمرأة الألمانية الجديدة بعدما كان قد التقاها في إحدى المناسبات وافتتن بها وبشخصيتها إلى درجة أنه راح يتحدث عنها حين عرض صورتها باعتبارها صحافية مع أنها كانت في الحقيقة موظفة حكومية. لكنه أراد أن يقدمها هكذا على الأرجح. ولعل إرادته هذه تتعلق بلغز لافت ينطلق منها. فالمصور التقط الصورة بحسب كل المعطيات المتوافرة، في عام 1931. ومع ذلك فإن لوحة ديكس التي دائماً ما ربطت بها بل حتى قيل إنها رسمت قبل التقاطها، تعود إلى العامين 1926 - 1927. وهو أمر كان ساوندر كثيراً ما يلفت النظر إليه مبدياً دهشته إزاء الذين قاربوا بين اللوحتين.
المرأة نفسها في نظرتين؟
مهما يكن من أمر، مع مرور الزمن بات يبدو واضحاً أن الصورتين تعبران، ولكن كل منهما في اتجاه، عن صورة لامرأة قوية لها صلة بالحياة العامة وتبدو في الحالتين شديدة الوثوق بنفسها في تلك الجلسة التي تجلسها كل منهما من دون أن نكون متأكدين من أي الفنانين قد سبق الآخر في رغبته في التعبير ليس فقط من خلال النظرة التي تلقيها صاحبة البورتريه على العالم المحيط بها. لكن المهم بالنسبة إلينا هنا هو بالتأكيد لوحة ديكس التي من الأرجح أن ساوندر قد رآها مبكراً وتمكن من العثور على الموديل التي رسمها الفنان التعبيري لتنتمي إلى ذلك التيار الفني المتفرع عن التعبيرية والذي سيسمى لاحقاً "تيار الموضوعية الجديدة" وهو تيار ربما يكون هدفه من خلال البعد الكاريكاتوري الذي حلق فيه على خطى ديكس ولكن أيضاً على خطى رفيقه جورج غروس الذي سيكون أكثر لؤماً في أعماله وأقل درامية بل حتى أكثر تسيساً من ديكس، كحال عدد كبير من فنانين انتهى بهم الأمر إلى خوض المعركة جهاراً ضد القيود التي فرضتها النازية على تلك الفنون التي ستعتبرها "منحطة" وتدمر في احتفالات وثنية عامة عدداً كبيراً في نتاجاتها من كتب ولوحات وما شابه ذلك ما إن استتبت لها السلطة. لكن اللوحة والصورة الفوتوغرافية نجتا من ذلك المصير. وبخاصة منهما لوحة "الصحافية" التي لعل من أبرز مميزاتها كونها تعبر من نظرة أولى وسريعة، عن مهنة صاحبة اللوحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المهنة مع متطلباتها
فالصحافية في جلستها هنا تبدو وكأنها تمارس مهنتها – من دون أن تعبأ بما يحيط بها -. وهي تتسم بقدر كبير من اللؤم في نظراتها بل حتى في يديها التي تمسك إحداهما بسيجارة يمكنها وحدها أن تعبر عن أعلى درجات التحدي وكراهية البشر. فهي ناقدة تعرف أن تلك "الكراهية" هي دافعها الأساسي لقيامها بعملها خير قيام. ومن هنا نجد ذلك التحدي ليس فقط في النظرة أو في إمساك بالسيجارة أو وضع ساق فوق أخرى بطريقتها الاستفزازية، بل حتى في تركها علبة السجائر مفتوحة سهلة الاستعمال دلالة على العلاقة بين التدخين والإنتاج الثقافي ناهيك بكأس المشروب الذي يبدو مهملاً هنا إلى حد ما. كما بالجلسة نفسها وقد شغل جسم الصحافية النحيل جزءاً من الكرسي ما يشير إلى قدر كبير من لؤم يطبع تلك الشخصية. لؤم يرتبط من منظور الرسام بذلك "القبح الموضوعي" الذي يطبع ملامح تلك المرأة التي لا ندري حقاً أكانت بالفعل الأصل الواقعي الذي انطلقت منه لوحة الرسام، أم أن العكس هو الذي حدث، أو حتى أن الصدفة الغريبة قد لعبت دورها في كل ذلك الترتيب. ما يمكننا أن نكون واثقين منه على أية حال إنما هو واقع أن في الفارق بين الصورتين وهو فارق يصل إلى حد التناقض في نهاية المطاف، يكمن ذلك الوصف الذي سيسم لاحقاً التيار الفني الذي، كما أشرنا أعلاه سيعرف باسم "الموضوعية الجديدة" معلناً ما سوف يعطى بعد ذلك بعقود اسم "الواقعية المفرطة" في الفن الأميركي الحديث والذي أعطاه إدوارد هوبر لوحاته التأسيسية. لكن أوتو ديكس أعطاه بعداً آخر إذ جعله لا يعبر عن الواقع بل يرسم قبح ذلك الواقع بشكل يوحي بأنه هو الواقع الحقيقي حتى ولو جاءت لوحة ساوندر الفوتوغرافية لتكذبه – وهي فعلت ذلك حتى ولو أن المصور الفوتوغرافي سينكر دائماً أية علاقة لصورته بلوحة ديكس -. وهو ما يبرر على أية حال رفد كلمة "موضوعية" بكلمة "جديدة" ما خلق الفارق الأساسي وتحديداً من خلال الإشارة اللافتة إلى أن الموضوعية هنا لا يمكنها أن تكون مطلقة بل ربما يكون التعبير الإبداعي عنها أعمق ذاتية من منطلق ذلك البعد الكاريكاتوري التشويهي الذي ينطلق فيه الرسام من نظرته الخاصة إلى الواقع من دون أن تتسم تلك الخصوصية بذاتية ما. ويقيناً في نهاية الأمر أن ذلك الجانب من النظر إلى فن أوتو ديكس ورفاقه، يمكنه أن يبدو أكثر وضوحاً أيضاً من خلال التعمق في "ثلاثية المدينة الكبيرة" لديكس نفسه، الثلاثية التي كان والتر بنجامين موفقاً إلى حد كبير في ربطه إياها برواية "يوليسيس" لجويس والتي لا شك أنها إلى استحقاقها أن يجري الحديث عنها من منطلق كونها أحد الأعمال الأدبية الكبرى التي أسست لما سيسمى، من الناحية الشكلية على أية حال، "تيار الوعي" إلى جانب روايات لفرجينيا وولف ولوي فردينان سيلين وروبرت موتزيل ومارسيل بروست... وغيرهم تستحق في الوقت نفسه أن تعتبر نوعاً من عمل ينتمي إلى ما يمكننا اعتباره "موضوعية جديدة" في عالم الرواية، وهي موضوعية ربما يكون عزرا باوند وبعد انتقاله من أميركا إلى أوروبا وتعرفه على كل ذلك الجديد، من أوائل الذين لفتوا النظر إلى تلك الحساسية الجديدة التي ولدت في أوروبا منطلقة من الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت هي ما خلقها على أية حال.... وكان أوتو ديكس واحداً من أبرز من التقطوها.