Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وداد بنموسى تشارك المبدعين تجاربهم التراجيدية

نصوص يطغى عليها طابع المكاشفة والألفة مرفقة برسوم

لوحة للرسام منصور الهبر (صفحة الرسام - فيسبوك)

تعيدنا الشاعرة المغربية وداد بنموسى، في عملها الجديد "في تضام" الصادر عن دار "الفاصلة" في طنجة، إلى شعرية الإهداء، وإلى النصوص الأدبية التي لا يمكن قراءتها بمعزل عن عتباتها، باعتبار هذه العتبات نصوصا موازية بالقصد، وباعتبارها أيضا مفاتيح أساسية للولوج إلى محمولات النصوص الشعرية، خصوصا حين تشكل هذه العتبات النواة الأولى لنشأة القصائد التي تقترحها وداد بنموسى، مرفقة بمنجز بصري، جاء على شكل بطاقات بريدية تضم صور المعنيين بالإهداءات وبلدانهم وتواريخ ميلادهم، وتواريخ وفاة الراحلين منهم. والشاعرة هي التي أنجزت هذه البطاقات الفنية، هي منشغلة أيضا بالفنون البصرية.

يعود تاريخ أدب الإهداء إلى الإمبراطورية الرومانية القديمة، حيث كان مؤلفو الكتب يرفعون أعمالهم مصدرة بعتبات إلى الإمبراطور، في نوع من التقرب إلى مراكز القرار، والبحث عن شرعية ثقافية داخل مجتمع لم تكن فيه الثقافة منفصلة عن السلطة. من ثم كان هذا المسلك الأدبي ذا طبيعة إقطاعية. ومع تعاقب مراحل التاريخ ستغير هذه العلامة اللغوية إحداثياتها من الخطاب العمودي إلى خطاب آخر أفقي، من التراتبية إلى مساحات أخرى تحضر فيها قيم التعاطف والمكاشفة والرغبة في تقاسم المشاعر، والبحث عن امتدادات الذات في الآخر.

لكن ما تقترحه وداد بنموسى، فضلاً عن كونه يقطع مع كل خطاب، لا يتوقف عند الإهداء. فالنصوص المدرجة في كتابها "تضام" لم تتوسل أي وظيفة جمالية، ولم تتخذها الشاعرة ذريعة للتقاطعات الفنية مع تجارب المهدى إليهم، خصوصاً أن معظمهم ينتمي إلى عالم الكتابة، إذ لا يتعلق الأمر بنوع من التثاقف والتداخل النصي والتنويع على تجارب الآخرين، وإضاءة المناطق التي تتشكل منها المرجعية القرائية للشاعرة. إننا أمام تجربة مختلفة تسبكها نداءات باطنية وتقاطبات روحية. فالشاعرة لا تكتب إهداء فحسب إلى مخاطبيها، بل تكتب عنهم، وتكتب منهم، في سياق من المكاشفة والمناجاة والبحث عن الشبيه وتصريف الشحنات العاطفية والنفسية. وهي إذ تفعل ذلك تفضي بنا إلى الإيمان بأن الكتابة هي حالة من التجاذب الروحي.

شعرية التمرد

اختارت الشاعرة أن تستهل كتابها بنصين "طائر أزرق بقلب هادئ" و"من دخل قلبي فهو آمن". النص الأول مهدى إلى محمد خير الدين، والثاني إلى محمد الماغوط، وهما رمزان للتمرد والرغبة الدائمة في الخروج عن الإطارات التي تحد حرية الكائن. وإن كان خير الدين آثر الكتابة باللغة الفرنسية، على عكس محمد الماغوط الذي كتب كل أعماله باللغة العربية، فهما معاً ينتميان إلى الجيل الذي كانت أحلامه أطول من قامته، من ثم كان صوت انهيار هذه الأحلام مدوياً. وقد تغلف أدب الكاتبين بخطاب الخسارة والحسرة على وطن تصفه الشاعر بأنه صار "كومة مسامير". يحضر خير الدين -الكاتب المغربي الذي وضع سارتر قصيدته "الملك" في الصفحات الأولى لمجلة الأزمنة الحديثة، بدل الافتتاحية التي كان يكتبها المفكر الوجودي- حضوراً أسطورياً في كتاب بنموسى، فهو المتوجس المرتاب القلق الحذر، والرائي الذي يشبك يده بيد الجنون، والرجل ذو الطباع الحادة الذي تلوى فوق حبال كثيرة ولم يسقط. تخاطبه الشاعرة بما يشبه العزاء: "أنا لم أكن أعرف ما حدث/ جان بول سارتر هو من أخبرني بما فعلت/ كتبت على الوريقة هكذا: "المهنة: متمرد"/ ثم صفقت باب الحياة بغضب، وغبت في الرماد".

كان فرويد يربط التمرد بأعماق العقل الباطن، في إشارة إلى أن مظاهر التمرد ما هي إلا ترجمة لما يعتمل في اللاشعور، لكن التمرد لدى الشعراء والشاعرات وإن كان نقلاً بالفعل لانفعالات داخلية، فهو تعبير دائم عن رفض قاطع لكل ما يعمل على تسطيح الكائن وإفراغه من إنسانيته، وتنميط حياته، وتحويله من إنسان متيقظ وحر إلى رقم ضئيل ضمن أرقام أخرى في بنية الطاعة والخنوع. لذلك كان الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو يصف التمرد، أو ما كان يسميه عدم الانصياع، بالعماد الحقيقي للحرية.

وعلى رغم مما تعيشه مجتمعاتنا العربية من انفتاح على قيم الحداثة، ما زالت المفارقة قائمة، وما زالت المقاربة الفيزيولوجية واردة. فحين يتعلق الأمر بشاعرة يصير لهذا التمرد ضرائب ومكوس، أولها التماس الدائم مع المجتمع، حيث تتسع مساحات التوتر بين المرأة المبدعة والعالم الذي تنتمي إليه.

في نص عنوانه "لأجل شكري سأعصر طنجة" تخاطب الشاعرة صاحب "الخبز الحافي" وتسميه "شكري العنيد"، وتبني مونولوغاً مشحوناً بالعاطفة، يتداخل فيه المادي بالميتافيزيقي، وإذ تستعيد معه تفاصيل طنجة وجغرافيتها ورموزها وأمكنتها السرية، ترسم لشكري المتمرد صورة شفافة مفعمة بالحنان والرقة. فما التمرد في نهاية المطاف إلا تعبير عن صفاء داخلي يحلم صاحبه بأن يعم الجميع.

حضور تراجيدي للمرأة

توجهت وداد بنموسى في كتابها الشعري بالخطاب إلى مجموعة من المبدعات في عالم الكتابة والسينما والموسيقى والتشكيل، غير أن اختيارها كان مبنياً على التراجيديا. ويكفي أن نتوقف عند أسماء النساء اللاتي كتبت إليهن وعنهن الشاعرة: مارينا تسفايتيفا، مارلين مونرو، فروغ فرخزاد، فريدا كاهلو، آنا أخماتوفا، سيلفيا بلاث، إيميلي ديكنسن وغيرهن من اللاتي كانت المحنة عنواناً عريضاً لحيواتهن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نص "امرأة لا نهائية" تقول الشاعرة لمارلين مونرو التي انتحرت على سريرها بجرعة زائدة من الباربيتورات: "لم تكوني سوى حبة قمح/ سينتهي بها الحصاد/ في مطحنة". وفي نص عنوانه "في الجهة اليقظى من البياض" تسأل سيلفيا بلاث التي مات هي الأخرى منتحرة، لكن بغاز الفرن: "هل كنت طاحونة هواء في قرية بعيدة/ يسكنها فيلسوف يائس من الهواء؟/ هل كنت جريمة انتهت في فرن؟". في نص آخر عنوانه "المشي على اللهب" تتوجه بالخطاب إلى غابرييلا مسترال الشاعرة التي آثرت أن تغلق باب الحب باكراً، وإلى الأبد، بعد أن انتحر حبيبها روميليو عامل سكك الحديد، وهو في عز شبابه: "اقفزي إذن/ من عزلتك إلى خواء ألذ/ ستصبح الحياة هينة/ وسط التيه/ على كرسي وثير/ اسمه النسيان".

تخاطب الشاعرة المغربية أسطورة الغناء الإسباني روسيو خورادو التي خطفها السرطان. وإذ تتغنى بفستانها الشبقي وعطرها الفضاح ومقبض شعرها الفاحم وكعبها الجسور، تخبرها في الآن ذاته أن الحزن هو نقطة التلاقي بينهما: "أسكن منذ حزن بعيد في بحتك يا روسيو خورادو". ألم يقل ألفونس دي لا مارتين: "الحزن المشترك يجمع بين قلوبنا أكثر من السعادة"؟

توجهت وداد بنموسى برسائلها الشعرية المؤثرة إلى نجمة السينما مارلين مونرو، وإلى أعلام الموسيقى: إديث بياف وفيروز وروسيو خورادو ومارسيل خليفة وشارل أزنافور، وإلى أعلام التشكيل: فريدا كاهلو وموديلياني. ووجهت الحصة الكبرى من رسائلها إلى أهل الكتابة: محمد خير الدين ومحمد الماغوط ومي زيادة ومحمود درويش وآنا أخماتوفا وعبدالكريم الطبال ووالت ويتمان ومحمد شكري وفروغ فرخزاد ومارينا تسفايتيفا وفرناندو بيسوا ونيكوس كازنتزاكي.

إن النصوص التي كتبتها وداد بنموسى عن هؤلاء الشعراء والشاعرات والفنانين والفنانات، فضلا عن جمالياتها اللغوية وابتكاراتها في البناء والتصوير، مشحونة بالحزن، وهو حزن مضاعف منبعه مزدوج، تشترك فيه الذات بموضوعها، أي الشاعرة والمكتوب عنهم. لكن من أين يأتي الحزن؟ يقول جبران خليل جبران: "عندما يكون الشخص سريع الحزن تأكد أن هناك من أتعب قلبه من دون رحمة". لكن ألا تستطيع الشاعرة الأسيانة أن تحول دون وصول الأسى إلى قصائدها؟ يقول فرانز كافكا: "كل إنسان يستطيع السيطرة على الحزن إلا الحزين".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة