يثير مشروع قانون يرتقب أن تسنه تونس قريباً جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والمالية للبلاد في شأن اعتزام حكومة أحمد الحشاني الحصول على تمويل مباشر من البنك المركزي لتمويل جزء من عجز موازنة العام الحالي بقيمة مهمة حددت بـ7 مليار دينار (2.2 مليار دولار) تسدد على 10 سنوات وبمدة إمهال 3 سنوات دون توظيف فوائد.
ويؤكد متخصصون أن هذا الإجراء في حال مصادقة البرلمان عليه، الأسبوع المقبل، يعد تعدياً على استقلالية البنك المركزي التونسي، وبخاصة فتح الأبواب على مصراعيها لارتفاع التضخم المالي وتدهور قيمة الدينار التونسي الذي حقق استقراراً في السنوات الأربع الأخيرة.
ووافق مجلس الوزراء التونسي، الأسبوع الماضي، على مقترح مشروع قانون يخول منح البنك المركزي تسهيلات للخزانة العامة تمت إحالته على أنظار البرلمان الذي صادق عليه مكتب البرلمان، الإثنين، وطلب استعجال النظر لعقد جلسة عامة في أقرب وقت للمصادقة على هذا المشروع المثير لكثير من الجدل.
ضائقة مالية
وينص مشروع القانون (تضمن فصلاً وحيداً)، والذي حصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، أن قانون المالية لسنة 2024 تضمن تعبئة موارد اقتراض في حدود 28.1 مليار دينار (9 مليارات دولار) منها نحو 10.3 مليار دينار (3.3 مليار دولار) موارد غير مشخصة، وتتم تعبئة موارد الاقتراض على مدار السنة المالية، وفقاً لإجراءات تستغرق آجالاً تختلف من مقرض لآخر مع الإشارة إلى تعبئة موارد غير مشخصة تتطلب مجهودات أكبر وإجراءات أطول وأكثر تعقيداً.
وبررت الحكومة لجوءها إلى إجراء كهذا بأنه بداية من الأول من يناير (كانون الثاني) 2024 تاريخ دخول قانون المالية حيز النفاذ، بأن "الدولة ملزمة الإيفاء بتعهدات مالية مهمة مرسمة بقانون المالية وضرورية للمحافظة على المرفق وتلبية حاجات المواطن، إضافة إلى التعهدات بعنوان التأجير والدعم والاستثمار وخدمة الدين العمومي". وأوضحت في هذا الغرض أن الدولة ستقوم خلال عام 2024 بتسديد نحو 25.7 مليار دينار (8.2 مليار دولار) بعنوان خدمة دين منها 7.1 مليار دينار (2.2 مليار دولار) خلال الثلث الأول من العام الحالي مع الإشارة إلى أن شهر فبراير (شباط) سيشهد في يوم واحد تسديدات بعنوان قروض رقاعية صادرة بالسوق المالية العالمية بمبلغ يفوق 3 مليار دينار (مليار دولار).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت الحكومة تفسيرها بتأكيد أنه "مع تزايد الضغوط المالية المسلطة على موازنة الدولة بسبب تواصل الأزمة الاقتصادية العالمية من جهة، وصعوبة تعبئة الموارد المالية الخارجية من جهة أخرى، تم التوجه في إطار سد حاجات التمويل المنصوص عليها بقانون المالية للعام الحالي إلى تكثيف تعبئة الموارد بالسوق المحلية بمختلف صيغها من رقاع خزانة قصيرة وطويلة المدى وقرض رقاعي وطني وقروض مجمعة بالعملة الأجنبية".
وتمر تونس بوضعية مالية صعبة، بخاصة على مستوى الخروج على الأسواق المالية العالمية إثر تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى درجة "تجميد العلاقة بين الطرفين في العامين الأخيرين، مما جعل تونس تضطر إلى اللجوء إلى السوق المالية الداخلية (المصارف أساساً) لتعبئة جزء من مواردها المالية.
مأزق قانوني
ونظراً إلى أن التشريع الحالي لا يمكن للبنك المركزي التونسي تقديم تسهيلات مالية خاصة بالفصل الـ25 من القانون الأساس، عدد 35 لسنة 2016، الذي ينص صراحة على " لا يمكن للبنك المركزي التونسي أن يمنح لفائدة الخزانة العامة للدولة تسهيلات في صورة كشوف أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة"، بالتالي فإن إقراض الدولة من طرف مؤسسة الإصدار يستوجب إصدار قانون في الغرض.
يشار إلى أن هناك مبادرة تشريعية بالبرلمان لسن قانون ينقح القانون الأساس للبنك المركزي يخول إقراض الدولة مباشرة، غير أن المشرع التونسي لاحظ أنه تم في عام 2020 خلال فترة فيروس كورونا الترخيص للبنك المركزي بصفة استثنائية في منح تسهيلات لفائدة خزانة الدولة بقيمة 2800 مليون دينار (903.2 مليون دولار).
وخلصت وثيقة شرح الأسباب إلى التوضيح أن دولاً مثل "مصر والمغرب والأردن وموريتانيا ومدغشقر تسمح تشريعاتها لبنوكها المركزية بتقديم تسهيلات للحكومة مع تحديد ضوابط لهذه التسهيلات من حيث المبلغ والشروط المالية".
إجراء محفوف بالأخطار
تعليقاً على هذا الإجراء قال المتخصص في الشأن الاقتصادي بالجامعة التونسية معز السوسي إن هذه العملية توحي في المقام الأول بتنقيح الفصل الخامس والـ20 من قانون 35-2016 المنظم البنك المركزي، وبخاصة في الفقرة الرابعة منه، والذي ينص على "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزانة العامة للدولة تسهيلات في صورة كشوف أو قروض أو أن يقتنى بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة". وأبرز في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن هذا الإجراء الذي يأتي في ظرف صعب تمر به الموازنة العمومية من حيث حتمية رفع التمويلات العاجلة من أجل خلاص الأجور وتمويل مختلف تدخلات الدولة، وبخاصة سداد الديون أصلاً وفائضاً. وأردف أن حاجات تمويل الخزانة لسنة 2024 تفوق 28 مليار دينار منها أكثر من 15 مليار دينار بالعملة الصبة، لافتا إلى أن هذا الإجراء سيسهم من توفير نسبة 32 في المئة من حاجات تمويل الخزانة.
وأمام تعطل الإصلاحات الهيكلية والتنزيل العملياتي لسياسات تحفيز خلق الثروة ودفع نسق الإنتاج، اعتبر معز السوسي أن هذا الإجراء محفوف بأخطار كبرى لعل أهمها رجوع الأسعار إلى نسق تصاعدي بعد أن حققت تراجعاً نسبياً في نسب التضخم خلال 2023. وتابع بالقول "لنا في تجربة تفويض مجلس نواب الشعب في 2020 استثنائياً للبنك المركزي بدعم الموازنة خلال أزمة (كوفيد-19) بمبلغ 2800 مليون دينار (903 ملايين دولار) دليل على التهديدات التضخمية، حيث وصلت الأسعار بعدها إلى مستوى غير مسبوق بتسجيل نسب برقمين، على رغم أن المبلغ حينها لا يتجاوز 31 في المئة ،مما سيسمح به في التفويض الاستثنائي الحالي".
الرئيس مُصرّ
وفي العام الماضي قال الرئيس قيس سعيد عند زيارته مقر البنك المركزي إنه يجب مراجعة القانون للسماح للبنك المركزي بتمويل الموازنة مباشرة من طريق شراء سندات الدولة، وهي خطوة حذر منها محافظ البنك المركزي مروان عباسي، كما تحدثت نائبة المحافظ نادية قمحة إلى الرئيس التونسي بتفسير أن إقراض البنك المركزي مباشرة للدولة سيكون له تداعيات وخيمة على تسجيل مستويات كبيرة للتضخم، وبخاصة في جانبه المالي، إضافة إلى تدهور قيمة سعر الدينار. وينظر المتخصصون إلى هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها تهديد خطر لاستقلال البنك، وتشير إلى احتمال تدخل الدولة بصورة أكبر في السياسات النقدية، بخاصة في ظل صعوبة الاقتراض الخارجي.
محافظ البنك المركزي سيغادر
لكن محافظ البنك المركزي مروان العباسي الذي سيغادر منصبه في فبراير 2024، وفق مصادر رسمية لـ"اندبندنت عربية"، كان قد نبه في عام 2022 من أن خطط الحكومة لمطالبة البنك بشراء سندات خزانة لها أخطار على الاقتصاد، بما في ذلك مزيد من الضغط على السيولة وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة التونسية، وقال آنذاك إن هذه الخطوة ستؤدي إلى زيادة التضخم بصورة لا يمكن السيطرة عليها، مضيفاً أن "السيناريو الفنزويلي سيتكرر في تونس".
حسن توظيف القروض
ومن جانبه قدم المحلل المالي بسام النيفر قراءة تحليلية لتقديم البنك المركزي تسهيلات للدولة، مبرزاً أن ضخ مبلغ 2.2 مليار دولار في الاقتصاد سينجر عنه زيادة التضخم، وأن البنك المركزي لن يقوم بمراجعة الفائدة الرئيسة من أجل حماية قيمة الدينار، مرجحاً أن تظل الفائدة الرئيسة في مستويات عالية (8 في المئة حالياً)، أو ربما ترفيعها، من ثم مزيد التأثير في تمويل الاقتصاد سلباً.
وفي المقابل قال لـ"اندبندنت عربية" إنه بالإمكان التقليل من خطر التضخم جراء حصول الحكومة على تسهيلات من المركزي التونسي، مشترطاً أن يتم توجيه الموارد المالية في أغراض التنمية ودفع الاستثمار وخلاص المزودين ورفع الإنتاج، لا لخلاص الأجور أو صرف المساعدات والإعانات الاجتماعية.