ملخص
بلغ الانسداد الداخلي الحاد في السودان مبلغاً حرجاً
مع حلول أمس الجمعة، انتهت المدة التي أعلنتها منظمة "إيغاد" (المنظمة الحكومية للتنمية) توقيتاً لاجتماع كل من البرهان وحميدتي في غضون 15 يوماً خلال قمتها الطارئة الـ42 بالعاصمة الأوغندية كمبالا في الـ 18 من يناير (كانون ثاني) الماضي. لكن ما سيبدو واضحاً من تصريحات قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان أمام قوات اللواء (44) في منطقة حلفا الجديدة (شرق البلاد)، الثلاثاء الماضي يوحي بأن الأخير ماضٍ في مواصلة القتال، إذ صرح البرهان خلال ذلك اللقاء موجهاً خطابه لقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي"، "سنلاحقك ونحاسبك ونحمّلك المسؤولية عن كل ما قمتم به من سرقة ونهب وقتل واغتصاب". كما صرح البرهان خلال ذلك اللقاء بحسب قناة "الشرق للأخبار" بأن "أي مبادرة من إيغاد لا تعنينا وهذه المنظمة غير معنية بالشأن السوداني"، مضيفاً أنه "لن تفرض علينا أي جهة خارجية حلولاً لإنهاء الحرب" ومؤكداً على موقفه الداعي إلى تسليح الشعب بالقول "نرحب بكل مستنفر قادر على حمل السلاح والدفاع عن الوطن وجاهز أن يصطف معنا في القوات المسلحة السودانية". وأخيراً قال البرهان في ذلك اللقاء مخاطباً رئيس تنسيقية "تقدم" عبدالله حمدوك، "الحل والتفاوض داخل السودان ولن نسافر للقاء أي شخص في الخارج".
يتحدث البرهان بذلك الأسلوب الآنف الذكر، على رغم المعطيات كافة التي تؤشر إلى اختلال ميزان القوة العسكرية ورجحانه لمصلحة قوات "الدعم السريع" من ناحية، والمؤشرات الأخرى الدالة على فداحة ما خلفته الحرب من خسائر بحياة المدنيين الذين سجلوا أكبر موجة نزوح في العالم بحسب تقارير الأمم المتحدة التي أفادت بنزوح 10 ملايين سوداني من مناطق الحرب، في أقل من 10 أشهر على اندلاع الحرب من ناحية ثانية.
ويتحير المراقب لطبيعة التصريحات الصادرة عن البرهان في ظل حرب وصفها قائدا الطرفين المتحاربين بأنها "حرب عبثية"، بينما يصر الجيش والمتحالفون معه من دعاة استمرار الحرب على خوضها للنهاية، فيما تؤكد إفادات إعلامية واضحة لقائد "الدعم السريع" بأنه مستعد لوقف الحرب في أقرب فرصة من ناحية، ومستعد كذلك للقاء البرهان من ناحية ثانية.
اختلاف موقفي قائد الجيش و"الدعم السريع" من الحرب والسلام في السودان، كشف للمجتمع الدولي والإقليمي الحريص على وقف هذه الحرب العبثية، إلى أي مدى أصبح اليوم من الوضوح بمكان معرفة الجهة التي تعوق وقف الحرب، لذلك بدا واضحاً دعم المجتمع الدولي ممثلاً بالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي للموقف الذي خرجت به قمة "إيغاد" الطارئة رقم 42 في كمبالا وخطتها للحل في السودان، بحسب قناة "سكاي نيوز"، إذ شدد بيانها على ضرورة "وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار وكذلك وقف الأعمال القتالية لإنهاء هذه الحرب الظالمة التي تؤثر في شعب السودان، تمهيداً للمضي قدماً في طريق الحوار السياسي". وأكد البيان ضرورة "التزام أطراف النزاع عقد اجتماع مباشر في غضون 14 يوماً" لافتاً إلى أن الدول الأعضاء في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، "ستستخدم جميع الوسائل والقدرات لضمان حل النزاع في السودان سلمياً"، إضافة إلى اعتماد خطة "إيغاد" التي تشتمل على "وقف إطلاق النار الدائم وتحويل الخرطوم إلى عاصمة منزوعة السلاح، وإخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز تجميع تبعد 50 كيلومتراً من العاصمة ونشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الاستراتيجية، فضلاً عن معالجة الأزمة الإنسانية والبدء بعملية سياسية لتسوية الأزمة بصورة نهائية لحل مشكلة الحرب السودانية" وهي خريطة كان أقرها من قبل الاتحاد الأفريقي.
في الجانب الآخر، كانت التعبيرات والخطوات السياسية المرتبكة لحكومة الجيش في بورتسودان ترسل رسائل سلبية إلى المجتمع الدولي والإقليمي، مثل الاستهزاء بالقرارات الإقليمية والدولية المتصلة بوضع الحرب في السودان، والمجازفة باعتماد استراتيجيات أمنية خطرة على المجتمع السوداني، مثل السماح بانتشار السلاح بين المدنيين عبر دعاوى ما سمي "المقاومة الشعبية"، إلى جانب بحث حكومة الجيش في بورتسودان عن حلفاء منبوذين من طرف المجتمع الدولي والإقليمي كإعادة العلاقات مع إيران خلال اللقاء الذي جمع وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق مع النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر، على هامش قمة حركة عدم الانحياز، المنعقدة في مدينة كمبالا عاصمة أوغندا خلال يناير الماضي، في محاولة لاستئناف العلاقات التي عُرف بها نظام الإخوان المسلمين ورئيسه المعزول مع إيران طوال عقد التسعينيات، كما ثبت أنه قد تم تزويد حكومة الجيش في بورتسودان بطائرات مسيّرة من طراز "مهاجر 6" التي دخلت على خط المعارك بين الجيش و"الدعم السريع"، (بحسب فيديوهات نشرتها قوات "الدعم السريع").
كل تلك المعطيات عكست ارتباكاً واضحاً لحكومة الجيش في بورتسودان، وكانت أكثر من كافية لإثارة ردود فعل دولية وإقليمية، بخاصة في ظل إصرار الجيش على مواصلة الحرب على رغم التداعيات الأمنية الكارثية على الشعب السوداني جراء النزوح غير المسبوق في العالم، مما استتبع رسائل واضحة من أطراف دولية وإقليمية وعربية تدعو إلى وقف الحرب، كالموقف الواضح الذي أعلنه وزيرا الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان والمصري سامح شكري في القاهرة خلال مؤتمر صحافي دعيا فيه إلى وقف الحرب في السودان. أما مواقف المجتمع الدولي والولايات المتحدة، فكانت واضحة في دعم كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة لما خرجت به قمة "إيغاد" الأخيرة. من جهتها، اتخذت الولايات المتحدة خطوات عدة لتأكيد رفضها موقف الداعين إلى استمرار الحرب كالجيش وحلفائه من مؤيدي الحرب، فكان أن أعلنت واشنطن قبل يومين، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط" أنها "ستقدم مبلغاً يصل إلى 5 ملايين دولار لمن يسهم في اعتقال كل متعاون سابق مع الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير المتهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور"، في إشارة إلى أحمد هارون، إذ جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية أنه "من المهم العثور على هارون وتقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية للرد على الاتهامات الموجهة إليه لأن هناك صلة واضحة ومباشرة بين الإفلات من العقاب على الانتهاكات المرتكبة في ظل نظام البشير بما فيها تلك التي يتهم هارون بارتكابها، وأعمال العنف الدائرة في دارفور اليوم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانب آخر، كانت هناك إفادة واضحة للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أمام مجلس الأمن الدولي الإثنين الماضي طاولت بالاتهام كلاً من الجيش السوداني و"الدعم السريع"، وجاء فيها أن "هناك سبباً للاعتقاد بأن جرائم ينص عليها نظام روما الأساسي تُرتكب حالياً في دارفور بأيدي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وجماعات تابعة لها".
وفي تقديرنا أن هذا الحراك الإقليمي والدولي الذي يرفض الحرب بوضوح سيعزل حكومة الجيش في بورتسودان أكثر فأكثر، مما سينعكس خلال الأيام المقبلة (بخاصة بعد انتهاء المهلة التي حددتها منظمة "إيغاد" بأمس) عبر تداعيات قد تصب في نشاط عسكري مكثف بين كل من الجيش و"الدعم السريع" أكثر مما يحدث حالياً، في ضوء مواقفهما المتباينة من الحرب.
ثمة معطيات قوية تدل على أن التصرفات التي تصدر عن الجنرال عبدالفتاح البرهان وتصريحاته الداعمة للحرب، هي انعكاس لضغوط على الرجل من حلفائه أنصار داعمي استمرار الحرب على رغم أهوالها التي تحمل خطراً محققاً على المصير الوجودي للسودان، والتي تهدد بكارثة حرب أهلية شاملة. وهو موقف خطر بدا واضحاً أن المجتمع الدولي يتذمر منه، خصوصاً مع تحرك مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي أخيراً، إذ "تزايدت الدعوات في الكونغرس الأميركي إلى تعيين مبعوث رئاسي خاص لمحاولة حل الأزمة. وفي هذا الإطار طرحت قيادات ديمقراطية وجمهورية في مجلس النواب مشروع قرار يدين العنف في السودان ويدعو المجتمع الدولي إلى دعم الجهود الدبلوماسية لوقف الأعمال العدائية والحرص على حماية المدنيين وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، إلى جانب تنفيذ إجراءات حازمة ضد الحكومة السودانية بلغت حداً دعا فيه النواب إلى "تعليق مشاركة السودان في المنظمات الإقليمية والمتعددة الأطراف جميعها حتى يتم إنشاء حكومة بقيادة مدنية". وقال النواب الديمقراطيون والجمهوريون في الكونغرس في بيان مشترك لدى طرح المشروع، "نريد للعالم أن يعرف أن الكونغرس مُوحد في غضبه وإدانته لأفعال القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وكل من يدعمهما. على أميركا أن تستعمل قوتها الدبلوماسية للضغط على الطرفين لوقف الحرب وتسليم السلطة إلى الشعب".
ومع اتجاه وزارة الخارجية الأميركية لتعيين الدبلوماسي توم بيريلو مبعوثاً خاصاً جديداً للسودان، تلبية لدعوات مشرعين أميركيين، بحسب منصة "ديفيكس" الإعلامية، فإن هذه الخطوة تأتي بالتزامن مع قرار السفير الأميركي لدى السودان جون غودفري، بصفته المبعوث غير الرسمي، التنحي عن منصبه خلال الأسابيع المقبلة، وفقاً لما نقلته المنصة عن مصادر دبلوماسية عدة"، بحسب قناة "الشرق".
يبدو واضحاً أن انفجار مسار التناقض بين وقف الحرب واستمرارها سينعكس انعكاساً حاداً، بحسب المعطيات التي ترشح اليوم في موقف المجتمع الدولي والإقليمي الذي متى ما تقررت لديه إرادة حسم الخطر الحقيقي للحرب على مصالحه الاستراتيجية والجيوسياسية، فسيمثل ذلك فارقاً جوهرياً في رسم مصائر الحرب السودانية التي بلغ فيها الانسداد الداخلي الحاد مبلغاً حرجاً، ودل بوضوح على أن من يجازفون بخطر تعريض الشعب السوداني لهذه الكوارث عبر الإصرار على خوض حرب أدركت خطورتها أطراف دولية عدة، وبذلك لا يمكن الصمت عنه إلى ما لا نهاية.