ملخص
زلزال تركيا الذي خلف عشرات الآلاف من القتلى، ترك أيضاً عشرات المفقودين الذين تبحث عنهم عائلاتهم
لم يعد لدى سونا أوزتورك من أثر لابنتها توغبا كوسار، غير صورها. فعلى ملصق صور المفقودين المعلق في غرفة معيشة والدتها، يظهر وجه توغبا المبتهج إلى جانب ابنيها، محمد عاكف البالغ من العمر ثمانية أشهر، ومصطفى كمال ابن الثلاثة أعوام، الذي يحمل اسم أتاتورك - مؤسس الدولة التركية الحديثة - والذي كان يستمتع بألعاب الحفر والبناء.
وفي معرض حديثها عن ابنتها - وفيما كان المطر ينهمر من سماء متشحة باللون الرمادي الفولاذي خارج مدينة أكساراي في وسط الأناضول - قالت سونا إن "توغبا اتسمت بالطيبة والتسامح، وكانت سعيدةً للغاية في اختبار الأمومة. لكن لم يعد هناك من ذكريات عنها، بل مجرد صور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توغبا التي بلغت من العمر 36 سنة وولداها هم من بين 145 شخصاً على الأقل، اعتبرهم ناشطون في عداد المفقودين، منذ الزلازل القوية التي وقعت في السادس من فبراير (شباط) عام 2023، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف من الناس ودمرت مناطق واسعةً في جنوب تركيا وشمال سوريا. ويشير ناشطون إلى أن العدد الفعلي للأشخاص المفقودين قد يتجاوز الأرقام المسجلة التي تشمل لاجئين سوريين وأجانب وأتراكاً على حد سواء.
وقد التقت "اندبندنت" مع 5 عائلات تعاني من بيروقراطية السلطات ومن الاضطرابات العاطفية، ومما تعتبره لامبالاة من جانب الحكومة حيال سعيها إلى العثور على أحبائها المفقودين.
وتصف سونا البالغة من العمر 56 سنة الظروف التي تعيشها بالقول: "أمضي الكثير من الوقت في البكاء. إنني أفتقد ابنتي وحفيدي بشدة. لم يعد هناك في الواقع أي هدف في حياتي بعد الآن".
ووفقاً لنرمين يلدريم كارا العضو في البرلمان التركي، والناشطة في حملات الدفاع عن عائلات المفقودين، فإنه "خلال ساعات الفوضى التي عقبت الزلازل مباشرة، كان الناس يتخبطون في ضياع كامل، بحيث نُقل الناجون إلى مستشفيات بعيدة والضحايا إلى مواقع المدافن، من دون علم عائلاتهم".
وتتابع: "لم يتمكن أولئك الذين بحثوا بين الأنقاض عن أفراد أسرهم من معرفة المستشفى الذي نُقل أقرباؤهم إليه. وفي هذه الحالة، اختفى الكثير من المواطنين ولم يعد من الممكن تعقبهم".
وكانت توغبا قد غادرت منزل عائلتها وانتقلت إلى أنطاكيا قبل نحو خمسة أعوام، حيث عملت مدرسةً للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة. وتزوجت من رجل محلي نجا من الزلزال، لكنه لا يزال يقبع في حال من الحزن العميق إلى درجة أنه لم يتمكن من مشاركة روايته.
العائلة كانت تقيم في المبنى "أي 2" A2 داخل مجمع شقق فخم يُعرف باسم مجمع "رينيسانس" السكني Renaissance Residence، وكان انهياره رمزاً لفشل قطاع البناء المرتبط بعدم السلامة من الزلزال، وللخسائر الفادحة في الأرواح نتيجة عدم كفاية معايير البناء.
ويتذكر ياسين شقيق توغبا، الأحداث التي تلت بناء ذلك المجمع، قائلاً: "عندما انتهى بناء المجمع السكني، بدا وكأنه هبة من السماء. وجرى تنظيم حفل افتتاح كبير حضره لفيفٌ من المسؤولين الحكوميين الذي قاموا بقص شريط تدشينه، وأكدوا لنا أن البناء آمن".
لكن لدى وقوع الزلزال، شبت النيران في المبنى أثناء انهياره، ويعتقد ياسين أن شقيقته وطفليها، قد حوصروا وسط النيران المشتعلة قبل أن يتمكنوا من الهرب. وعلى رغم إزالة جميع الأنقاض من الموقع، لم يُعثر على جثثهم.
وقد تواصلت "اندبندنت" مع إدارة المجمع للتعليق، لكنها لم تتلق أي رد.
سيما وإركان غوليك، فقدا ابنهما باتوهان البالغ من العمر 25 سنة بشكل مأسَوي، عندما انهار المبنى السكني الذي كان يقيم فيه، على مشارف مدينة إسكندرون الساحلية في مقاطعة هاتاي. وعلى رغم مسح المنطقة بأكملها وتنظيفها من الأنقاض، إلا أن فرق الإنقاذ لم تتمكن من انتشال جثته. ووفقاً لأحد الشهود الذي تواصل مع العائلة بعدما رأى صورة باتوهان على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد قال إنه شاهده وهو يخرج من بين الحطام وهو في حالٍ من الصدمة، لكنه كان لا يزال على قيد الحياة، من ثَم ذهب في سيارة مدنية بيضاء واختفى.
وتقول والدته سيما البالغة من العمر 55 سنة: "قمتُ بالبحث عن إبني في جميع المستشفيات في تركيا التي نقل ناجون من الزلزال إليها، لكنني لم أتمكن من العثور عليه. بحثتُ أيضاً في المقابر، وعاينتُ صور المتوفين - لكنني لم أعثر على شيء. ذهبتُ حتى إلى المشارح... لكنني لم أجد أثراً له".
أما أكثر الأمور التي وجدت سيما صعوبةً في التعامل معها، فكانت حال عدم الوضوح المحيطة بما حدث لباتوهان، الذي كان قد تخرج أخيراً من الجامعة حائزاً شهادة في الهندسة المعمارية. وقالت: "راودتني أفكارٌ وسيناريوهات مختلفة، منها أن يكون موضع استهداف من جانب إحدى المافيات أو الجماعات الإرهابية. فعندما لا تستطيع العثور على شخص مفقود، تفكر في مختلف الاحتمالات".
وهي تعتقد الآن أن ابنها ربما تُوفي في وقتٍ لاحق، وأن رفاته قد دُفنت من دون أخذ عينات من حمضه النووي. وبالتالي، فإن من المستحيل العثور على تطابق مع الحمض النووي الذي قدمته سيما وإركان للسلطات المعنية، من دون استخراج رفاته وإجراء اختبار عليها.
ومن العوامل التي أعاقت البحث عن المفقودين، ضخامة الكارثة التي أصابت 17 مقاطعة تركية، وأسفرت عن أضرار تُقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وفي خضم هذه الأحداث الرهيبة، لا تزال عائلات المفقودين تشعر بإهمال من جانب السلطات.
وتقول آيتن تونجر التي اختفت شقيقتها نسرين البالغة من العمر 40 سنة، بعد انهيار منزلها في وسط مدينة أنطاكيا: "لم نتلق الدعم اللازم حتى الآن، كما لو أنهم يعتبرون أن تلك الخسائر لم تحدث".
في الشهر الماضي حاول نواب أتراك تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في مصير المفقودين لكنها لم تحصد الأصوات الكافية. وتقول العائلات إن تلك الخطوة كانت لتكون حاسمةً في تكثيف الضغط على مكاتب المدعين في جميع أنحاء منطقة الكارثة، لتسريع عملية استخراج الجثث المدفونة والتعرف إليها، وجمع عينات الحمض النووي من أجل مطابقتها مع تلك المأخوذة من أقاربها.
وتضيف: "لقد فقدتُ الثقة في السلطات. إنني أشعر بغضب وحزن. فحتى لو لم تتمكن من تحديد مكان إبني، فإنني أريد أن أشعر بأنها تقدم الدعم اللازم لنا، لكن أفعالها لم تثبت ذلك".
نرمين يلدريم كارا التي تمثل مقاطعة هاتاي في أكبر حزب معارض في تركيا، تقوم بممارسة الضغط من أجل أن يبذل عددٌ أكبر من مكاتب الادعاء في المنطقة المنكوبة، مزيداً من الجهود. وأكدت أنه "في هذه المرحلة، يتعين تكثيف عمليات مطابقة الحمض النووي واستخراج الجثث من المدافن، إذ إن المطلب الأساسي للعائلات هو أن تبذل السلطات المزيد من الجهود لتسهيل عمليات المطابقة".
مكتب المدعي العام في مقاطعة هاتاي ووزارة العدل التركية، لم يردا على طلب بالحصول على تعليق منهما في شأن عدد المفقودين الذين جرى التعرف إليهم من خلال مطابقات الحمض النووي. وقد أبلغ مسؤول كبير من هاتاي أخيراً وسائل الإعلام التركية، بأن عينات الحمض النووي المستخرجة من 193 قبراً، لم تتطابق بعد مع الأفراد الأحياء من ذويهم، ودعا الأسر إلى التقدم من المراكز المحددة لتقديم عينات.
سيما يلماز هي من بين الأفراد الذين وجدوا أقاربهم المفقودين. وكانت شقيقتها خيرية ديلي ابنة الثلاثة وأربعين سنة، قد لقيت مصرعها في الزلزال، إلى جانب زوجها وأطفالهما الثلاثة في مدينة كهرمان مرعش. وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر، في العشرين من أبريل (نيسان) من العام الماضي، تلقت سيما أنباء تفيد بأنه جرى استخراج رفات خيرية من قبر مجهول، والتعرف إليها.
وتعلق بالقول: "عندما تطابق الحمض النووي الذي قدمناه مع رفات أختي، لم أستطع الامتناع عن الضحك والبكاء معاً - فعلى الأقل، أصبحنا الآن نعرف مكانها. نعم، شعرنا بالسكينة تجاه موتانا. كنا سعداء لأننا وجدناهم في نهاية المطاف". وقد قامت سيما بعد ذلك بدفن خيرية إلى جانب زوجها وأطفالها.
أما سيما غوليك فلا تقوم عادةً بزيارة المسكن السابق لابنها، الذي نُظف من الأنقاض. لكن في الذكرى السنوية الأولى للزلزال هذا الشهر، ستستجمع قواها للقيام بذلك، وتقول: "سأذهب إلى هناك في السادس من فبراير (شباط) لأن لا قبر لإبني أزوره، لذا سأذهب إلى هناك بدلاً من ذلك. وسأواصل البحث عن باتوهان حتى أجده".
© The Independent