ملخص
تحولت الدلنج بفعل الصراع المسلح إلى مدينة طاردة لسكانها، وباتت الآن تبحث عن هويتها
على مدى سنوات طوال، ظلت مدينة الدلنج التي تقع جنوب الخرطوم تمثل نموذجاً للتعايش السلمي ومركزاً حضارياً تجتمع فيه قبائل النوبة والعرب، وكذلك منطقة تلاقي ثقافات شتى ومشارب عرقية مختلفة وتجارب حياة لم تنقطع عن إسهامها في بناء التاريخ الحديث للسودان.
المدينة التي يسكنها نحو 600 ألف شخص كانت تشكل بوتقة اجتماعية ظلت تحميها من اندلاع الحروب بفعل التآخي والإلفة والإلهام، إذ تعمر ذاكرة أجيالها أشعار جعفر محمد عثمان ورقصات الكرنق والكمبلا والنقارة في احتفالات أعياد موسم الحصاد لتعزيز التعايش بين المكونات الثقافية المتعددة عن طريق الفنون الشعبية.
لكن الدلنج التي تعد ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان، تأثرت باشتعال العاصمة السودانية، وتمددت إليها شرارة النار بعد اندلاع معارك عسكرية بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" ومشاركة الحركة الشعبية - شمال في صد الهجمات والتنسيق مع القوات المسلحة. وباتت المدينة التي تعرف عند أهلها وعموم السودانيين بـ "عروس الجبال" مثقلة بالجراح، تشكو وتئن من الاستهداف ذي الطبيعة العرقية والتهجير القسري.
توتر وقلق
أحد المواطنين بمدينة الدلنج، ويدعى عمر طه، قال إن "القلق المستمر والخوف يسيطران على السكان نتيجة تحول الصراع إلى فتنة وتمايز على الإثنية والاصطفاف القبلي، مما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي".
وأضاف طه أن "مئات الأسر نزحت إلى محلية القوز، وتوزعت في المدارس، بينما عاش بعضهم في العراء أو تحت الأشجار، واختار آخرون مدينة الأبيض وجهة للنزوح".
وتابع المتحدث "معاناة السكان تفاقمت بفعل الأحداث التي وقعت في المدينة، وشهدت الأسواق ندرة في المواد الغذائية، فضلاً عن ارتفاع الأسعار وشح الأدوية بما فيها علاج الأمراض المزمنة والمنقذة للحياة".
صراع إثني
المتخصص في قضايا النزاع في كردفان آدم جبريل يرى أن "الأوضاع في الدلنج وصلت إلى مرحلة معقدة مع انحراف الحرب نحو النزاع القبلي بين النوبة والعرب، وتسببت المعارك في تصعيد آخر على المستوى الاجتماعي بين المجموعات الإثنية التي تسكن المنطقة، ما ينذر بتصاعد خطاب الكراهية والعنف الموجه بناءً على الانتماء العرقي في مدينة، عُرفت تاريخياً بترابط النسيج الاجتماعي ومثلت نموذجاً للتعايش السلمي".
واعتبر جبريل أن "الصراع المسلح فرق بين سكان الدلنج على أساس الهوية العرقية، وإثر ذلك اتجه النازحون من عرب البقارة الحوازمة شمالاً لمحلية القوز التي تسيطر عليها قوات "الدعم السريع"، واختارت المجموعات النوبية البقاء في المدينة، وغادرت أخرى لمنطقة أعالي الجبال الغربية".
وبين المتخصص في قضايا النزاع في كردفان أن "المعارك العسكرية أسهمت في نزوح آلاف المواطنين خشية التعرض للقتل، وحدثت عمليات سلب ونهب للمنازل في أحياء أبو زيد والمعاصر والمطار والتي تقع في الجزء الغربي للمدينة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تاريخ ومعارف
تمثل مدينة الدلنج مكاناً للإنارة الثقافية في ولاية جنوب كردفان، إذ تشهد تنظيم المنتديات الراتبة ومهرجانات موسم الحصاد والفنون الشعبية، فضلاً عن إسهامها في بناء التاريخ الحديث للسودان.
ويعد معهد المعلمين بمدينة الدلنج الذي أنشئ عام 1948، أحد أهم منارات تدريب المعلمين السودانيين إلى جانب معهد بخت الرضا في فترة الخمسينيات والستينيات وحتى بداية التسعينيات. وشهد المعهد في ذلك الوقت تخرج مراجع عدة في التعليم بالبلاد، وبات المعهد في ما بعد نواة لكلية التربية في جامعة كردفان وتحول لجامعة الدلنج.
توجد في المدينة أشهر تبلدية في السهل الكردفاني، وقد نظم فيها الشاعر جعفر محمد عثمان الذي جاء إلى الدلنج عام 1957، وهو يحمل صفة أستاذ اللغة العربية بمعهد المعلمين، قصيدة شهيرة، ونقلت بعد ذلك مفرداتها إلى منهج اللغة العربية للمرحلة الثانوية تخليداً لرمزيتها، ومن هنا اكتسبت التبلدية شهرتها، وباتت مزاراً يتسابق إليه طلاب الرحلات العلمية من ولايات السودان كافة.
نشأت في المدينة مشاريع الزراعة الآلية من عقود طويلة، وتعتبر الثانية بعد القضارف، إذ توجد فيها رئاسة مشاريع هبيلا الزراعية ومحالج القطن، علاوة على أنها تمثل مركزاً تجارياً مهماً في البلاد.
في فصل الخريف وموسم الأمطار في كردفان، يبرز جمال الطبيعة وتكسو الخضرة الجبال الراسيات في وسط الدلنج وغربها مثل كرمتي وسلطان والنتل وسلارا، وكذلك المندل والصبي والدش. وتمثل هذه الجبال أبرز معالم الجمال لسكان المدينة أو الزوار القادمين إليها، بخاصة الأجانب الذين يكتشفون أنهم في أحضان الطبيعة الساحرة، ويتوافد إليها كثير من المواطنين الذين ينشدون طقساً معتدلاً وخضرة تسر الناظرين.
البحث عن هوية
تحولت الدلنج بفعل الصراع المسلح إلى مدينة طاردة لسكانها، وباتت الآن تبحث عن هويتها، إذ إنها تجلس في سفح جبالها كأنها نسر أصابه الكبر فغلبته المصائب من التحليق للقمة، ينظر ببصيص أمل أن تعود له عافية الأيام الخوالي.
الباحث السياسي عز الدين الصحاف قال إن "المدينة مثلت مركزاً حضارياً تجتمع فيه قبائل النوبة والعرب، واحتضنت مكونات عدة عاشت في انسجام ووئام طوال العهود الماضية، وباتت لهذه القبائل جذور تاريخية وأواصر اجتماعية توثقت لقرون بعيدة".
وأضاف أن "الحرب مزقت النسيج الاجتماعي الذي اشتهرت به مدينة الدلنج، ولم تعد تجذب نحوها حتى إلفة (الصراع)، أشهر رياضات مجتمعات جبال النوبة التي تحمل في مضامينها شقاء الصبية وعنفوان الشباب، وحتى سبر (النتل) تلك العادة الفلكلورية التي ترمز للإنتاج غادر محطة دهشته وتوقفت أهازيجه".
ونبه الصحاف إلى أن "أحداث الدلنج التي تصاعدت من معارك عسكرية إلى العنف الموجه بناءً على الانتماء العرقي، تبرز بعداً مهماً في الأزمة السودانية، وتتعلق بضرورة شمول المعالجات والحلول وجذريتها".