في يناير (كانون الثاني) المقبل ستكون انقضت 18 عاماً على وصول المجموعة الأولى من المحتجزين المتهمين بالإرهاب إلى المعتقل الأميركي غوانتانامو في كوبا داخل القاعدة البحرية التابعة لوزارة الدفاع خارج الأراضي الأميركية. المعتقل الذي وصل إليه 779 شخصاً طيلة هذه السنوات، ولم يتبق منهم سوى 40 فقط، أصبح سيء السمعة، ورمزاً للانتهاكات والتعذيب وغياب العدالة والقانون، ومع ذلك لا تبدو في الأفق القريب أية إشارة إلى قرب إغلاقه، والسبب هو قرار الحرب الدائمة الذي منحه الكونغرس إلى السلطة التنفيذية بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 المتمثل بتفويض استخدام القوة العسكرية ضد المسؤولين عن هجمات سبتمبر والإرهابيين المشتبه فيهم حول العالم. ولأن الولايات المتحدة ما زالت منخرطة في حرب عالمية بلا نهاية ضد عدو غامض هو الإرهاب، فإن سجن غوانتانامو سيظل مفتوحاً لاستقبال معتقلي هذه الحرب.
لماذا غوانتانامو؟
حينما وقعت اعتداءات سبتمبر عام 2001 ضد الولايات المتحدة وبدأت واشنطن حرباً طويلة ضد الإرهاب، نصحت وزارة العدل الأميركية إدارة الرئيس جورج دبليو بوش عام 2002 بنقل متهمي الإرهاب الخطرين من المتشددين الإسلاميين إلى معسكر اعتقال في قاعدة بحرية أميركية على خليج غوانتانامو في كوبا، لأنه يعتبر وفقاً للقانون خارج اختصاص القضاء الأميركي، كما لا يخضع للقانون الدولي، كون خليج غوانتانامو منطقة استأجرتها الولايات المتحدة بشكل دائم من كوبا عام 1903 مقابل ألفي دولار سنوياً، بعدما سيطرت الولايات المتحدة على الجزيرة الكوبية في نهاية الحرب الأميركية – الإسبانية عام 1898 ومنحت كوبا الاستقلال بعدها.
سيء السمعة
لكن سرعان ما اكتسب معتقل غوانتانامو سمعة سيئة حول العالم بسبب الظروف التي تحيط بالمعتقلين خلال عمليات استجوابهم، وبسبب سياسة الولايات المتحدة في إبقاء أغلب المعتقلين إلى أجل غير مسمى من دون توجيه اتهامات إليهم، ومن دون إجراء محاكمات، حيث لم يُحاكم حتى الآن من بين 779 معتقلاً سوى 7 فقط، حوكموا أمام لجان عسكرية، منهم خمسة عقدوا صفقة مع الادعاء ليقروا بذنبهم مقابل النظر في إمكان إطلاق سراحهم. ولم تتم إدانة المتهمين السبعة بالإرهاب على الرغم من أن هذه المحاكمات لا تلبي معايير المحاكمة العادلة وفقاً لمنظمة العفو الدولية.
وخلال السنوات الأولى التي أعقبت هجمات سبتمبر، وجهت منظمات دولية وحقوقية عديدة انتقادات شديدة إلى الولايات المتحدة بسبب معلومات وتقارير تسربت عما يجري داخل المعتقل منها تقرير لمنظمة الصليب الأحمر نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2004 وذكرت فيه أن عمليات إهانة وتعذيب وإجراءات قاسية مُورست بحق المعتقلين خلال التحقيقات، وهو ما رفضت الحكومة الأميركية الاعتراف به آنذاك، كما وجهت منظمات حقوقية انتقادات عنيفة لواشنطن بعد أن توفي ثمانية معتقلين، قالت وزارة الدفاع الأميركية إن ستة منهم انتحروا، في حين أشارت تقارير أخرى إلى أن 17 معتقلاً على الأقل في غوانتانامو، هم من الأطفال القُصّر (دون سن 18).
وقالت صحف أميركية إن وثائق مزعومة نشرها موقع "ويكيليكس" تشير إلى 150 من المعتقلين القادمين من أفغانستان وباكستان وغيرها داخل غوانتانامو، هم من المزارعين والعمال والتجار الأبرياء، وإن العدد القليل من المتهمين انتموا إلى تنظيم القاعدة بينما الغالبية ليست لها علاقة بالقاعدة أو حركة طالبان الأفغانية.
ونقل موقع "تروث أوت" الأميركي عن "مارك فالون" الذي كان محققاً فيديرالياً على مدى 30 عاماً، وقاد فريق من البنتاغون بين عامي 2002 و 2004 للتحقيق مع حالات في غوانتانامو قبل إحالتها على لجان عسكرية، قوله إن الغالبية العظمى من معتقلي غوانتانامو لا يشكلون أهمية للاستخبارات الأميركية أو للتحقيقات وينبغي إطلاق سراحهم، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة بعد ذلك.
ورداً على هذه الاتهامات والانتقادات قالت واشنطن إن المعتقلين في غوانتانامو لا تنطبق عليهم اتفاقية جنيف، لأن الاتفاقية تنطبق فقط على العسكريين والجماعات المسلحة التي تلتزم قواعد الحرب ولديها سلسلة قيادة معروفة وهو ما لا يتوافر لعناصر الجماعات الإرهابية المعتقلين في غوانتانامو.
لماذا ظل غوانتانامو مفتوحاً؟
على الرغم من تعهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما خلال حملته الانتخابية بإغلاق معتقل غوانتانامو السيء السمعة، إلا أن المعتقل ظل مفتوحاً ولا يزال حتى الآن يشمل 40 معتقلاً بينهم 5 اتُخذت إجراءات لنقلهم إلى بلدان أخرى، و26 آخرين محتجزين إلى أجل غير مسمى من دون توجيه اتهامات لهم، ومن دون محاكمتهم وهو ما تعتبره منظمات حقوقية انتهاكاً لقانون حقوق الإنسان الدولي، وبخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي وقعت عليه الولايات المتحدة.
ويشير مراقبون إلى أن خطة أوباما لإغلاق غوانتانامو، لم تكن في الواقع تعني الإغلاق الفعلي للمعتقل، ولكن نقل نظام سجن غوانتانامو إلى سجون فيديرالية الشديدة الحراسة داخل الأراضي الأميركية، بل إن أوباما نفسه دَعَم إبقاء المعتقلين إلى أجل غير مسمى من دون توجيه اتهامات أو محاكمات لهم.
وتدعي الحكومة الأميركية أن الاحتجاز إلى أجل غير مُسمى يرجع إلى خطورة إطلاق سراح المعتقلين، وأيضاً إلى صعوبة محاكمتهم أمام محاكم مدنية، لأن الدلائل التي تستند إليها الاتهامات، استُخلِصَت تحت التعذيب وبالتالي سوف ترفضها المحكمة.
ويرجع السبب الرئيس لاستمرار احتجاز المعتقلين لأجل غير مسمى، إلى سُلطات الحرب الدائمة التي منحها الكونغرس الأميركي إلى السلطة التنفيذية بعد هجمات سبتمبر 2001 مباشرة، والتي أعطت تفويضاً مفتوحاً للرئيس باستخدام القوة العسكرية ضد المسؤولين عن اعتداءات سبتمبر وضد الإرهابيين المشتبه فيهم حول العالم.
كما تستخدم الحكومة الأميركية "تفويض استخدام القوة العسكرية" أيضاً كمُسَوِغ قانوني لاحتجاز المعتقلين في غوانتانامو لأجل غير مُسمى.
علاقة غوانتانامو بالحرب على الإرهاب
ترتكز الحكومة الأميركية في إبقاء معتقل غوانتانامو مفتوحاً إلى أن الولايات المتحدة منخرطة في صراع عالمي مُسلح ضد تنظيم القاعدة والتنظيمات الأخرى المرتبطة بها أو الشبيهة لها، ما يعني أن الحكومة الأميركية لديها الحق في اعتقال إرهابيين مشتبه فيهم حتى نهاية هذه الحرب، وهو ما أكدته إدارة الرئيس ترمب عام 2017 حينما قال وزير الخارجية السابق "ريكس تيليرسون" أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ إن "التفويض باستخدام القوة العسكرية" الممنوح منذ 2001، يوفر قاعدة قانونية داخلية لاستمرار عمليات الاعتقال في سجن غوانتانامو.
أيضاً فإن إدارة أوباما هي التي صكّت تعبير "القوى المرتبطة بها" أي القوى المرتبطة بتنظيم القاعدة، وطبقت تفويض استخدام القوة العسكرية ليشمل هذه التنظيمات والجماعات بما فيها على سبيل المثال "حركة الشباب الصومالية" التي لم تكن موجودة عام 2001، ما يعني توسيع الصلاحية القانونية لاستخدام القوة العسكرية لكي يشمل عدداً أكبر من الجماعات الإرهابية.
ولهذا فإن إنهاء الحروب والصراعات قد لا يحدث لسنوات وربما عقود أخرى مقبلة، بالنظر لاستمرار الولايات المتحدة في مهاجمة الجماعات الإرهابية الحالية والجديدة، كما أن تعريف "الإرهاب" ما زال غامضاً في المفهوم الدولي، ولذا فإن الحرب ضده قد لا تنتهي أبدا بحسب بعض المراقبين.
وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2010، فإن القانون الدولي لا يسمح بشن حرب ضد الجماعات الغامضة أو التي لا تنتمي إلى جنسية ما، مثل المنظمات الإرهابية، ومع ذلك اعترف مدّعي من وزارة العدل الأميركية العام الماضي في شهادته أمام محكمة فيديرالية، أن الحرب على الإرهاب قد تستمر 100 عام، كما أن وزير الدفاع الأميركي السابق "جيم ماتيس" قال إن الحرب ليس لها حد زمني، ما يعني أن الولايات المتحدة منخرطة في حرب عالمية بلا نهاية ضد عدو غامض هو الإرهاب، ومعتقل غوانتانامو هو السجن لمعتقلي هذه الحرب.
خلاف حول تفويض استخدام القوة
على الرغم من أن مجلس النواب الأميركي الذي يسيطر عليه الديمقراطيون مرّرَ مؤخراً تعديلاً قانونياً من شأنه أن يُبطل التفويض باستخدام القوة العسكرية والمستمر منذ أحداث سبتمبر 2001، إلا أنه من المستبعد أن يصادق مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون على مشروع القانون، وحتى إذا مرّرَه، فلا شك في أن الرئيس ترمب سوف يستخدم الفيتو الرئاسي لأن إدارته قد تحتاجه في أي حرب محتملة ضد إيران، وبخاصة أن ترمب أبدى رغبته في الاعتراض على أي تشريع يحد من صلاحيات شن الحرب.
ويعد ترمب من أشد المؤيدين لاستمرار معتقل غوانتانامو مفتوحاً، حيث وَقع في يناير 2018 أمراً رئاسياً لإبقائه مفتوحاً وليلغي بذلك أمراً رئاسياً أصدره أوباما في أيام حُكمه الأخيرة لإغلاق المعتقل، كما أبقى ترمب على الاعتقال إلى أجل غير مُسمى والذي حافظ عليه كل من أوباما وبوش من قبل.
غوانتانامو مستمر
أصبح معتقل غوانتانامو والاعتقال المفتوح إلى أجل غير مُسمى من سمات السياسة الأميركية، ولأن المعتقلين هناك يتقدمون في السن وتجاوز بعضهم الخمسين من العمر، أعلنت وزارة الدفاع البنتاغون أنها تدرس خططاً لإنشاء مركز طبي لرعاية المعتقلين من كبار السن وعلاجهم، ما فسره مراقبون بأن البنتاغون يتوقع استمرار احتجاز المعتقلين حتى يشيخون ويموتون داخل السجن.
كما أن الكونغرس يدرس إذا كان سيسمح لمعتقلي غوانتانامو بالانتقال مؤقتاً إلى الأراضي الأميركية لتلقي العلاج الطبي العاجل في الحالات التي تستدعي ذلك.
ووفقاً لصحيفة"نيويورك تايمز" فإن لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ وافقت على فقرة في قانون "تفويض الدفاع الوطني" تسمح بالعلاج الطبي المؤقت لمن يتم نقلهم إلى الولايات المتحدة وهو ما ينطبق على معتقلي غوانتانامو.
غوانتانامو ليس لمعتقلي داعش
بعد هزيمة تنظيم داعش في سوريا والعراق، فكَرَ البعض في إرسال عدد من معتقلي داعش إلى غوانتانامو، إلا أن الفكرة سرعان ما تم التخلي عنها باعتبارها فكرة سيئة محفوفة بالمخاطر القانونية وقد تبعث برسالة سيئة لكل من حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها أيضاً.
فمن ناحية، ترغب الإدارة الأميركية في إرسال المعتقلين من داعش لمحاكمتهم في بلدانهم، وفي حال أرادت محاكمتهم في الولايات المتحدة، فإن إرسالهم إلى غوانتانامو سيحُول دون محاكمتهم أمام المحاكم المدنية الفيديرالية الأميركية التي دانت 660 إرهابياً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حتى الآن، كما أن هناك قيوداً قانونية تمنع إرسال معتقلي غوانتانامو إلى الولايات المتحدة في كل الظروف بما في ذلك محاكمتهم أمام محاكم فيديرالية بعدما جعل الكونغرس رحلة المعتقلين في غوانتانامو رحلة ذهاب فقط.
ومنذ أحداث 11 سبتمبر فرض الكونغرس قيوداً قانونية صُمِمَت أساساً لمنع الرئيس أوباما من إغلاق غوانتانامو والذي كان تعهد به في الانتخابات، وبهذا أصبح الاعتقال في غوانتانامو أشبه بالثقب الأسود حيث لا يمكن تحقيق العدالة إلا من خلال اللجان العسكرية المنعقدة هناك والتي أثبتت فشلاً ذريعاً على مدى سنوات طويلة، فحتى الآن لم تخرج محاكمات هذه اللجان سوى بسبع إدانات، بينما رُفضت أحكام أخرى في درجة الاستئناف، وفي قضايا الشخصيات الأكثر أهمية وخطورة، تواصلت التحقيقات والمحاكمات معهم من دون نهاية في الأفق.
فبعد ست سنوات من تحقيقات اللجان العسكرية مع المتهم بتدبير الهجوم على المدمرة الأميركية "كول" قرب ميناء عدن اليمني، تم تأجيل التحقيقات إلى أجل غير مُسمى.
أكثر من ذلك، أن محاكمة عناصر من داعش في غوانتانامو سيكلف الحكومة الأميركية الكثير، حيث ستشمل التكاليف أموالاً إضافية لنقل القضاة العسكريين والمحامين والموظفين من غوانتانامو وإليه، فضلاً عن التكاليف المالية الكبيرة لإبقاء معتقلي داعش في غوانتانامو والتي تُقدر بعشرات الملايين وتزيد بكثير على تكلفة المعتقلين في السجون الفيديرالية الأميركية الشديدة الحراسة والتي تبلغ 86 ألف دولار سنوياً لكل معتقل.
ونظراً للسمعة السيئة التي حظّىَ بها معتقل غوانتانامو خلال السنوات الماضية، فإن إضافة معتقلين جدد إليه من المنتمين إلى داعش، من المرجح أن يثير غضب العناصر الهاربة من التنظيم، كما سيعوق ذلك التعاون بين الولايات المتحدة وشركائها في المجتمع الدولي والذي يعد أمراً مركزياً في إستراتيجية مكافحة الإرهاب.
تقدم لا يزيل أخطاء الماضي
وفي حين يتفق كثيرون أن انخفاض أعداد معتقلي غوانتانامو من 779 إلى 40 معتقلاً فقط، يشير إلى التقدم الذي أحرزته إدارتي الرئيسين بوش وأوباما فضلاً عن عدم رغبة إدارة الرئيس ترمب في إرسال معتقلين جدد إلى غوانتانامو، فإن هذا المعتقل سيظل يُنظَر إليه حول العالم وداخل الولايات المتحدة الأميركية، باعتباره رمزاً للانتهاكات والجموح وعدم احترام القانون.