Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سدرة الشيخ" عرض عماني يستعيد تراث منطقة ظفار

المخرج عماد الشنفري اعتمد جماليات التاريخ الشعبي ومعطيات الفن الاحتفالي

من مسرحية "سيرة الشيخ" العمانية (خدمة العرض)

الفرجة هي العنوان الأبرز في المسرحية العُمانية "سدرة الشيخ"، الذي أعدّه وأخرجه الفنان عماد الشنفري عن رواية "الشيخ الأبيض" لمؤلفها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي. تدور أحداث العرض عام 1806 في ولاية ظفّار العُمانية، وتروي وقائع المعركة البحرية التي فرضها المستعمر الإنجليزي على قبيلة الشيخ محمد (جهاد اليافعي) بعد خرق المواثيق والعهود بين البلدين، واختيار أبناء القبيلة القتال على الرضوخ لإملاءات قائد السفينة الإفرنجية المزودة بمعدات قتالية ومدافع فتاكة في تلك الفترة المبكرة من القرن التاسع عشر.

يمضي العرض في تعقب أحداث المعركة التي تنتهي بانتصار قبيلة الشيخ محمد على الغزاة، وقتل جميع من كان على ظهر السفينة، باستثناء طفل يدعى جوهانسبول الذي يقوم الشيخ محمد بتبنيه ويطلق عليه اسم عبدالله (عبد الملك الشيزاوي). لكن هذا التصرف سوف يلقى معارضة من سعيد الأحدب (محمد العجمي) ابن عم الشيخ، وأنه لا يجوز شرعاً تبني غلام من غير صلبه يرثه من بعده، فيعرض عليه الزواج من عشر نساء وإنجاب ما طاب له من الأطفال. لكن الشيخ محمد يرفض ذلك ولا يقبل أن يعامل الطفل الأجنبي كعبد أو كأسير حرب، بل يوجه الزعيم العُماني المعلم وشيخ منطقة ظفّار بتعليم الطفل ذي الأصول الأميركية للقرآن الكريم ولقواعد اللغة العربية والفروسية.

تتعاقب أحداث "سدرة الشيخ" من ثم ليكبر الطفل الصغير ويصبح شاباً وفارساً تقع في حبه مريم ابنة سعيد الأحدب، فتطلب من عبدالله أن يعدها بألا يؤذي أباها الطامع بمشيخة القبيلة، فيعدها بذلك. وبالفعل تحاك المؤامرة بين سعيد الأحدب وسويلم (هشام سويلم) طبّاخ القبيلة على حمل أحد رجالاتهما، ويدعى مسعود الأسود بقتل أحد رعاة الإبل الذي يعمل لدى الشيخ محمد، مما يدفعه إلى القتال وأخذ الثأر، في حين لا تكون هذه إلا مكيدة لاغتياله والإطاحة بحكمه، ويتمكن بعدها سعيد الأحدب من الاستيلاء على زعامة القبيلة، ولا يأخذ بالثأر بل يقبل بديّة الشيخ المقتول تذرعاً منه بإخماد نار الفتن بين القبائل. لكن عبدالله الذي يعتبر نفسه ابناً للشيخ محمد يرفض هذا الأمر، ويتوعد بأخذ الثأر لمقتل والده بالتبني، وأن لا يعود إلى القبيلة إلا وفي يده رأس مسعود الأسود. وهنا تتكشف خيوط المؤامرة التي حاكها كلٌ من سعيد وسويلم، ويفي عبدالله بعهده لمريم، فلا يقتل أباها جزاءً لقتل أبيه، بل ينفيه خارج مضارب القبيلة، ويصبح هو الأمير الجديد لظفار بعد مبايعة الشعب له ثناءً لفروسيته وخصاله الطيبة.

حبكتان مسرحيتان

ومع هذه الأحداث التي تروي قصة العرض في حبكتها الأساسية، يمكن ملاحظة خطوط أُخرى لحبكة فرعية كانت داعمة لقصة العرض وموازية لها، ومنها قصة الحب بين مريم وعبدالله، وما اكتنف هذه العلاقة من مخاوف وهواجس حول الهوية والانتماء، ومحاولة استمالة عبدالله بالعودة إلى بلاده الأم عبر إرسال سعيد الأحدب لرجل يدّعي أنه أميركي جاء ليسترد عبدالله إلى موطنه الأصلي. لكن عبدالله يرفض ذلك ويقول له بإنه عربي القلب واللسان، وأن جذوره ضاربة في الأرض مثل جذور شجرة السدرة التي عاش وتعلم تحت أغصانها اللغة العربية والأخلاق الحميدة.

ويمكن ملاحظة أن هذه الأحداث جعلها الفنان عماد الشنفري متلاحقة بصيغة درامية صنعت من إيقاع العرض (إنتاج فرقة صلالة الأهلية للفنون الشعبية) إيقاعاً لاهثاً، لا سيما أن المخرج قام بتوظيف الطبول والأبواق والرقصات الحماسية لجوقة تألفت من عشرين مؤدياً. وهذا ما أسهم في توفير فرجة كثيفة على خشبة المسرح الوطني في بغداد، فاستطاع مخرج "سدرة الشيخ" عبر سينوغرافيا الفنان خالد الشنفري أن يقدم تكوينات من البيئة العمانية وتراثها الأصيل، ومنها الأهزوجة الظفارية الشعبية وأغنيات البحر جنوب سلطنة عُمان، فتبدت مشاهد المعركة البحرية والمدينة والسدرة والمؤامرات من خلال تقنيات الفيديو التي أسهمت إلى حدٍ بعيد، في خلق مستويات بصرية من الفرجة المسرحية الخالصة، ودفعت بالأحداث إلى ذرى درامية متعددة تبعاً لتطور الصراع واحتدامه.

ويمكن القول إن مخرج "سدرة الشيخ" تمكن من مسرحة السرد في رواية "الشيخ الأبيض" واستقى منها زمناً فنياً استطاع عبره تحقيق الإيهام المطلوب لمرور ثلاثين عاماً، وهو الزمن الواقعي للحادثة التاريخية التي تتناولها الرواية. وقد برز ذلك من خلال حلول فنية لافتة، لا سيما حين يعوض المخرج بحركة خاطفة دوري الطفلين عبدالله ومريم بممثلين آخرين وقد كبرا عشرين عاماً. وهذا يدل على نضج فني في مسرحة الأحداث وإدارة الصراع بلا اللجوء إلى دور الراوي الذي عادة ما يقوم بسرد فصول الحكاية بدلاً من رؤيتها مجسدةً على الخشبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتوضح من المعالجة الفنية للمادة الروائية قدرة مُعد العرض ومخرجه على الإفادة من تراث بلاده في تكوين هوية بصرية استقاها من عناصر محلية، ولا سيما أجواء البحر والأزياء المشتقة من تراث منطقة ظفار مسقط رأس المخرج. ولعل هذا ما جعل "سدرة الشيخ" تأتي هذه التجربة في إطار البحث في مسألة الهوية، والخلاص إلى بنية درامية تناقش بجرأة العالم بعيداً من تنميطه كشرق روحاني متخلف وغرب متحضر ومتفوق في قيمه الإنسانية. وهذا ما يتوضح في حوارات شخصيات المسرحية التي تبني مشروعيتها من قوة النص الروائي المستند إلى الوثيقة التاريخية، وذلك من غير الوقوع في فخ التأريخ على حساب الروي، ومن غير الانحياز إلى النبرة القومية الخطابية، بل التعويل على البعد الإنساني للشخصية البشرية، وقدرتها على الانعتاق من كل الأحكام المسبقة.

ويبدو العرض العماني من التجارب اللافتة في الريبرتوار العربي المعاصر، سواء لجهة موضوعه أو حتى على صعيد الأسلوب الفني، فلم يطغَ فيه الشكل الفني على المضمون، بل حاول صُناعه تقديم مستويات من الفرجة الحديثة الممتعة، وتركوا الباب موارباً لقراءة أحداثه من غير المصادرة على المتفرج، أو محاولة تلقين مقولته للجمهور. لكن في المقابل عانى العرض من الاستطالة في بعض الأحداث الفرعية، ولم يكن أداء الممثلين على المستوى نفسه من الجودة، ولا سيما الأدوار النسائية، في حين غلبت السمة الاحتفالية على مجرياته، خلال 65 دقيقة وهو زمن العرض، وجعلت من المجاميع بطلاً رئيساً. أتى ذلك على حساب العمل على الشخصيات الرئيسية للعرض، والتي بدت منتزعة من سياقها الدرامي لمصلحة الاحتفاء بالرقص والغناء الجماعي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة